أداء العمل بشوقٍ وتفاعل
ورد في حديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله إنّه قال: «رُبَّ صَائِمٍ حَظُّهُ مِنْ صِيَامِهِ الْجُوعُ وَالْعَطَشُ، وَرُبَّ قَائِمٍ حَظُّهُ مِنْ قِيَامِهِ السَّهَرُ»[(1)].
يتفاوت الناس في مستويات أدائهم لأعمالهم، وفي تفاعلهم مع القيام بوظائفهم التي يلتزمون بها على أنحاء:
1ـ فهناك من يؤدّي عمله تحت ضغط الإلزام، دون رغبةٍ واندفاعٍ نفسيّ، بحيث لو استطاع التخلّص منه لما قام به، فنلاحظ في بعض الأحيان مثلاً: إن تلاميذ الصفوف الأولى حينما يحين وقت ذهابهم للمدرسة، تراهم يبحثون عن حجج واهيّة، وأعذار وهميّة، من أجل تبرير عدم ذهابهم، وإن ذهبوا يذهبون متثاقلين على غير رغبة؛ والحال كذلك عند بعض الموظفين؛ حيث يكونون أشبه بالمكره الذي لا رغبة لديه في العمل الذي أكره عليه، بحيث لو تمكّن من التخلّص لما ذهب.
وهذا الأمر لا يقتصر على الواجبات الوظيفيّة، بل يشمل حتّى الوظائف العباديّة الدينيّة، فنرى من يؤدون عباداتهم من دون رغبة واندفاع، على طريقة مجبر أخاك لا بطل.
وقد تحدّث القرآن الكريم عن فريق من الذين يتلبسون بهذه الصفة، في موقفهم حول فريضة الجهاد، حينما دعاهم الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله في معركة بدر حيث يقول تعالى:
﴿كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ؛ يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُون﴾[(2)].
وفي آية أخرى يقول تعالى: ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ...﴾[(3)].
ولا تقتصر المسألة على موضوعة الجهاد فقط، حيث ربما يكون الخروج إلىه محفوفاً بالمخاطر، لكنا نجد إن البعض ممن لا يكون الإيمان عميقاً في نفسه يوسّع دائرة تردّده وتقاعسه إلى عموم العبادات الأخرى، فقد تحدّث القرآن الكريم عن حالة البعض ممن يقيم فريضة الصلاة وممارسة الإنفاق بكسل وتثاقل، يقول تعالى: ﴿وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسالى وَلا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كارِهُون﴾[(4)].
2ـ وهناك من يؤدّي عمله لكن في حدوده الدنيا بحيث يصدق عليه إنّه مارس وظيفته الحياتيّة أو اليوميّة، فحينما يريد أن يمتثل لفريضة الصوم مثلاً يأخذ حدّها الأدنى الذي يصدق من خلاله عليها وصف الصوم وهو: الاجتناب عن المفطرات، وقد وصف رسول الله صلى الله عليه وآله مثل هذه الحالة بقوله كما ورد عنه: «إِنَّ أَيْسَرَ مَا افْتَرَضَ اللَّهُ عَلَى الصَّائِمِ فِي صِيَامِهِ تَرْكُ الطَّعَامِ وَ الشَّرَابِ»[(5)].
ونلاحظ هذا المستوى من الأداء في فريضة الصلاة أيضاً؛ فترى بعض المكلّفين يبحثون عن الحدّ الأدنى من الواجب فيها.
3ـ وهناك من يؤدّي عمله من حيث الشكل بإتقان، لكن لا يصحبه تفاعل نفسي، ولا تفكير في استثمار العمل.
4- أما الحالة الأفضل والمستوى الطموح الذي ينبغي أن يتطلّع إليه الإنسان في كلّ عمل من أعماله، أن يؤدّيه برغبة وتفاعل وتفكير في استثماره، فصرف الوقت والجهد يقتضي الاهتمام بالعمل وترقيته إلى أعلى مستوى.
فالطالب حينما يحصل على بعثة دراسيّة فإن الفرص التي أمامه كثيرة جداً؛ لكن البعض يكتفي بالحدّ الأدنى من الدرجات الامتحانيّة، بحيث يضع نفسه في دائرة المستحقين للمكافئة التي تدفعها الملحقيّة الثقافيّة وفي إطار ضوابطها، لكن البعض من المبتعثين يمتلك عشقاً واهتماماً باستثمار تواجده في المنطقة التي ابتعث فيها؛ فما دام يتواجد في دولة متقدّمة علمياً وحضارياً، فلماذا لا يستثمر وقته، ويصرف همته، في الاهتمام الأكبر بدراسته وتنمية قدراته المختلفة.
فحينما يأتي الإنسان إلى صلاة الجماعة ويصرف وقتاً من أجلها، فعليه أن يفكّر في كيفية استثمار وقته الذي صرفه في هذا المجال، على المستوى النفسي، والروحي، والمعرفي والاجتماعيّ...، وهكذا في مختلف المجالات كالسفر مثلاً؛ فبعض الناس يصرف أموالاً طائلة للسفر والسياحة لكنه يقصر سفره على النوم والأكل فقط، من دون أن يستفيد من سفره بأن يكسب أشياء جديدة، وأصدقاء جدداً.
