سيكلوجيّة الغيبة
ورد عن أمير المؤمنين عليّ عليه السلام إنّه قال: «الْغِيبَةُ جُهْدُ الْعَاجِز»[1] .
إن وجود عرض جسمانيّ في الإنسان يكشف عن خلل داخليّ في وظائف أعضائه، ونظام حركة الأجهزة داخل جسمه؛ فيسعى الأطباء لتبيّن ذلك الخلل عبر التحاليل والفحوصات المخبريّة، وأنواع الأشعة، دون أن يتعاملوا مع ذلك العرض بشكل سطحيّ وظاهريّ، بل يحاولون أولاً فهم سبب وعلّة هذا المرض، ومن ثمّ يصفون له العلاج ثانياً.
وكما هو الأمر في الأمراض الجسمانيّة فكذا الحال في الأمراض النفسيّة والأخلاقيّة؛ فحينما نجد عند الإنسان عرضاً من أعراض أمراض النفس والأخلاق، فلابد أن نفتّش ونُجري التحاليل والفحوصات في داخل نفس هذا الإنسان، لنرى الخلل الذي أوجد هذا العرض الخارجيّ السلوكيّ.
وهذا الأمر من وظائف علم النفس؛ إذ يسلّط هذا العلم الضوء على العالم الداخليّ لنفس الإنسان، ليكتشف أسباب الأمراض ومنتجات السلوك، ودوافع التحرّك والممارسات عند الإنسان.
وقد نصّت تعاليم الديانات وتوجيهات الأنبياء والأئمة عليهم السلام، وأيضاً نصائح وآراء الحكماء والعرفاء، على هذه الحالة قبل أن يتبلور ويتطوّر علم النفس المعاصر؛ من هنا نجد إن كثيراً من النصوص الدينيّة سلّطت الأضواء على خلفيّة الممارسات والسلوكيّات التي يقوم بها الإنسان، على أساس إن هذا السلوك أو الممارسة الخارجيّة إنما هي حصيلة شيء داخليّ آلت إلى ذلك.
على أن نشير إلى: إن حديث الأنبياء والأئمة عن هذه الأمور إنما ينشأ ويتكأ على الوحيّ، أمّا العرفاء والحكماء فحديثهم عن ذلك ناتج من تأملهم ودقّة ملاحظتهم، وتراكم الخبرة والتجربة في معرفة البشر والمجتمعات لديهم، من هنا جاءت هذه الحكم والتوجيهات الرائعة.
ومن الأمراض التي سلّطت النصوص الدينيّة الضوء على أسبابها وعلّلها: «الغيبة»، والتي تعني ذكر معايب الناس لإسقاطهم والتشهير بهم؛ حينما يرصد الإنسان نقاط ضعف الآخرين وثغراتهم ويتحدّث عنها.
«رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وآله قَالَ:
هَلْ تَدْرُونَ مَا الْغِيبَةُ؟
قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ.
قَالَ: ذِكْرُكَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ.
قِيلَ: أَ رَأَيْتَ إِنْ كَانَ فِي أَخِي مَا أَقُولُ.
قَالَ صلى الله عليه وآله: إِنْ كَانَ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدِ اغْتَبْتَهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ فَقَدْ بَهَتَّهُ»[2] .
والنصّ أعلاه يفرّق بين الغيبة والبهتان، وهو مطلب أساسٍ لابد من الالتفات إليه جيّداً، ومعرفة خطورة الابتلاء بهذه الأمراض الأخلاقيّة الخطيرة؛ فحينما يذكر الإنسان أخاه بشيء موجود فيه، ويريد من خلال ذلك التشهير به، وهو يعلم إن ذكر ذلك يزعجه ويغيظه فهذا هو: «الغيبة»؛ أمّا إذا ذكر الإنسان أخاه بشيء ليس فيه، مفترياً عليه بذلك، فهذا هو: «البهتان».
لكن ما هو السبب الذي يولّد هذا المرض ـ أعني الغيبة ـ عند الإنسان؟
والجواب: بدايةً علينا أن نميّز بين الغيبة كحادثة عابرةٍ استثنائيّةٍ يمارسها الإنسان وربما يندم عليها بعد ذلك، وبين الغيبة كسلوك عام يمارسه البعض بشكل يوميّ، ويلتذّ به، ويتعايش معه، ويحترفه، وحديثنا في الثانيّ دون الأوّل.
وبعد وضوح هذا التفريق الأساسي نعود إلى إجابة السؤال المتقدّم؛ حيث كشف أمير المؤمنين عليه السلام عن السبب الذي يؤول إلى ظهور مثل هذا المرض النفسيّ الأخلاقيّ؛ معبّراً عن الغيبة بكونها جهد العاجز؛ وحينما نحاول التأمّل في هذه الكلمة القصيرة المعبّرة فسوف نجد إنها تحمل مضموناً عالياً.
أسباب الغيبة في نماذج عمليّة
الحالة الأولى:
إذا شاهدنا إنساناً يكون شغله الشاغل الحديث عن أخطاء الناس ومعايبهم، ونقاط ضعفهم، إمّا بلسانه، وإمّا بقلمه، فلا شكّ بوجود خلل داخليّ عنده وضعف في شخصيّته؛ ذلك أن الإنسان الذي تكون لديه اهتمامات حقيقيّة في تطوير ذاته، وتقديم منجزات في حياته، لا يملك وقتاً للحديث عن أخطاء الآخرين وعيوبهم، وإنما يتحدّث عن أخطاء الآخرين: من يعيش حالة الفراغ وعدم وجود الاهتمامات، فلا يوجد ما يملأ عليه هذه الحالة، ليشغل تفكيره ونفسه، فهو عاجز وضعيف لا يمتلك اهتمامات حقيقيّة، فيشغل نفسه بهذا السلوك والممارسة.
