حين تحترم نفسك
ورد عن الإمام عليّ بن موسى الرضا أنه قال: «مَنِ استَغفَرَ بِلِسانِهِ ولَم يَندَم فَقَدِ استَهزَأَ بِنَفسِهِ، ومَن سَأَلَ اللّهَ التَّوفيقَ ولَم يَجتَهِد فَقَد استَهزَأَ بِنَفسِهِ، ومَنِ استَحزَمَ ولَم يَحذَر فَقَدِ استَهزَأَ بِنَفسِهِ، ومَن سَأَلَ اللّهََ الجَنَّةَ ولَم يَصبِر عَلَى الشَّدائِدِ فَقَدِ استَهزَأَ بِنَفسِهِ، ومَن تَعَوَّذَ بِاللّهِِ مِنَ النّارِ ولَم يَترُكِ الشَّهَواتِ فَقَدِ استَهزَأَ بِنَفسِهِ»[1] .
يُعَدّ احترام النفس ركيزة أساسية عند الإنسان السّوي، فهو لا يقبل الاستهزاء لنفسه على أيِّ نحوٍ كان. والهزؤ أو الهزو لغة: هو التحقير أو الإهانة، فالاستهزاء بشيءٍ أو أحدٍ يعني إبداء الاحتقار والإهانة له. والإنسان السّوي كما يرفض أن يحتقره أو يستهزئ به الآخرون، فهو من باب أولى لا يحتقر نفسه ولا يهزأ بها، وكذلك الحال عندما ينأى بنفسه عن احتقار الآخرين أو الاستهزاء بهم، فإنّ الأولى ألّا يوجّه الإهانة والاستهزاء إلى نفسه.
وقد تناول الإمام عليّ بن موسى الرضا بعض المظاهر والممارسات التي لا معنى لها سوى استهزاء مرتكبها بنفسه.
الاستغفار دون ندم
الحالة الأولى: هي الاستغفار باللسان، مع عدم الندم على الذنب في القلب، ذلك أنّ الاستغفار في جوهره لا يتأتى إلّا بعد الإدراك الداخلي لحقيقة الذنب، ومن ثم الاعتذار عنه أمام الله سبحانه وتعالى، مع إضمار النية الصادقة في تركه والنفور منه، وعدم العودة إليه مطلقًا. فإذا ما اكتفى المذنب بالاستغفار اللفظي، مع إضمار النية في العودة لارتكاب ذات الذنب، فإنّ ذلك هو عين الاستهزاء بالنفس.
وللشخص أن يتخيّل نفسه وقد أخطأ على شخص آخر، فاعتذر منه ثم عاد لارتكاب الخطأ نفسه بحقّ الشخص ذاته، فهل أبقى المخطئ لنفسه بابًا لقبول العذر مرة أخرى، أم أنّ اعتذاره لا يعدو كونه استهزاءً وسخريةً من الآخرين، كذلك الحال في تصرف الإنسان مع ذاته.
وورد عن رسول الله أنه قال: «خَيرُ الاستِغفارِ عِندَ اللّه ِ الإقلاعُ والنَّدَمُ»[2] ، وعن الإمام الرضا قال: «الْمُسْتَغْفِرُ مِنْ ذَنْبٍ وَ يَفْعَلُهُ كَالْمُسْتَهْزِئِ بِرَبِّهِ»[3] ، وهل ثمّة ذنب أكثر سوءًا من الاستهزاء بالله جلّ شأنه؟.
طلب التوفيق بغير اجتهاد
الحالة الثانية: طلب التوفيق من الله بدون الاجتهاد والعمل. فقد تكون عند الإنسان غاية يريد تحقيقها، فيسأل الله أن يحقّق له تلك الغاية، فإن كان جادًّا في طلبه ذاك، فإنّ من المتوقع منه أن يسعى ويجتهد في سبيل تحقيقه، لا أن يبقى متسمّرًا مكانه دون حراك أو سعي، فلا معنى لذلك سوى غياب الجدية في تحقيق الغاية التي يريد، وذلك نوع من الاستهزاء بالنفس.
