جائزة نوبل وإنجازات الدمار في ساحاتنا
يمثل العلماء والمتخصصون في مختلف المجالات العنصر الأكثر تأثيرًا في حياة البشر. تلك حقيقة خارجية ثابتة نلمسها في حياة المجتمعات البشرية، فالعلماء هم الأكثر تأثيرًا ومن ثم هم الأكثر قيمة، وفقًا للحديث المروي عن النبي : «أكثر الناس قيمة اكثرهم علمًا، وأقل الناس قيمة أقلهم علما»[1] . ذلك أنه كلما كان الإنسان أكثر علمًا، كانت قيمته الواقعية ومدى تأثيره وفاعليته أكثر في الحياة ، بصرف النظر عن قيمته الاعتبارية. وتبعًا لذلك يغدو من السهل إدراك مدى تقدم الأمم في العصر الراهن استنادًا إلى مدى تقدمها العلمي، فالأمة الأكثر انتاجًا للعلم، هي الأمة الأكثر قيمة وتأثيرًا في واقع الحياة، بينما الأمة ذات الانتاج العلمي المنخفض أو المعدوم، فإن قيمتها وتأثيرها في الحياة يكون معدومًا.
الجائزة الأشهر عالمياً:
وقد درجت مختلف الجهات على رصد جوائز كبرى لقاء المنجزات العلمية، ومن أبرزها جائزة نوبل. حيث انشغل العالم خلال الأيام القليلة الماضية بمتابعة إعلان الجوائز للعلماء الفائزين بجائزة نوبل بمختلف فروعها لهذا العام 2015م، فقد أصبحت الجائزة الأبرز عالميًا معلَمًا ومعيارًا للتنافس العلمي بين الأمم والشعوب والمجتمعات.
في عام 1901 تأسست الجائزة المنسوبة للكيميائي السويدي ومخترع الديناميت الفريد نوبل (1833 – 1896)، وفيما ينقل من سيرته أنه أراد من اختراع الديناميت أن يكون أداة ووسيلة تخدم البشر، قبل أن تتحول إلى أداة للحروب ومكون أساس في صناعة الأسلحة الفتاكة.
واعترى نوبل حالة من الإحساس بالذنب لقاء الدمار والهلاك الذي أصاب البشر نتيجة اختراعه للديناميت. ولمواجهة هذا الاحساس بالذنب اتجه لوضع الجائزة السنوية التي تحمل اسمه، بعد أن أنشأ صندوقًا خصص له ميزانية قوامها تسعة ملايين دولار، وقد كان ذلك مبلغًا بالغ السخاء في ذلك الوقت، مضافًا إلى ذلك ريع أمواله الطائلة، التي بلغت 250 مليون دولار، جناها في حياته بصفته رجل صناعة انتشرت منشئاته في الكثير من الدول حتى صار من أثرى أثرياء العالم في زمانه.
وكما هو معروف فإن الجائزة تمنح سنويًا إلى عدد من العلماء المتفوقين في خمسة مجالات، هي الطب والكيمياء والفيزياء والأدب وخدمة السلم العالمي، وقد أضاف البنك السويدي المركزي فيما بعد حقلًا سادسًا في الجائزة وهو حقل الاقتصاد مخصص لكل من يسهم في ابتكار نظرية أو برنامج اقتصادي مميز. وخصصت منحة قدرها يقارب المليون دولار لكل فرع من فروع الجائزة، تقدم لمن يقع الاختيار عليه من قبل لجان متخصصة محايدة بصرف النظر عن جنسيته أو أصوله العرقية أو الدينية.
وقد أعلنت قبل أيام أسماء الفائزين بالجائزة لهذا العام 2015. وتقاسم ثلاثة علماء من اليابان وايرلندا والصين جائزة نوبل للطب أو علم وظائف الأعضاء، نظير أعمالهم الرائدة في مجال مكافحة الأمراض الطفيلية كالملاريا والكوليرا، وقالت اللجنة المسؤولة أن جهد هؤلاء العلماء الثلاثة في المجال الطبي غيّر حياة الملايين من الأشخاص المصابين بالأمراض الطفيلية، التي يفقد بسببها أكثر من 450 ألف شخص أرواحهم سنويًا، وكذلك الحال مع الطفيليات الدودية التي تؤثر على حياة ثلث سكان العالم، وتتسبب في الإصابة بعدد من الأمراض، وقد استطاع هؤلاء العلماء الثلاثة أن يقدموا للبشرية خدمة في الوقاية وفي علاج هذه الأمراض، وبذلك استحقوا هذه الجائزة. ومنحت جائزة الكيمياء إلى ثلاثة علماء آخرين من السويد والولايات المتحدة وتركيا، فيما نالت جائزة نوبل للآداب كاتبة صحفية من بيلاروسيا.
