لماذا خلق الله النار؟
رويّ عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام إنّه قال: «إِذَا كَانَ أَوَّلُ لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ: غَفَرَ اللَّهُ لِمَنْ شَاءَ مِنَ الْخَلْقِ؛ فَإِذَا كَانَتِ اللَّيْلَةُ الَّتِي تَلِيهَا ضَاعَفَهُمْ؛ فَإِذَا كَانَتِ اللَّيْلَةُ الَّتِي تَلِيهَا ضَاعَفَ كُلَّ مَا أَعْتَقَ؛ حَتَّى آخِرَ لَيْلَةٍ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ تُضَاعَفُ مِثْلَ مَا أَعْتَقَ فِي كُلِّ لَيْلَة»[1] .
أكبر همّ يحمله الإنسان المؤمن هو: همّ النجاة من النار والخلاص من عذاب الآخرة؛ وذلك لأنّ أيّ عذاب أو ألم دنيويّ، لا يوازي عذاب الآخرة، لا من حيث الشدّة، ولا من حيث المدّة، من هنا جاء عن أمير المؤمنين عليه السلام إنّه قال:
«... ِمَا شَرٌّ بِشَرٍّ بَعْدَهُ الْجَنَّةُ، وَمَا خَيْرٌ بِخَيْرٍ بَعْدَهُ النَّارُ، وَكُلُّ نَعِيمٍ دُونَ الْجَنَّةِ مَحْقُورٌ، وَكُلُّ بَلَاءٍ دُونَ النَّارِ عَافِيَةٌ...» [2] .
وفي شهر رمضان تجد لهذا الهمّ حضوراً دائماً في نفس الإنسان المؤمن، ولذلك يكرّر المؤمن الدعاء بقوله: «اللهم أجعلنا في هذا الشهر الشريف من عتقائك من جهنم وطلقائك من النار».
لماذا خلق الله النار؟!
ومن هنا فقد يتساءل البعض: لماذا الله خلق النار والعذاب في الآخرة، مع كون سماته وصفاته الغالبة هي الرحمة والغفران والتفضّل على خلقه؟!
سيقتصر حديثنا عن أمرين في هذا الجانب ونترك الحديث في ذلك إلى دراسات أعمق:
الأمر الأوّل: إن مقتضى العدالة التي يحكم بها العقل، هي التفريق بين المحسن والمسيء؛ وحينما لا تجري العدالة على المجرمين والظالمين في هذه الدنيا ـ كما هو الغالب ـ فلابد من وجود نشأة أخرى، ترجع فيها الأمور إلى نصابها، ويقتصّ من المجرمين والظالمين وهي نشأة الآخرة، كما وعدت بها العدالة الإلهيّة، ومع عدم وجود عقاب وحساب فيها، فسوف تختل هذه العدالة الإلهيّة، وتوضع في دائرة الاستفهام.
الأمر الثاني: إن وجود العذاب والنار، يعتبر دافعاً للإنسان نحو الكمال؛ لأن شعور الإنسان بهذا الخطر يدفعه للسير في طريق الخير والصلاح؛ فإن طبيعة الإنسان مصمّمة بهذا النحو، إذ يندفع الإنسان في الغالب وفقاً للرهبة أو الرغبة.
وبعبارة أوضح: إن وجود الجنّة والنار يُذكي في الإنسان الدافع الداخليّ، والالتزام السلوكيّ، بينا إذا فرضنا عدم وجود الثواب والعقاب هناك، فلا دافع للإنسان نحو هذا الاتجاه أو ذاك، أمّا الالتزام بالمبادئ والسير على أساسها انقطاعا إلى الله وعشقا لعظمته، فهو محصورٌ بأفراد نوادر وأفذاذ في هذه الحياة، كأمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام الذي يصف عبادته لخالقه بالقول: «مَا عَبَدْتُكَ خَوْفاً مِنْ نَارِكَ وَلَا طَمَعاً فِي جَنَّتِكَ لَكِنْ وَجَدْتُكَ أَهْلًا لِلْعِبَادَةِ فَعَبَدْتُك»[3] .
إن عدم وجود حساب وعقاب، يعني تحوّل الحياة إلى عبث، كما صرّحت بذلك الآيات القرآنيّة الكريمة، يقول تعالى: ﴿أَ فَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ﴾[4] .
ومع كلّ ما تقدّم من مبرّرات لخلق النار، والوعيد بها، إلا أنها لم تُخلق من أجل التشفيّ والانتقام؛ فهذه المفاهيم بعيدة كلّ البعد عن ساحة عزّه وجلاله، فهو رحمة مطلقة بكلّ ما تحمل هذه الكلمة من معاني، وإذا ما وردت في القرآن الكريم آيات تدلّ على ذلك من قبيل قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعينَ﴾[5] .
فهي على سبيل المجاز لا الحقيقة، وترمي مراماً آخر أجاب العلماء عنه مفصّلاً في بحوثهم التفسيريّة؛ إذ يستحيل التشفّي والانتقام بالمعنى البشريّ المتعارف في حقّه تعالى.