إنّ الغايات والمطالب، لا تُنال بمجرد إلقائها على كاهل السماء، ليقوم ربّ العالمين بإنجازها نيابة عن العبد، بل على النقيض من ذلك، فالنصوص الدينية تتضمن تأكيدًا متكرّرًا على محورية السّعي في حياة الإنسان، كما ورد في قوله تعالى: ﴿وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَىٰ * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَىٰ﴾، وقال عزّ وجلّ: ﴿أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى﴾، فالأمنيات وحدها لا يمكن أن تحقق الآمال.
وأبعد من ذلك، فالإنسان لن يحقق مراده متى ما اقتصر على الدعاء، دونما بذل جهد في سبيل تحقيق ما يريد من الله قضاءه له. قال تعالى: ﴿وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ﴾، فالاستجابة من الله مشروطة بالإيمان والعمل الصالح باتجاه الغاية المطلوبة، وجاء عن رسول الله أنه قال: «خَمْسةٌ لَا يُسْتَجَابُ لَهُمْ.. ورَجُلٌ جَلَسَ فِي بَيْتِهِ وقَالَ اللَّهُمَّ ارْزُقْنِي ولَمْ يَطْلُبْ»[4] ، وقد ورد عن الإمام عليّ أنه قال: «الدّاعي بِلا عَمَلٍ كَالرّامي بِلا وَتَرٍ»[5] .
وورد في الكافي عن كليب الصيداوي أنه قال: قُلتُ لِأَبي عَبدِ اللّه: اُدعُ الله عزّ وجلّ لي فِي الرِّزقِ فَقَدِ التاثَت[6] عَلَيَّ اُموري. فَأَجابَني مُسرِعًا: لا، اُخرُج فَاطلُب»[7] ، وورد في الكافي أيضًا عن أيّوب الهروي، قال: كُنَّا جُلُوساً عِنْدَ أَبِي عَبْدِ اللهِ إِذْ أَقْبَلَ الْعَلَاءُ بْنُ كَامِلٍ، فَجَلَسَ قُدَّامَ أَبِي عَبْدِ اللهِ، فَقَالَ: ادْعُ اللهَ أَنْ يَرْزُقَنِي فِي دَعَةٍ، فَقَالَ: «لَا أَدْعُو لَكَ، اطْلُبْ كَمَا أَمَرَكَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ»[8] ، ومضمون تلك الآيات والروايات أنّ الله سبحانه إنما يستجيب الدعاء للمؤمن العامل السّاعي نحو تحقيق مطالبه.
ويلعب الدعاء دورًا محوريًّا في تصويب الطريق، وتذليل العقبات، أمام السّاعين والعاملين المجتهدين، نحو تحقيق أهدافهم. ومردّ ذلك إلى أنّ حركة الانسان العامل تحتاج إلى أن تكون في الاتجاه الصائب، والمكان المناسب، وهنا تحديدًا يأتي دور الدعاء.
فللدعاء دور كبير في رفع العوائق من أمام الإنسان العامل المجتهد، وأن تكون جهوده مبذولة في موقعها المناسب. فلربما يرمي الإنسان إلى البحث عن جهة أو شخص لقضاء أمر معيّن، كالبحث عن وظيفة جيدة، أو الحصول على العلاج الطبي المناسب، فتارة يذوق الأمرّين في العثور على الجهة المناسبة، وتارة أخرى ينجح في العثور على الجهة المناسبة دونما عناء كبير، وقد يكون الفارق في الحالتين دعاء العبد وسؤاله ربّ العالمين بأن يسهل أموره ويفتح الأبواب أمامه.
ويبقى الأصل قائمًا في أن يمضي الإنسان في السعي والحركة، ويترك الباقي على ربّ العباد، وقد قيل: «منك الحركة ومن اللَّه البركة»، فإنّ كان الإنسان يسأل الله التوفيق من غير سعي، ومن دون أن يبذل كلّ جهده فهذا في الواقع إنما يستهزئ بنفسه.