إن كثيراً من الناس الذي يمتهنون الغيبة كسلوك إنما يعود إلى الفراغ من الاهتمامات الحقيقيّة؛ ومن كان عنده اهتمامات من هذا القبيل فلا شكّ أنّه سيبتعد عن الحديث عن أخطاء الآخرين وثغراتهم.
يصف أحدهم جلسات زملائه الليلية فيقول: أنها مليئة بالغيبة وذكر معايب الآخرين، إلا إذا كانت هناك مباريات فإنها تشغلهم عن ذلك.
الحالة الثانية:
وحينما يلحظ الإنسان خطأ لدى شخص آخر فإمّا أن يكون لديه دوافع صالحة وأهليّة فيقوم بنصح صاحب الخطأ لتجاوز خطأه، ويتعاون معه من أجل تصحيح الخطأ، كما إذا لاحظ إنساناً مريضاً فيذهب لمساعدته والوقوف إلى جنبه بنيّة حسنة خالصة.
وأما إذا كان الإنسان لا يملك هذه اللياقة والروح الخالصة، ويعاني من فشل وعجز عن أن تكون له هذه اللياقات، فتراه بدل أن يهتم بمعالجة الأخطاء عند الآخرين، يقوم بالتشهير بها، والتحدّث عنها، فهو عاجز عن مساعدة الآخرين على إصلاح أخطائهم، فيتوجّه للحديث عن تلك الأخطاء، بدل أن يقوم بإصلاحها أو المساعدة على ذلك، ومن هنا تكون الغيبة جهد العاجز.
الحالة الثالثة:
وإذا تنافس الإنسان مع الآخرين فشاهد أن الآخرين قد سبقوه وتجاوزوه في سباقهم، فالمفترض به أن يتحفّز وينشغل بتطوير نفسه، لكن بعض الناس يشعر بالفشل والضعف حينما يرى تقدّم الآخرين عليه، وتجاوزهم إياه، وهو غير مجتهد في مسيرته، فحينها يسلّي نفسه بالحديث عن أخطاءهم، ويعوّض عليها بالحديث عن ثغراتهم؛ فالغيبة جهد من يعجز عن التقدّم والتفوّق على الآخرين.
وهناك كلمة رائعة تروى عن أمير المؤمنين عليه السلام تُعطي مقياساً أساسيّاً يلقي بظلاله على جوهر مفهوم الغيبة وبعض جوانبها:
« ذَوُو الْعُيُوبِ يُحِبُّونَ إِشَاعَةَ مَعَايِبِ النَّاسِ لِيَتَّسِعَ لَهُمُ الْعُذْرُ فِي مَعَايِبِهِم»[3] .
نعم؛ حينما يكسل الطالب عن التفوّق في دراسته، تراه يتحدّث في منزله وأمام أهله عن الفاشلين فقط، دون أن ينقل شيئاً عن المتفوقين من زملائه، وكأنه يريد أن يقول: إن فشله ليس وليد نقص فيه، وإنما لمبررات أخرى بدليل وقوع كثيرين مثله في ذات الفشل، وهكذا ينطلق من يستغيب الناس من هذه الخلفيّة.
وهكذا يلخّص الإمام عليه السلام سيكلوجيّة الغيبة لدى المغتاب؛ فالإنسان العاجز والمتعثّر الذي لا يملك إرادة التطوير والتقدّم والانشغال بالاهتمامات الحقيقيّة هو الذي يمارس هذا العمل والموبقة الأخلاقيّة.
وهناك رواية أكثر تفصيلاً مرويّة عن الإمام الصادق عليه السلام تتحدّث عن أنواع الغيبة بتفاصيل أكثر قال فيها:
«أَصْلُ الْغِيبَةِ مُتَنَوِّعٌ بِعَشَرَةِ أَنْوَاعٍ: شِفَاءِ غَيْظٍ؛ وَمُسَاعَدَةِ قَوْمٍ؛ وَتُهَمَةٍ؛ وَتَصْدِيقِ خَبَرٍ بِلَا كَشْفِهِ؛ وَسُوءِ ظَنٍّ؛ وَحَسَدٍ؛ وَسُخْرِيَّةٍ؛ وَتَعَجُّبٍ؛ وَتَبَرُّمٍ؛ وَتَزَيُّنٍ؛ فَإِنْ أَرَدْتَ الْسْلَامَةَ فَاذْكُرِ الْخَالِقَ لَا الْمَخْلُوقَ، فَيُصَيِّرُ لَكَ مَكَانَ الْغِيبَةِ عِبْرَةً، وَمَكَانَ الْإِثْمِ ثَوَاباً»[4] .
على الإنسان أن يكبح هذه الحالة في نفسه، وإذا رأى نفسه قد تورّط في هذه الممارسة فعليه أن يستغفر الله سبحانه وتعالى ويتراجع فوراً.
قال عليّ عليه السلام: «لَا تُعَوِّدْ نَفْسَكَ الْغِيبَةَ؛ فَإِنَّ مُعْتَادَهَا عَظِيمُ الْجُرْم»[5] .
وأخيراً: ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله إنّه قال: « قَالَ تَرْكُ الْغِيبَةِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَ جَلَّ مِنْ عَشَرَةِ آلَافِ رَكْعَةٍ تَطَوُّعاً»[6] .
نسأله تعالى أن يوفقنا لتنزيه ألستنا عن الغيبة، وقلوبنا عن الرياء، وعيوننا عن النظر إلى الحرام.