خدمة الناس قيمة كبرى
قال رجل لرسول الله صلى الله وآله: «أُحِبُّ أَنْ أَكُونَ خَيْرَ النَّاسِ؟
فَقَالَ صلى الله عليه وآله : «خَيْرَ النَّاسِ من ينفع الناس فكن نافعاً لهم»[1] .
وورد عنه صلى الله عليه وآله: «خَصْلَتَانِ لَيْسَ فَوْقَهُمَا مِنَ الْبِرِّ شَيْءٌ الْإِيمَانُ بِاللَّهِ وَالنَّفْعُ لِعِبَادِ اللَّهِ...» [2] .
نفع الناس يعني تقديم الخير لهم بما ينفعهم في تيسير أمور حياتهم، وإسعادهم على الصعيد الماديّ أو المعنويّ؛ وقد تحدّث القرآن الكريم عن مصاديق النفع في البعدين معاً، أمّا البُعد الماديّ فقد قال تعالى: ﴿وَالْفُلْكِ الَّتي تَجْري فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاس﴾[3] .
وقال تعالى:﴿وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ﴾[4] .
وأمّا عن البُعد المعنويّ فقد قال تعالى: ﴿وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِين﴾[5]
فتقديم الخدمة للناس بما ينفعهم في هذين البعدين هو ما حثّت النصوص الدينيّة عليه؛ فالإسلام يعتبر نفع الناس قيمة كبرى يدعو إليها، كما في الأحاديث الشريفة حيث عبّرت عنه بكونه: من أكبر القيم في الدين.
وقد يسأل سائل: لماذا جعل الدين من نفع الناس قيمة كبرى؟
يعود ذلك كما نحتمل لعدّة أسباب منها:
نفع الناس تمظهر بصفات الله تعالى
1ـ إن نفع الناس فيه اقتراب من الصفات الإلهيّة، وتخلّق بأخلاق الله سبحانه وتعالى؛ فحيث إنه تعالى جواد وكريم ورحيم ومعطاء وررؤف، فلابد أن يمارس الإنسان نفس الدور الإلهيّ مع الناس فيكون جواداً كريماً رحيماً معطاءً ورؤوفاً بهم.
وهذه الممارسة توجب الرحمة الإلهيّة، كما وتوجب زيادة النعم على الإنسان؛ فكلما أعطى الإنسان لعباد الله فسوف يعطيه الخالق أضعافاً مضاعفة.
قال تعالى: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَة﴾[6] .
وإذا أرنا أن نقرّب الفكرة المتقدّمة بمثالٍ نلاحظ: الأب الذي يقدّم لأبنه حلوى ويشجّعه على إعطاء الأولاد الذين بجنبه منها؛ فإن تقسيم الأبن حلواه بين من يحيط به من الأولاد، يغمر الأب سعادة وفرحاً، فيقبّله ويمنحه أكثر وأكثر... وهذا الأمر أكثر تحققاً من رب العالمين مع عباده الذين يقدّمون الخدمات والخيرات للناس.
وحينما لا يتعامل الإنسان مع النعمة التي وفّرها الله في يديه بالطريقة المناسبة التي ترتضيها السماء، فسوف تسحب من يديه، وتحوّل إلى غيره، وهذا ما كشفت عنه النصوص الدينيّة، نلاحظ ذلك في النص المرويّ عن أمير المؤمنين عليه السلام الذي يقول فيه:
«إِنَّ لِلَّهِ عِبَاداً يَخْتَصُّهُمْ بِالنِّعَمِ لِمَنَافِعِ الْعِبَادِ فَيُقِرُّهَا فِي أَيْدِيهِمْ مَا بَذَلُوهَا، فَإِذَا مَنَعُوهَا نَزَعَهَا مِنْهُمْ ثُمَّ حَوَّلَهَا إِلَى غَيْرِهِم»[7] .
وقد ارتكز هذا المعنى حتى بين الشعراء حتى قال بعضهم:
لم يعطك الله ما أعطاك من نعمٍ |
إلا لتوسع من يرجوك إحساناً |
فإن منعت فأخلق أن تصادفها |
تطير عنك زرافات ووحداناً |
نفع الناس توثيق لعلاقاتهم الاجتماعيّة
2ـ النفع للناس يوثّق العلاقة فيما بينهم؛ فإن الناس الذين يتعاونون فيما بينهم ويخدم كل منهم الآخر، ترى قلوبهم متحابة متقاربة ونفوسهم متواشجة، وبالتالي فإن هذه القيمة الكبرى تصنع أجواء طيبة وإيجابيّة في حياة المجتمع البشريّ، ومن هنا جاء التركيز عليها من قبل الدين.
نفع الناس يطوّر الإنسان والحياة
3ـ إن النفع للناس يطوّر الإنسان والحياة؛ فالإنسان عبر خدمته للآخرين يكتشف ذاته وينمّي المهارات والقدرات والطاقات في نفسه، بينما الانكفاء على النفس يحجِّم الذات؛ فالملاحظ: إن العلماء والمكتشفين والمخترعين من خلال انجازاتهم واكتشافاتهم يطّورون البشريّة والحياة، ويدفعونها نحو الأمام، كما ويطوّرن ذواتهم أيضاً. وكذا الأمر في المتطوعين في أعمال الخير، والناشطين في مختلف المجالات. بينما الإنسان الأنانيّ يحجّم نفسه وينكفأ عليها، ويحرمها من التقدّم والرقيّ، ومن هنا قال تعالى: ﴿ ...وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون﴾[8] .