الحزم مع أخذ الحذر
الحالة الثالثة: البحث عن تحقيق الحزم والقوة، مع التفريط في الحذر، وأخذ الاحتياطات، وسدّ الثغرات. حيث جاء في حديث الإمام الرضا: «... ومن استحزم ولم يحذر فقد استهزأ بنفسه»، ويأتي فعل استحزم بمعنى الرغبة في الظهور بمظهر الحزم والقوة، والاندفاع الواثق نحو أداء العمل، غير أنّ هذا الاندفاع لا ينبغي أن يكون على حساب الحذر، وإهمال نقاط الضعف، والتعرض للوقوع في المطبات.
بوابة الجنة تحمّل الشدائد
الحالة الرابعة: رغبة المؤمنين في الجنة، وخلاصهم من النار، وإمكانية أن تتحول هذه الرغبة إلى استهزاء بالنفس. فقد جاء في الرواية نفسها عنه: «.. ومن سأل الله الجنة ولم يصبر على الشدائد فقد استهزأ بنفسه، ومن تعوّذ بالله من النار ولم يترك شهوات الدنيا فقد استهزأ بنفسه».
والواقع أنّ غالب الناس ربما يلحّون في السؤال على الله سبحانه بأن يدخلهم الجنة، وأن يستنقذهم من النار، غير أنّ دخول الجنة لا ينبغي أن يكون مجرّد أمنية، وإنما على الانسان أن يعلم بأن دخول الجنة لا بُدّ له من ثمن، وأغلى أثمان الجنة هو تحمّل الشدائد، قال تعالى: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ﴾[سورة البقرة، الآية:214].
ويتوجب على من يسأل الله الجنة أن يدفع الثمن، الذي يكمن على وجه الخصوص في تحمل الشدائد والصبر على المصائب. وكذلك الحال مع من يسأل الله النجاة من النار، فثمن ذلك ألّا يسترسل مع رغباته وشهواته. ورد عن رسول الله أنه قال: «حُفَّتِ الْجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ، وَحُفَّتِ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ»[9] ، وعن الإمام الباقر أنه قال: «الجَنّةُ مَحفوفةٌ بالمَكارِهِ والصَّبرِ، فمَن صَبرَ على المَكارِهِ في الدُّنيا دَخلَ الجَنّةَ»[10] .
الخطبة الثانية: زيارة الأربعين: التحدّي والتعبير عن الهوية
جاء بسندٍ معتبر عن حنّان بن سَدِير عن أبي عبدالله قال: «زُورُوا الْحُسَيْنَ، وَلَا تَجْفُوهُ، فَإِنَّه سَيِّدُ شَبَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ»[11] .
يجتذب مشهد الزحف المليوني لزيارة الأربعين الأنظار عبر العالم، لكونه حدثًا مثيرًا للدهشة، بالنظر لاعتبارات كثيرة. فبالرغم من أنّ المنطقة العربية باتت أكثر المناطق جذبًا للاهتمام لما تشهده من صراعات سياسية محتدمة، وأحداث عنف دموية، وبؤر الإرهاب الناشطة فيها، وانعكاس جميع ذلك على الوضع العالمي، إلّا أنّ مشهد الزحف المليوني لزيارة الأربعين فرض حضوره منافسًا جميع الأحداث الملتهبة في المنطقة.
هذا الحدث السنوي الضخم الذي لا مثيل له في تاريخ المنطقة، ربما كان الأضخم في العالم بالنظر للمخاطر الأمنية المحيطة، فالعراق لم يعد في العقد الأخير بلدًا مستقرًّا آمنا، بقدر ما بات ساحة مفتوحة لمعركة ضروس مع أعتى القوى الإرهابية والإجرامية، التي سيطرت على نحو ثلث مساحة العراق، وأدمت كلّ مناطق العراق، فلا يكاد يمرّ يوم واحد إلّا وهناك أعمال إجرامية ترتكبها هذه العصابات الإرهابية.
