الحفاظ على المكاسب
﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُم﴾[1] .
حينما يبذل الإنسان جهداً لنيل مكسبٍ من المكاسب، ويتحقّق له ذلك، فعليه حينئذٍ الحفاظ على هذا المكسب؛ فإن نيل المكسب شيء، والحفاظ عليه شيء آخر، إن كثيراً من الناس ينالون مكاسب إلا أنهم يفرّطون فيها، فما يلبث ذلك المكسب حتى تقلّ قيمته عند الإنسان ويقلّ اهتمامه به، وهكذا يتبخّر بعد أن صرف جهداً حتى وصل إليه.
إن مهمة الحفاظ على المكسب صعبة للغاية، وقد ورد عن الإمام الباقر عليه السلام إنّه قال: «الْإِبْقَاءُ عَلَى الْعَمَلِ أَشَدُّ مِنَ الْعَمَلِ»[2] .
والحفاظ على المكسب ـ مهما كانت حقيقته وسنخه ـ إنما يتلّخص بتفعيله ومراكمته، وفي حالة فقدان ذلك، فلا شكّ أن التلاشي والضمور سيكون مصير هذا المكسب الذي بذل الإنسان لنيله الكثير من التضحيات، لذا كان من الواجب على الإنسان التفكير بالحفاظ على كلّ مكسب من المكاسب.
في هذا السياق: نصّت الآية الكريمة بقوله تعالى: ﴿وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُم﴾ على عدم إبطال الأعمال الحسنة التي يقوم بها الإنسان، وعليه الحفاظ عليها، وتفعيلها، وتكثيرها، كي يحترم الجهد الذي بذله من أجل الوصول إلىها، وحتى يكون كل مكسب خطوة أمام الإنسان لمكاسب أخرى متقدّمة، وهذا ما يربّي الإسلام الإنسان عليه.
وبغية التذكير بنماذج لهذه المكاسب، سنحاول استعراض نماذج نوعية من المكاسب التي قد يحصل عليها الإنسان في مسيرة حياته.
المكسب المعرفيّ
حينما يتعلّم الإنسان علماً من العلوم، لابد من الحفاظ عليه، وتفعيله في داخله، إمّا من خلال تطويره، والتفكير فيه، وإمّا من خلال نشره وبثه، إذ دون ذلك سوف يتميّع هذا العلم في داخله. وقد أوضحت النصوص الدينيّة بعض الآليّات لتفعيل العلم والحفاظ عليه، فطرحت موضوع «تقييد العلم»، حيث ورد عن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله أنه قال: «... قَيِّدُوا الْعِلْمَ. قِيلَ: وَمَا تَقْيِيدُهُ؟ قَالَ: كِتَابَتُهُ»[3] .
وكما قال الشاعر:
العِلمُ صَيدٌ والكِـــــــتابةُ قَيدُهُ قَيِّدْ صيودكَ بالحِـــبالِ الواثِقَة
فَمِن الحَماقَةِ أَنْ تَصيدَ غَزالَةً وتَفكها بَينَ الخَلائقِ طالِقةَ[4] .
أمّا تفعيل العلم فله آليّات متعدّدة أشارت النصوص الدينيّة إلى بعضها من قبيل ما ورد عن علي أنه قال: «زَكَاةُ الْعِلْمِ نَشْرُهُ»[5] ، فممارسة العلم والدربة فيه ونشره، آليّة من الآليّات المتبعة في تطويره وتفعيله.
والملاحظ: إن جميع النصوص الدينيّة تدفع الإنسان نحو اللا تفريط في المعرفة بعد اكتسابها؛ فتجد إن بعض الناس حينما يتعلّم لغة من اللغات مثلاً، ويصرف وقتاً طويلاً من أجل ذلك، فلا يفكّر في كيفيّة الحفاظ علىها؛ من خلال القراءة والاستماع، والكتابة والمحادثة، وهذا نموذج من النماذج المعرفيّة.
وفي هذا السياق تؤكد نصوص دينية على كراهيّة نسيان الإنسان شيئاً من القرآن كان قد حفظه؛ فإذا حفظ نصّاً قرآنيّاً فعليه أن يحافظ عليه، ويداوم الاستمرار على ذلك. وهكذا في مختلف مجالات العلم والمعرفة.
المكاسب الصحيّة
كما أن المكاسب الصحّية كذلك أيضاً؛ فتجد إن بعض الناس يتجاوز برنامجاً علاجيّاً معيّناً بإجراء عمليّة جراحيّة مثلاً، لكنه سرعان ما يفرّط بهذا المكسب الصحّي، من خلال ممارسة نفس الأسباب التي أدّت إلى وقوعه في ذلك المرض، وبالتالي رجوعه للمربّع الأوّل، ومن هنا تجد النصائح التي يقدّمها الأطباء بعد نجاح العمليّة للمريض، وأن مرحلة ما بعد العمليّة لا تقلّ أهميّة عن نفس العمليّة، وعليه الحفاظ على هذا المكسب الصحيّ من خلال برنامج غذائيّ ودوائيّ معيّن.
أو تجد أن بعض الناس ينظّم له برنامج نحافة معيّن، من خلال رياضة أو تقييد نفسه في الأكل مثلاً، فيستجيب جسمه لهذا البرنامج، لكنه يعود بعد أيام من فاعليّة هذا البرنامج إلى عادته القديمة من الأكل الكثير وعدم التحرّك.