ينبغي أن تكون عند الإنسان هذه الروحيّة في كلّ عمل من الأعمال التي يؤدّيها، أن يتفاعل نفسيّاً مع العمل وأن يستثمره بأعلى حدّ ممكن.
وفي رحاب فريضة الصيام علينا أن نلاحظ كيفيّة التوجيه الذي تقدّمه التعاليم الدينيّة حول هذه الفريضة، فعندما يصوم الإنسان، ويصرف جهداً، ويمتنع عن الأكل والشرب والرغبات، فلابد من استثمار ذلك، وعدم جعلها تمرّ دون فائدة مناسبة، ومن هنا جاءت النصوص التي وصفت حظّ بعض الصائمين بالجوع والعطش، من دون تفاعل نفسي، وسيكولوجي مع الحدث الذي يمرّ به، ومن دون استثمار للفرصة التي يمرّ بها، وهكذا بالنسبة للمصليّ الذي يؤدّي العبادة كشكلٍ دون أن يرافقها تمعّن ومضمون.
إن التوجيهات الدينية تدفع الإنسان لأداء فريضة الصوم ـ وغيرها من الفرائض الأخرى ـ بأفضل وجه، وتوضح الآليّة لذلك؛ حيث تحدّثت النصوص عن آداب الصيام والآفاق التي يمكن أن يستثمرها المكلّف من خلال هذه الفريضة، فقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله إنّه قال: « الصَّوْمُ لِي، وَأَنَا أَجْزِي عَلَيْهِ»[(6)].
وبذلك يخرج الصوم من دائرة الرياء حيث إنّه التزام ذاتي بين المكلّف وبين خالقه، وقد ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام: «الصَّوْمُ عِبَادَةٌ بَيْنَ العَبْدِ وخَالِقِهِ، لاَ يَطَّلِعُ عَلَيْهَا غَيْرهُ، وَكَذَلِكَ لاَ يُجازِي عَنْهَا غَيْرهُ»[(7)].
وورد عن الإمام الصادق عليه السلام: «إِنَّ الصَّائِمَ مِنْكُمْ لَيَرْتَعُ فِي رِيَاضِ الْجَنَّةِ تَدْعُو لَهُ الْمَلَائِكَةُ حَتّى يُفْطِرَ»[(8)].
ومجمل القول: ما دام الإنسان يعيش هذه الحالة فلابد أن يستثمرها ويستفيد منها، وقد ورد عن سيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء عليه السلام إنها قالت: «مَا يَصْنَعُ الصَّائِمُ بِصِيَامِهِ إِذَا لَمْ يَصُنْ لِسَانَهُ وَ سَمْعَهُ وَ بَصَرَهُ وَ جَوَارِحَه»[(9)].
وفي مستوى متقدم توجّهنا النصوص إلى انعكاس هذه الفريضة على فكر الإنسان ومشاعره وأحاسيسه، وهو المستوى الأرقى والأكمل، وقد ورد عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام إنّه قال: «صِيَامُ الْقَلْبِ عَنِ الْفِكْرِ فِي الْآثَامِ أَفْضَلُ مِنْ صِيَامِ الْبَطْنِ عَنِ الطَّعَامِ»[(10)].
فعلى الإنسان أن يبعد قلبه عن التفكير في الذنوب والمعاصي، وهذه ناحية مهمة إذ يطلق الإنسان في بعض الأحيان لفكره العنان في التفكير ببعض المعاصي والشرع لا يحرّم هذا التفكير بمجرّده، لكن من الواضح إن ذلك قد يفضي إلى ولادة نفسيّة سلبيّة عند الإنسان، حيث تنخفض عنده درجة المناعة، ويصبح اقرب للوقوع في شبك ا لمعصية، من هنا ورد ضرورة الابتعاد عن التفكير بالذنوب، كأن يفكّر في ممارسة موبقة معينة مثلاً؛ فإن أصل التفكير بهذه الموبقة عمل ينبغي الابتعاد عنه وذلك لما قاله عليّ عليه السلام فيما روي عنه: «مَنْ كَثُرَ فِكْرُهُ فِي الْمَعَاصِي دَعَتْهُ إِلَيْهَا»[(11)].
وفي كلمة أخرى: « مَنْ كَثُرَ فِكْرُهُ فِي اللَّذَّاتِ غَلَبَتْ عَلَيْهِ»[(12)].
وهذه كلمات رائعة تمثّل خلاصة للحقائق والتجارب الإنسانيّة، وعلى الإنسان أن ينصاع لها، ويربّي نفسه عليه، وفي هذا الشهر الكريم علينا أن نمارس لا صوم الطعام والشراب فقط، وإنما صوم الجوارح عن بقيّة المحرّمات كالغيبة والنميمة والاستماع إلى ما يحرم، والمستوى الأرقى من الصوم هو صوم القلب عن التفكير في الآثام والمعاصي. ورد عن عليّ عليه السلام: «صَوْمُ الْقَلْبِ خَيْرٌ مِنْ صِيَامِ اللِّسَانِ وَصِيَامُ اللِّسَانِ خَيْرٌ مِنْ صِيَامِ الْبَطْن»[(13)].