ومع هذه المخاطر الكبيرة، والوضع الأمني المضطرب، يزحف ملايين الناس لزيارة الإمام الحسين في كربلاء، هذا ليس أمرًا سهلًا، سيّما في ظلّ اهتراء البنية التحتية للتنمية، جرّاء الحروب الطويلة في العراق، وعدم توفر الخدمات القادرة على استيعاب هذه الحشود الكبيرة.
وقد تبلغ الدهشة منتهاها مع الأرقام المليونية التي تقدّر أعداد الحشود المتجهة إلى كربلاء، بين خمسة ملايين إلى نحو 20 مليونًا. ولو أخذنا بالحدّ الأدنى من التقديرات، أي بضعة ملايين من المشاركين، لبقيَ ذلك رقمًا كبيرًا، ويكفي أن نتذكر بأنّ هذا العدد يتجاوز بكثير عدد المعتمرين والحجاج في ذروة موسم الحج، مع كون الحج فريضة إلهية واجبة لا تقاس بزيارة الأربعين.
ومع هذه الأعداد الكبيرة المتجهة إلى كربلاء مشيًا على الأقدام في معظمها، إلّا أنّ حركة الحشود البشرية التي تمتد إلى عشرات الكيلومترات، في ظلّ أحوال جوية متقلبة من البرد والمطر، تمضي بانسيابية مثيرة للدهشة، لا نكاد نشهد مع ذلك مشاكل خطيرة، ولا صراعات ولا نقاط خلل كبيرة. بل على العكس من ذلك، يجري بجهود أهلية توفير كلّ سبل الراحة لهذه الحشود المليونية من طعام وشراب وخدمات لم يخطر على البال إمكانية توفرها، ليس أقلها توفر خدمة المساج والتدليك لأقدام المشاة الزائرين التي أنهكها المشي الطويل. ناهيك عن البهجة التي تعتلي وجوه الناس وهم يؤدّون مراسيم الزيارة، كما يظهر من خلال المقابلات التلفزيونية التي تُجرى معهم، وكما يتحدثون هم عند عودتهم إلى ديارهم.
وفي حين درجت وسائل الإعلام العربية الرسمية على تجاهل هذا المشهد المليوني الكبير، الذي قلّ نظيره في العالم، تتسابق وسائل الإعلام الدولية إلى تغطية أحداثه، ولفت الأنظار إليه، وغنيٌّ عن القول إنّ الناس باتت لهم نوافذهم المباشرة على العالم، فلم تَعُدْ حبيسة الإعلام الرسمي العربي، وإنما بات المتابع العادي على تماسٍّ مباشر مع كلّ أحداث العالم على مدار الساعة.
ظاهرة فريدة تستحقّ التأمل
إنّ مشاهد زيارة الأربعين تستحقّ التأمل والتحليل طويلًا من قبل الباحثين، لتفسير هذه الحالة المجتمعية الفريدة. إذ يعكس هذا الزحف المليوني تفاعل المجتمع مع موروثه الديني وتمسّكه به، حيث يقبل الناس على زيارة الإمام الحسين شوقًا وطلبًا للأجر والثواب. وهناك في هذا الصدد عشرات النصوص الدينية ضمن تراث أهل البيت تتناول زيارة الإمام الحسين، ومن ذلك ما جاء بسندٍ معتبر عن حنّان بن سدير قال، قال لي أبو عبدلله الإمام جعفر الصادق: «زُورُوا الْحُسَيْنَ، وَلَا تَجْفُوهُ، فَإِنَّه سَيِّدُ شَبَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ»، وتوجب تلك النصوص في مجملها الاطمئنان والوثوق في اهتمام أئمة أهل البيت بهذه الشعيرة، وحثهم شيعتهم عليها. وفي هذا الشأن يقول المحقق في علم الحديث الشيخ آصف محسني في مصنّفه مشرعة بحار الأنوار: «واعلم أن الروايات الواردة في ثواب زيارة الحسين وخواصها كثيرة جدًّا، حتى إذا فرزنا منها ما رواه الغلاة والضعفاء، لكان فيما بقي مما رواه الثقاة والموثقون كمية كبيرة فوق ما يحتاج إليه في حصول القطع بصدور جملة منها من الأئمة» [12] .