المكاسب الاقتصاديّة
وللمكاسب الاقتصاديّة مجال للحديث أيضاً؛ فإذا كان للإنسان ثروة فعليه أن لا يفرّط بها، بل يفعّلها وينميّها ويراكمها، ولعل في خطابات وتوجيهات أئمة الهدى عليهم السلام رافداً للإنسان في هذا الميدان؛ فها هو الإمام الصادق عليه السلام يخاطب معاذ بن كثير وقد رآه جالساً في المجلس عازفاً عن العمل قائلاً له:
«يَا مُعَاذُ أَ ضَعُفْتَ عَنِ التِّجَارَةِ أَوْ زَهِدْتَ فِيهَا؟
قُلْتُ: مَا ضَعُفْتُ عَنْهَا وَمَا زَهِدْتُ فِيهَا.
قَالَ: فَمَا لَكَ؟
قُلْتُ: َعِنْدِي مَالٌ كَثِيرٌ، وَهُوَ فِي يَدِي، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ عَلَيَّ شَيْءٌ، وَلَا أَرَانِي آكُلُهُ حَتَّى أَمُوتَ.
فَقَالَ: لَا تَتْرُكْهَا؛ فَإِنَّ تَرْكَهَا مَذْهَبَةٌ لِلْعَقْلِ، اسْعَ عَلَى عِيَالِكَ، وَإِيَّاكَ أَنْ يَكُونَ هُمُ السُّعَاةَ عَلَيْكَ»[6] .
وهكذا يقدّم النصّ مضموناً عالياً، يشكّل ركيزة حياتيّة مهمة بالنسبة للإنسان؛ فكلّما همّش الإنسان نفسه وأبعدها، فسوف تقلّ خبرته في الأمور الحياتيّة وتتضاءل، والمؤسف أننا نلاحظ انتشار ظاهرة التقاعد المبكّر بين الموظفين بغية الراحة والدِعة، مع أن هذا الإجراء غير مستحسن على الإطلاق، إلا في حالة ما إذا كان للإنسان عمل آخر يشغل نفسه فيه؛ فعلى الإنسان أن لا يفرّط في المكاسب التي حصل عليها بسهولة.
المكاسب الاجتماعيّة
وفي المكسب الاجتماعيّ تتمظهر القضيّة أيضاً؛ فقد تتهيّأ الظروف للإنسان لتكوين علاقات جيدة مع أشخاص وجهات، فتجد إنساناً يحاول تطويرها وتوسعتها، ونلاحظ آخر يتركها ويهملها، مع أن المفترض بالإنسان أن لا يفرّط بأيّ علاقة إنسانية وديّة، خصوصاً في هذا الزمن الذي لا يحتاج إلى وقت كثير وجهد كبير لتفعيل التواصل مع الآخرين، فها هي التكنولوجيا الحديثة توفّر لك الخدمة بضغطة زرّ واحدة.
جاء في الحديث المرويّ عن رسول الله صلى الله عليه واله إنّه قال: «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ حِفْظَ الْوُدِّ الْقَدِيمِ»[7] .
وعن علي : « أَعْجَزُ النَّاسِ مَنْ عَجَزَ عَنِ اكْتِسَابِ الْإِخْوَانِ، وَأَعْجَزُ مِنْهُ مَنْ ضَيَّعَ مَنْ ظَفِرَ بِهِ مِنْهُمْ»[8] . وقال أيضا: «من كرم المرء حفظه قديم إخوانه»[9] .
نعم؛ قد نجد إنساناً لا مزاج له في التواصل مع الأصدقاء الذين كسبهم في أيام دراسته وعمله مثلاً؛ وبمجرد أن تنتهي دراسته أو يغيّر عمله يقطع التواصل مع هؤلاء، غافلاً عن أن هؤلاء الأصدقاء مكسب ينفعه الحفاظ عليه، وعدم التفريط فيه؛ أو ما نلاحظه من قطع العلاقات على أساس الاختلاف في وجهات النظر مثلاً؛ كأن يكون الشخص في لجنة أو جمعية أو نادي رياضيّ فيقطع علاقاته مع زملائه وأقرانه في هذه التشكيلات بمجرّد انسحابه أو اختلافه معهم في الرأي؛ إن الإنسان يتطوّر في ارائه وأفكاره، وبالتالي تحصل له قناعات ربما تختلف عن قناعات زملائه واقرانه الذين تعايش معهم في الفترة السابقة، لكن التقاطع في الآراء ووجهات النظر لا ينبغي أن يعمّم حتى على مستوى العلاقات الاجتماعيّة والإنسانيّة، فإنها مكاسب لابد من الحفاظ عليها، والتفريط بها ليس إلا ضيق أفق وجهل، لا يقبله الإنسان الواعيّ لنفسه.
المكاسب الروحيّة
يمرّ على الإنسان شهر رمضان ويتعايش مع أجوائه الروحيّة من الصوم إلى صلاة الجماعة وقراءة القرآن والأدعيّة، ولا شكّ في كون هذه الأمور من المكاسب التي يحصل عليها الإنسان في هذا الشهر الكريم؛ حيث ترتفع المعنويّات، ومستوى القرب من الله سبحانه وتعالى، لكن المؤسف إن هذه المكاسب تنتهي عند البعض بمجرّد انقضاء هذا الشهر الكريم.
وهذا خطأ كبير؛ فالإبقاء على العمل أشدّ من العمل كما ورد في الحديث، وعلينا الحفاظ على المكاسب العظيمة التي حصلنا عليها في شهر رمضان، والتفكير في آليّة تفعيلها وتطويرها وتنميتها، كي يكون هذا الشهر الكريم منعطفاً في حياة الإنسان، ولابد أن يكون ما بعد الشهر الكريم غير ما قبله؛ وذلك بالحفاظ على المكاسب والفوائد التي نلناها فيه.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا وإياكم لإكمال هذا الشهر الكريم، بإتمام صيامه والقيام بالعمل الصالح فيه، وأن يتقبّل منّا ومنكم، وأن يوفقنا الله وإياكم للحفاظ على هذه المكاسب والبركات.