وبذلك أصبحت جائزة نوبل نفسها ساحة للتنافس العلمي، يُعدّ الحصول عليها مؤشرًا بارزًا على التقدم العلمي لدى مختلف الأمم. وقد نال الجائزة منذ انطلاقتها 889 شخصًا بينهم 47 سيدة، ووفقًا للتصنيف الديني للحائزين على الجائزة فقد نال العلماء اليهود 185 جائزة في جميع المجالات، ففي الفيزياء فاز 49، والكيمياء 32، والاقتصاد 28، والأدب 13، والسلام 9، والطب 54، هؤلاء من اليهود الذين لا يتعدى تعدداهم عبر العالم أكثر من 22 مليون نسمة.
فيما لا تتعدى نسبة المسلمين الفائزين بجوائز نوبل سوى أكثر بقليل من نسبة 1 بالمئة، حوالي 12 فائزًا، منهم 8 فازوا بجائزة السلام، واثنان في الأدب، وفائز في الكيمياء، وفائز في الفيزياء، هذا كل نصيب المسلمين الذين يربو تعدادهم على المليار ونصف المليار نسمة في العالم!!
غياب الأمة عن ساحة الانجاز العلمي:
من هنا يأتي السؤال الأهم، عن علة غياب الأمة الإسلامية عن ساحة الإنجاز العلمي، فيما تحقق الأمم الأخرى تقدمًا علميًا متعاظمًا. والجواب على ذلك: هو أن الأمة الإسلامية لا تزال مشغولة بالنزاعات والحروب الداخلية، مضافًا إلى الجدل النظري العقيم في القضايا العقدية والتاريخية.
نعم، لو أضيف إلى جائزة نوبل فرع للأكثر ولوغًا في القتل والدمار والتخريب لما تعدتنا هذه الجائزة حالياً.
فهذه الأمة التي تنتمي إلى دين يأمر بالعلم، ويتحدث قرآنها عن فضل العلم والعلماء، ويتحدث نبيها بقوله: «طلب العلم فريضة على كل مسلم»[2] ، وقوله : «أكثر الناس قيمةً أكثرهم علماً وأقل الناس قيمةً أقلهم علماً»[3] ، هذه الأمة انصرفت عن العلم تمامًا.
بل الأسوأ من ذلك أن هذه الأمة أضحت مشغولة بالحروب والنزاعات والفتن والدمار، وهذا تحديدًا ما ينبغي أن يستوقف هذا الجيل، حتى يقرر تغيير هذا المسار المدمر، فقد أصبحت صناعة الموت هي المناسبة الاحتفالية الأبرز في ساحاتنا، ولم تجد الفئات المتحاربة طريقًا للاستفادة من وسائل التكنولوجيا الحديثة، إلا بتصوير وتوثيق فظائعها وجرائمها، فلم يكتفوا بارتكاب جرائم القتل وحرق الأحياء والتفجير وسط الأبرياء، بل ذهبوا أبعد من ذلك، نحو توثيق جرائهم تلك ونشرها على أوسع نطاق عالميًا، على نحو الاحتفاء والتفاخر بهذه الأفعال الفظيعة.
وباتت كل فئة من الفئات المتحاربة، من حكومات وتنظيمات، تتنافس مع نظيراتها في تحقيق أعلى قدر من القتل والدمار، فكل فئة تتحدث على مدار الساعة عن الخسائر في الأرواح والمعدات التي حققتها في صفوف الطرف الآخر، وليس هناك من خاسر أكبر في نهاية المطاف سوى الأمة، فالقتل والتدمير المتبادل يأتي على حساب رصيد الأمة من بشر وحجر ومقدرات.
إنه لمن المؤلم جدًا أن تعيش الأمة حالة الاحتفاء بالدمار والتفاخر بالحرب والتقاتل الداخلي. ولعلّ أسوأ ما في النزاعات القائمة أنها تنسب إلى الدين، حتى بات كل طرف من الأطراف المتحاربة يطلق نيرانه على وقع صيحات التكبير، وباسم الله تشعل فتائل التفجيرات الانتحارية وسط الأبرياء، فيخلّفون المجازر ويعتبرون كل ذلك قربة إلى الله!.
إحياء عاشوراء:
من هنا، نحن مدعوون ونحن على أعتاب موسم عاشوراء إلى التفكر في أسباب انشغال العالم بتحقيق أعظم المنجزات العلمية، فيما تغرق أمتنا بالحروب والتقاتل والنزاعات الداخلية. وفي سبيل ذلك، ينبغي أن نشير إلى عدة أمور:
أولها دعوة المؤمنين إلى الإقبال على إحياء مناسبة عاشوراء بشعائرها المعهودة، بالحضور والمشاركة في المجالس والمواكب الحسينية، مع مراعاة المستجدات الأمنية الطارئة، التي تتطلب التزام الحذر وأخذ الاحتياطات الأمنية، والتنسيق مع الجهات الرسمية.
كما أننا مدعوون إلى التزام الترشيد والتقنين، فينبغي أن يجري إحياء هذه المناسبة الدينية بالصورة المناسبة، وهذا يفترض بطبيعة الحال وجود شخصيات اجتماعية من رجال الدين ووجوه المجتمع الواعين للسهر على توجيه هذه الشعائر، وأن لا يترك الباب مفتوحًا لكل ممارسة كيفما اتفق، ولا أن يترك الحبل على الغارب، فينبري كلٌّ لفعل ما يريد تحت اسم هذه المناسبة.