ومن الواضح أنّ اهتمام أئمة أهل البيت بقضية الإمام الحسين مرتبط على نحو وثيق بطبيعة الدور المميز الذي قام به، في الثورة على الباطل، ومواجهة الاستبداد، والدفاع عن حرمات الدين وكرامة الأمة، هذا الدور المميز هو الذي يفسّر توالي النصوص الدينية التي توجه الناس نحو زيارته، وإحياء ذكراه، والتذكير بقضيته. فقد أخذت مظلومية الإمام الحسين حيّزًا كبيرًا في فضاء تراث أهل البيت، وذلك نظير ما تحمّل في يوم عاشوراء من آلام عظيمة، في نفسه أولًا، ومن ثم في أسرته وأصحابه. هذه الآلام والتضحيات الكبيرة، هي التي استحقّ بموجبها أن يعوّضه الله سبحانه على هذا النحو من الاهتمام الكبير، الذي يجعل ملايين الأفئدة من الناس تهوي إليه وتعشقه، وتحيي ذكراه، وتزحف نحو مرقده الشريف.
التمسك بالهوية والتعبير عن الذات
كما تكشف مشاهد زيارة الأربعين، عن إرادة مجتمعية ثابتة في التمسك بالهوية، والتعبير عن الذات. وكما هو معلوم فقد طال القمع والتهميش والإقصاء الطويل مختلف الهويات الفرعية، الدينية منها والقومية والثقافية في عالمنا العربي، لصالح الهوية الأوحد المهيمنة على الواقع السياسي، إلى أن وجدت بعض الشعوب والمجتمعات في هذا العصر فرصة التعبير عن ذاتها وهويتها. وقد نال الموالون لأهل البيت حصة الأسد من القمع الديني والسياسي، فجاءت مناسبة الأربعين لتكشف عن أوجه من التعبير عن الهوية المقموعة، التي عانت طويلًا من الإقصاء، بمختلف الوسائل والأساليب.
إنّ من حقّ كلّ المجتمعات التعبير عن ذاتها وهويتها، بانتهاج السبل الحضارية. غير أنّ هناك من لا يجد طريقًا للتعبير عن هويته إلّا من خلال الاعتداء على الآخرين، وهذا عين ما يقترفه الإرهابيون من اعتداءات وحشية بحقّ الأبرياء، مبرّرين إرهابهم بأنّ لهم قضية مشروعة وحقوقًا يسعون لانتزاعها، من هذه الفئة أو تلك الجماعة، لكن السؤال الذي يطرح نفسه، لو سلمنا بوجود قضية محقّة لدى طرف من الأطراف، فهل يكون السعي من أجلها من خلال الإرهاب والإجرام والاعتداء على الآمنين؟
إنّ النضال من أجل قضية عادلة، وحقوق مشروعة، بالتوسل بالوسائل الإجرامية، يُعّدّ أكبر إساءة لتلك القضية، وإن كان هؤلاء الإرهابيون يتظاهرون بحرقة قلب على الإسلام، وإقامة الشريعة، وإحياء الدين، فهل السبيل إلى ذلك عبر جثث الأبرياء؟ أوليس هذا أبلغ إساءة للدين؟
في مقابل ذلك، هناك أسلوب آخر للتعبير عن الهوية، قوامه انتهاج الأسلوب السلمي الحضاري، وهذا عين ما يمارسه عشّاق أبي عبدالله الحسين، فالموالون لأهل البيت يمارسون حقّهم في التعبير عن هويتهم، ويثبتون حضورهم ووجودهم، من خلال السبل الحضارية وحدها، وهو ذات النهج الذي سار عليه أئمة آل البيت وأتباعهم عبر التاريخ، وقد دفعوا ثمن ذلك غاليًا، فكم تحملوا عبر تاريخهم من آلام وتضحيات كبيرة، في سبيل إقامة وتعظيم هذه الشعائر، وهم لا يزالون وسيبقون مصرّين على هذا النهج.