كيف تقرّر لنفسك وتحترم قرارك
روي عن الإمام محمد بن جعفر الصادق عليه السلام إنّه قال: «إِيَّاكَ أَنْ تَفْرِضَ عَلَى نَفْسِكَ فَرِيضَةً فَتُفَارِقَهَا اثْنَيْ عَشَرَ هِلَالًا»[1] .
الإلزامات الخارجيّة وأنحاء الانصياع لها
التزام الإنسان بالقرارات إمّا أن ينبع من مصدر خارجيّ، وإمّا أن يكون من مصدر داخليّ، ويختلف المصدر الخارجي، وتتنوّع اسباب الانصياع له؛ فربما يلتزم الإنسان بالقرار الذي تتخذه عليه جهة عليا، إمّا لكونه يهابها أو يحترمها.
والإنسان المؤمن حريص على الالتزام بما قرّره خالقه ورازقه تعالى عليه؛ حيث أمره بمجموعة من الأوامر، وطلب منه الابتعاد والكفّ عن مجموعة من النواهي، ولا شكّ إن امتثال الإنسان يأتي من حيثية شكره لربه، ورجائه لثوابه، أو حذراً من سخطه وعقابه.
وربما يلزم الإنسان نفسه ببعض الأعمال والقرارات بسبب التزام ناتج من عادات وأعراف اجتماعيّة، فالمجتمع لا يخلو من الأعراف والالتزامات المتداولة التي تلزم الإنسان بمثل هذه الواجبات، فيكون أداؤها استجابة لالتزام خارجيّ عرفي حتى وإن لم يكن منسجماً معها نفسيّاً.
وربما يكون قد سنّ له عادة في المجتمع كأن يكون له مجلس أو برنامج معين وحين يتركه تُطرح تساؤلات مجتمعيّة من هنا وهناك عن سبب إحجامه عن تلك العادة والبرنامج، ودفعاً لهذه الأمور يرى نفسه ملزماً.
والخلاصة: إن القرارات في هذه الحالات جميعاً تأتي من جهة خارجيّة، بغض النظر عن كونها جهة عليا، أو جهة يهابها، أو يحترمها، أو عرفاً اجتماعيّاً.
الإلزامات الداخليّة حالة راقية
وهناك حالة تعد أرقى من الحالة المتقدّمة، وهي: التزام الانسان بالقرارات المنبعثة من داخله، فهو الذي يقرّر لنفسه ويضع برامج لها، وهذه الحالة لا يمارسها معظم الناس بل ينتظرون الزامات خارجة عن ذاتهم، فإن جاءت فبها ونعمت، وإلا فيبقون يعيشون حياة سائبةً بلا مبالاة في مختلف الجوانب التي لم يتدخّل أحد في الزامهم ضمنها، والحالة المثاليّة التي ينبغي أن تكون هي: إن على الإنسان أن ينظّم ذاته، ويتخذ قراراته بنفسه، وهو الذي يبرمج لنفسه نظاماً غذائيّاً، ويبرمج له ساعات نوم واستيقاظ معيّنة، وهو الذي يقرّر لنفسه بعض العادات الخاصّة كالرياضية بأنواعها مثلاً، كما ويقرّر لنفسه في مجال الثقافة والمعرفة وقتاً محدّداً للمطالعة وللكتابة، وهذا النوع من القرارات التي يتخذها الإنسان لنفسه هو المستوى الأفضل، ولا يدع المجال لغيره أن يقرّر له في مثل هذه الميادين التي تخصّه وترتبط به، وعلى الإنسان أن يتخذ لنفسه برامج وقرارات.
ولعل السرّ الذي يجعل الإنسان بعيداً عن اتخاذ قرارات من هذا القبيل لنفسه هو: اللا مبالاة تجاه نفسه، وأمّا الإنسان الذي لديه اهتمام بنفسه وصحّته وثقافته فإنه يقرّر لها برامج، ويفكّر في تطوير أفقه وكفاءاته وقدراته ومواهبه، وفي أن يرتقي بنفسه في هذا المجال أو ذاك، إدراكاً منه أنه: «مَنِ اسْتَوَى يَوْمَاهُ فَهُوَ مَغْبُونٌ»[2] على حد تعبير الامام علي .
وهناك قسم من الناس لا يملك إرادة الالتزام بقرارات نفسه، تجده يلتزم بأوقات الدوام الوظيفيّة ولا يتجاوزها لوجود بصمة الكترونيّة مثلاً، لكنّه لا يجد إرادة في نفسه تجعله ينهض مبكراً قبل ساعات دوامه الوظيفيّة لممارسة رياضة المشي من أجل صحّته وسلامته، وإذا قرّر البعض ذلك إلا أن التزامه يتميّع يوماً بعد يوم حتى ينتهي القرار دون تطبيق، وفي بعض الأحيان يقرّر الإنسان لنفسه قراراً ثم يتركه.