أجل؛ الإنسان الذي يتجنّب الأنانيّة والبخل سيرتقي ويتقدّم إلى الفلاح والنجاح من دون شكّ وريب، كما نصّت هذه الآية الكريمة وغيرها من النصوص الدينيّة.
نشر القيم والمبادئ الأخلاقيّة
من مظاهر نفع الناس نشر القيم والمبادئ الأخلاقيّة، وتشجيع الناس عليها، فهؤلاء الذين يقومون بحملة لنشر مفهوم البرّ بالوالدين، أو جمال الأخلاق، كمشروع ملكة جمال الأخلاق، يمارسون دور النفع للناس.
كما إن الدعوة إلى حماية البيئة، والالتزام بقوانين المرور، ومراعاة الصحّة، والتزام العفة والورع، ومختلف هذه القيم هي مظهر من مظاهر نفع الناس، ومن يعمل في نشر هذه القيم والمبادئ الأخلاقيّة فهم يخدم الناس وينفعهم.
ولا يقتصر الأمر على ذلك؛ بل إن نشر العلم والمعرفة على مختلف الصعد والسياقات، هو من تجليات نفع الناس، فنحن نسمع عن دورات لتعليم الكتابة والخطابة واللغات الأجنبيّة، ولا شكّ إن في ذلك خدمة للناس، ومساهمة في تقدّمهم ورقيّهم.
وعلينا أن نشيد هنا بجهود الأستاذة الفاضلة غالية المحروس من القطيف؛ فقد تفرّغت هذه الأستاذة بعد تقاعدها من آرامكو لتعليم البنات والنساء اللغة الانجليزيّة، حيث كتبت عنها الصحف قبل مدّة إنها كانت تصرف يوميّاً ما يعادل سبع ساعات في تدريس اللغة الانجليّزية مجاناً، ومن دون مقابل. كما وكانت تقيم ثلاثة دورات تعليمية يوميّاً من دون مقابل، ويبلغ عدد طالباتها في الفترتين الصباحيّة والمسائيّة نحو ثمانين طالبة، يتلقين دروساً في اللغة الانجليزية في منزلها الذي حوّلته بمساعدة زوجها إلى معهد تعليمي، وأيضاً: تقيم دورات في المستشفيات والجمعيات الخيريّة ولجان القرآن الكريم لتعليم اللغة الانجليزيّة[9] ، وهذا نفع للناس، ونشر للعلم والمعرفة بمختلف ألوانها.
نشر الفرح والسرور
كما إن نشر الفرح والسرور والبهجة عبر الأساليب المشروعة، في أوساط المجتمع، وإدخال السرور على قلوب الناس، وتنفيس حالات الكبت والاحتقان عن نفوسهم، هو من مظاهر وتجليّات نفع الناس؛ فالبرامج الترفيهيّة التي تقام ويصرف فيها متطوعون من أبناء المجتمع وقتاً وجهداً كبيراً هي من هذه التجليّات، وما المهرجان الذي يقام في القطيف والذي يحتضن أكثر من ستمائة متطوّع ومتطوّعة، يصرفون ساعات من وقتهم، في أجواء الصيف اللاهب، إلا ويقع في هذا السياق؛ فلا شكّ إن هؤلاء ينطبق عليهم مفهوم: خير الناس من نفع الناس.
وهكذا مساعدة الفقراء والمحتاجين وزيارة المرضى وإعانتهم في تجاوز حالة المرض؛ فإن ذلك يبعث الأمل والسرور فيهم.
إن مثل هذه الأخلاقيّات صارت تشقّ طريقها وتنتشر بكثافة في المجتمعات الغربيّة، ونحن كمسلمين أولى بهذه الأخلاقيّات؛ فقبل أيام نشرت الصحف أن زوجان محبان لعمل الخير أنفقا الملايين من اليورو لشراء سفينة يعتزمان استخدامها في إنقاذ المهاجرين من الزوارق المتهالكة في قلب البحر المتوسط، وأبلغ كريستوفر وريجينا كاترامبون المقيمان في مالطا وسائل الإعلام أنهما شعرا بأنهما ملزمان بالتحرك بعد نداء وجهه البابا عقب العثور على مئات من المهاجرين الأفارقة غرقى قبالة جزيرة لامبيدوزا الإيطالية.
وأسس الزوجان محطة إغاثة المهاجرين واشتروا السفينة "فينكس 1" التي ستبحر باتجاه المسارات المركزية التي يتخذها المهاجرون[10] .
نعم؛ هكذا ينبغي للإنسان أن يسابق الزمن في تقديم الخير لنفسه وآخرته ومجتمعه، وعلينا أن نجعل هذه النصوص الدينيّة نصب أعيننا.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا للالتزام بدينه وللنفع لعباده، ونسأله تعالى أن يتقبّل منا ومن الجميع صالح الأعمال.