وجود النار بين الحقيقة والخيال
بقيّ شيء لابد من الإشارة إليه في سياق هذه المسألة الهامّة هو: هل إن النار حقيقة أم خيال؟
ذهب البعض من الفلاسفة ـ المتأثرين بالنزعة الماديّة ـ إلى أن وجود النار مفهوم وهميّ ابتدعه الأنبياء والرسل، بغية تحفيز الناس على الطاعة، واجتناب المعصيّة، وهو غاية نبيلة، كما في تخويف العائلة أطفالها بموجودات وهميّة كالغول مثلاً، وحينما يسمع الطفل بهذه المفردات سوف تصيبه حالة من الهلع والخوف.
لكن هذا الكلام ليس سليماً؛ لأنّا نعتقد بصدق الأنبياء ونزاهتهم، ولا يمكن القبول بكذب الأنبياء في هذه المسألة، حيث إن احتمال كذبهم فيها يسري في بقيّة المسائل، ومع جريان هذا الاحتمال إلى بقيّة المسائل فكيف تتحقق الثقة بهم، وبما ينقلونه عن الله تعالى في مختلف الامور؟
إن الأنبياء لا يتوسلون بالكذب والأوهام من أجل تمرير دعواتهم ورسالتهم، والحقّ الذي بعثوا من أجله، وهذا الأمر منهيّ عنه حتى بالنسبة للإنسان العاديّ الذي يتحاور مع خصم له؛ فلا ينبغي له الركون إلى منطق ميكافيلي يقرّر إن الغاية تبرّر الوسيلة من أجل إثبات قناعاته، وإذا كان الأمر كذلك فكيف يمكن الذهاب إلى وصف انبياء الله ورسله بذلك؟!
وحقيقة القول: إن النار وجود واقعيّ قائم، لا يمكن وصفه بالوهم والخيال، وقد نصّ القرآن الكريم على هذه الحقيقة قائلاً: ﴿وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَ حَقٌّ هُوَ قُلْ إي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزينَ﴾[6] .
وكذا ما جاء في آيات أخرى من التنصيص على هذه الحقيقة حيث قال: ﴿إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ؛ ما لَهُ مِنْ دافِعٍ﴾[7] .
باب التوبة مفتوح
ومع كون النار حقّ وحقيقة، لكن الله سبحانه وتعالى فتح باب الخلاص من النار أمام عباده، لذا يجد الإنسان اسم الجلالة مقروناً بالرحمة والرحمانيّة بنحو دائم فيقول: بسم الله الرحمن الرحيم، وهذه الصفّة يجري التأكيد عليها لكي يعرف الإنسان إن الله رحيم به، ولا يريد به العذاب، وكما قال تعالى: ﴿ما يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكانَ اللَّهُ شاكِراً عَليماً﴾[8] .
العذاب ظاهرة استثنائيّة
ليس العذاب ـ كما يبدو ذلك من مجمل النصوص الدينيّة ـ ظاهرة عامّة تلحق بني البشر بمجموعهم، وإنما هي ظاهرة استثنائيّة خاصّة تشمل البعض منهم؛ إذ إن الله سبحانه وتعالى خلق الخلق ليرحمهم لا ليعذبهم، قال تعالى: ﴿ قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً﴾[9] .
كما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله إنّه قال: « أن لله تعالى مائة رحمة، وأنه أنزل منها رحمة واحدة إلى الأرض فقسّمها بين خلقه، فيها يتعاطفون وبها يتراحمون، وأخر تسعاً وتسعين رحمة لنفسه، بها يرحم عباده يوم القيمة»[10] .
عجز العقل عن إدراك تفاصيل القيامة
وعلينا الإشارة إلى أن تفاصيل الأحداث في يوم القيامة، والمواقف التي تمرّ على الناس فيها، من الصراط، وتطاير الكتب، ودرجات الجّنة، ودركات النار، وطُرق التنعيم والتعذيب، إنما نستقيها من الوحي والنصوص الدينيّة، ولا مجال للعقل إليها على الإطلاق، كما نصّ على ذلك كبار الفلاسفة.
قال ابن سينا: «يجب أن يعلم أن المعاد منه ما هو منقول من الشرع ولا سبيل إلى إثباته إلا من طريق الشريعة وتصديق خبر النبوة وهو الذي للبدن عند البعث»[11] .
رحمة الله واسعة لكلّ شيء
أجل؛ الرحمة الإلهيّة شاملة لكلّ الموجودات؛ فلنصغ إلى رواية وردت عن الإمام الصادق عليه السلام تؤكّد هذه الحقيقة قال فيها: «إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ نَشَرَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى رَحْمَتَهُ حَتَّى يَطْمَعَ إِبْلِيسُ فِي رَحْمَتِه»[12] .