وربما تسأل البعض عن السبب الذي يبعده عن القراءة، فيجيبك على الفور إنّه كان ملتزماً بالمطالعة لكنه تركها هذه الفترة لأسباب ما، وقد تسأل البعض عن سبب عدم ممارسته للرياضة في هذه الأوقات، فيجيبك بأنه قد مارسها في الفترات السابقة لكن التكاسل والضجر منعه من الاستمرار على ذلك.
ينبغي على الإنسان أن يحترم نفسه، ولا يجعل التزامه مخصوصاً بالقرار الذي يصدره الغير له، فإن الإنسان الذي لا يلتزم بقرار نفسه على نفسه لا يحترم نفسه، وقد روي عن الإمام علي عليه السلام:
«مَنْ هَانَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ فَلَا تَرْجُ خَيْرَهُ»[3] .
وهذا النصّ يرمي الإشارة إلى إن الإنسان الذي لا يحترم نفسه وقراراتها فلا ينبغي أن يُتوقّع منه خيراً وعطاءً، فمن لا يحسن لنفسه كيف يمكن أن يحسن لغيره.
من هنا نجد إن العظماء والمتميّزين في هذه الحياة يتحلّون بهذه الصفة، حيث يقرّرون على أنفسهم قرارات ويلتزمون بها ما لم تستجد لهم بعض المستجدات التي تحدو بهم إلى تغيير هذا القرار نحو الأفضل، وليس ذلك تسيّباً وملّلاً كما هو شأن الكثير.
شواهد للاقتداء:
ينقل عن الشيخ محمد حسن النجفي (1192 - 1266 هـ) صاحب كتاب الجواهر -الذي يُعدّ كتابه مرجعاً فقهيّاً مهمّاً لفقهاء الطائفة في العصور المتأخرة ـ إنّه قرّر على نفسه أن يكتب عدداً معيّناً من الصفحات في تأليفه كل يوم، وحين توفيّ ولد له، لم يترك القلم حتى عند جنازة ولده، حيث جلس يبكي ولده والقلم بيده.
وينقل عن فقيه آخر هو السيد حسين القمّي إنّه كان ملتزماً بممارسة التدريس حتى في أثناء سفره حيث يصطحب معه مجموعة من طلاب بحثه لممارسة هذا النشاط العلمي حتى في أثناء السفر.
وكان المرجع السيد محمد الشيرازي يكرّر كلمة في كثير من جلساته يقول فيها: «إذا غاب إمام الجماعة عن الصلاة فأذهبوا إلى عيادته، وإذا غاب المدرّس عن درسه فأذهبوا إلى تشييع جنازته»، مع إن الدراسة الحوزويّة لم تكن وظيفة والتزاماً وإنما كانت ممارسة تطوعيّة.
هكذا ينبغي للإنسان أن يلتزم بما يقرّره لنفسه، وإذا أراد أن يغيّر القرار فليكن لما هو أفضل وعليه أن لا يسمح لنفسه التساهل في القرارات التي اتخذها.
وفي رواية عن الإمام الصادق عليه السلام: «إِذَا كَانَ الرَّجُلُ عَلَى عَمَلٍ فَلْيَدُمْ عَلَيْهِ سَنَةً ثُمَّ يَتَحَوَّلُ عَنْهُ إِنْ شَاءَ إِلَى غَيْرِه...»[4] .
فالتحوّل ينبغي أن يستند إلى قرار لا أن يكون ناشئاً من كسلٍ وملّلٍ.
وهناك روايات كثيرة في هذا السياق، تريد أن تربّي في الإنسان المؤمن شخصيّة قويّة يحترم نفسه ووجوده، ويستثمر حياته بأفضل صورة وطريقة، وعلينا ونحن نعيش شهر الطاعة والعبادة أن نتخذ فيه قرارات الخير، فإن من أفضل الأعمال التطوّع بخصلة من خصال الخير كما ورد عن أبي جعفر عليه السلام قال : خطب رسول الله صلى الله عليه وآله في آخر جمعة من شعبان فحمد الله وأثنى عليه ـ إلى أن يقول ـ وجعل لمن تطوع فيه بخصلة من خصال الخير والبر كأجر من أدى فريضة من فرائض الله عز وجل[5] .
وعلى الإنسان أن لا تكون قراراته في مختلف المجالات وقتيّة وحماسيّة لا تلبث أن تخبو وتفقد جذوتها، وإنما عليه أن يتخذ القرار الذي يداوم عليه، وكما ورد في كلام علي :
«قَلِيلٌ يَدُومُ خَيْرٌ مِنْ كَثِيرٍ مُنْقَطِع»[6] .