وهذه النصوص تؤكّد على كون العذاب والنار استثناء، وليست القاعدة التي تسير عليها الأحداث في يوم القيامة، وهذا ما يعبّر عنه في بعض الدراسات العرفانيّة بحكومة بعض الأسماء الإلهيّة على بعضها الآخر؛ حيث إن الرحمانيّة والرحيميّة الإلهيّة تكون حاكمة وقاهرة على اسم المنتقم المعذّب وغيرها من الصفات الإلهيّة في هذا السياق.
وفي إطار التدليل على هذه الفكرة ننقل نصّاً جاء عن الإمام علي بن الحسين عليه السلام حيث قيل له: «إِنَّ الْحَسَنَ الْبَصْرِيَّ قَالَ: لَيْسَ الْعَجَبُ مِمَّنْ هَلَكَ كَيْفَ هَلَكَ وَإِنَّمَا الْعَجَبُ مِمَّنْ نَجَا كَيْفَ نَجَا.
فَقَالَ عليه السلام: أَنَا أَقُولُ لَيْسَ الْعَجَبُ مِمَّنْ نَجَا كَيْفَ نَجَا وَإِنَّمَا الْعَجَبُ مِمَّنْ هَلَكَ كَيْفَ هَلَكَ مَعَ سَعَةِ رَحْمَةِ اللَّهِ»[13] .
وقال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ...﴾ [14] .
والاعتقاد برحمة الله يدفع الإنسان نحو التوازن والعيش بين حالتي الخوف والرجاء، فلا ينبغي الانغماس في المعاصي بحجة الرحمة الإلهيّة، وممارسة الرذائل الأخلاقيّة، والابتعاد عن الأوامر الدينية، وما هذا إلا تمرّداً وعصياناً للتعاليم الإلهيّة.
ومن هنا ورد عن الإمام الصادق عليه السلام القول: «ارْجُ اللَّهَ رَجَاءً لَا يُجَرِّئُكَ عَلَى مَعَاصِيهِ، وَخَفِ اللَّهَ خَوْفاً لَا يُؤْيِسُكَ مِنْ رَحْمَتِهِ»[15] .
ويكفي أن ندلّل على انفتاح باب الرحمة الإلهيّة من خلال موضوع الشفاعة، الذي فتحه الله للمذنبين الذين تجاوزوا الحدود الإلهيّة، وظلموا أنفسهم بالتمرّد على طاعته؛ فالأنبياء والشهداء والعلماء يشفعون، بل المؤمن العادي يشفع أيضاً كما ورد عن الإمام الباقر : «... إِنَّ الْمُؤْمِنَ لَيَشْفَعُ فِي مِثْلِ رَبِيعَةَ وَ مُضَر»[16] .
ونختتم حديثا حول الشفاعة بما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله حيث قال: «يَقُولُ الرَّجُلُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَيْ رَبِّ عَبْدُكَ فُلَانٌ سَقَانِي شَرْبَةً مِنْ مَاءٍ فِي الدُّنْيَا فَشَفِّعْنِي فِيهِ؟
فَيَقُولُ: اذْهَبْ فَأَخْرِجْهُ مِنَ النَّارِ.
فَيَذْهَبُ فَيَتَجَسَّسُ فِي النَّارِ حَتَّى يُخْرِجَهُ مِنْهَا»[17] .
وقال صلى الله عليه وآله أيضاً: «إِنَّ مِنْ أُمَّتِي مَنْ سَيُدْخِلُ اللَّهُ الْجَنَّةَ بِشَفَاعَتِهِ أَكْثَرَ مِنْ مُضَر»[18] .
وما دمنا في شهر رمضان فعلى الجميع أن يعرف إن أبواب الرحمة مفتوحة فيه بلا حدود، فعلى الإنسان المؤمن الذي يحمل همّ الانعتاق من العذاب، والخلاص من النار، أن يستثمر فرصة هذا الشهر الكريم ليحقّق أمنياته وآماله، فهو شهر العتق والغفران «بالجملة»، ورد عنه صلى الله عليه وآله: « إِنَّ لِلَّهِ عَزَّ وَ جَلَّ فِي كُلِّ جُمُعَةٍ سِتَّ مِائَةِ أَلْفِ عَتِيقٍ مِنَ النَّارِ كُلُّهُمْ قَدِ اسْتَوْجَبَ النَّارَ»[19] .
على أن الأرقام الواردة في بعض النصوص الدينيّة هي لإيضاح الكثرة فقط وليست مقصودة بذاتها.
وخلاصة القول: إن الغفران والدخول إلى الرحمة الإلهيّة في هذا الشهر الكريم في متناول الجميع، ولا يتطلّب سوى التوبة والإنابة إلى الله عزّ وجلّ، بنيّة صادقة، وحسن سريرة، كما نوهّت لذلك النصوص الدينيّة الشريفة.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا وإياكم في هذا الشهر الكريم من عتقائه من جهنم وطلقائه من النار، اللهم إن لم تكن قد غفرت لنا فيما مضى من شهر رمضان فأغفر لنا فيما بقي منه.