من هنا تنبع ضرورة الترشيد من داخل المجتمع الإيماني نفسه وعبر الواعين من أبنائه، فالتنظيم والترشيد والتقنين أمر مطلوب دائمًا. وتلك وصية أمير المؤمنين الأخيرة حين قال: «أُوصِيكُمَا ... بِتَقْوَى اللَّهِ وَنَظْمِ أَمْرِكُمْ»[4] ، ولا ينبغي أن تترك الأمور على أعنتها دونما تنظيم وترشيد، فنحن من يفترض بنا المبادرة لتنظيم أمورنا وأوضاعنا ومناسباتنا الدينية، بدلًا من أن تفرض علينا القوانين من خارجنا.
تحفيز الكفاءات ورفض التسيب الدراسي:
أما ثاني الأمور المهمة التي ينبغي التأكيد عليها، فهي ضرورة تركيز خطابنا العاشورائي على أهمية العلم والمعرفة وتنمية الكفاءات. وفي هذا السبيل ينبغي الاستفادة إلى أقصى الحدود من المجالس الحسينية وتهيؤ النفوس للاستماع، بأن نوجه الخطاب لأبنائنا وبناتنا لكي يضعوا العلم والمعرفة وتنمية الكفاءة الذاتية في أعلى سلم اهتماماتهم، فهذا هو الميدان، ذلك أن عزة وقوة أي أمة ومجتمع ودين ومذهب، إنما ترتبط بمدى تقدم ابنائه في مجالات العلم والعمل، وليس بالتمنيات ولا بإطلاق الشعارات. من هنا ينبغي أن يكون أهم ما يركز عليه الخطاب الحسيني في عاشوراء، هو التأكيد على أبناء المجتمع بأن يهتموا بالتحصيل الأكاديمي، وتحقيق أعلى الدرجات العلمية. ومن أسف نقول، أننا طالما كنا نفتخر بمستوى الاهتمام والجدية لدى أبنائنا في دراستهم، إلى أن بدأنا نلمح المزيد من التسيب والإهمال والانخفاض في مستوى التحصيل الدراسي، ولذلك نحن معنيون بتشجيع أبنائنا على العلم والمعرفة، فهذا هو الميدان، وهذا ما يأمر به الدين، وهو ما يسر أئمة أهل البيت .
إن إحياء المناسبات الدينية أمر مطلوب، إلا أن التسيب الدراسي أمر مرفوض تمامًا. ولا ينبغي خلط الأوراق عبر تبرير التسيب الدراسي بإحياء المناسبات الدينية، فالتقويم مليء بالمناسبات الدينية الكثيرة من وفيات ومواليد أئمة أهل البيت، وبعض هذه المناسبات فيه أكثر من رواية، وقد بلغ التسيب الدراسي ببعض الطلبة حد البحث عن كل الروايات المعتبرة والضعيفة التي تشير إلى وفيات الأئمة لغرض التغيب عن المدرسة!، والأسوأ من ذلك كما بلغني، هو تشجيع بعض المدرسين للطلبة على التغيب عن الدراسة بحجة المناسبات الدينية، حتى يتخلوا هم عن مهمتهم التعليمية في تلك الأيام، وهذا أمر لا يجوز، فهو يأتي على حساب مستقبل أبنائنا. ولو أخذنا نظرة على سائر أتباع أهل البيت في مختلف الحواضر الشيعية العريقة في العراق ولبنان وإيران، لوجدنا أن العطل الدينية عندهم مقننة بدرجة كبيرة، فأيام العطلة من عاشوراء غالبًا ما تقتصر على التاسع والعاشر من المحرم فقط، فلماذا يحصل التسيب الدراسي عندنا منذ اليوم الأول في محرم ويستمر إلى الثالث عشر من محرم؟ ناهيك عن باقي وفيات الأئمة؟ لا أظن بأن التسيب على هذا النحو يرضي أهل البيت إطلاقًا، بل أن ما يرضيهم هو أن يتفوق أبناؤنا في طلب العلم والمعرفة، وأن يكونوا جادين في دراستهم وحياتهم، وأن نشكل انموذجًا أمام الآخرين بالاجتهاد والجد، وليس بالإهمال والتسيب.
وفي سبيل تحقيق التميز، ينبغي أن نهتم بمواصلة ابتعاث أبنائنا للدراسة في الخارج. حتى لو حصلت تقنينات رسمية جديدة تحد من الابتعاث للدراسة في الخارج، ينبغي أن لا نتراجع عن ابتعاث أبنائنا، وتشجيع الراغبين في العلم والمعرفة على الدراسة في الخارج، وإن كان ذلك على حساب وضعنا الاقتصادي، فالعائلات التي تصرف كثيرًا على الكماليات أو تنمية المدخرات، ينبغي أن تضع في الاعتبار أن أفضل استثمار هو في تنمية الأبناء علمًا ومعرفةً. كما ينبغي على المستوى الاجتماعي أن تخصص حصة من الانفاق الخيري في سبيل الابتعاث للدراسة في الخارج.
وعليه ينبغي أن نستغل مناسبة عاشوراء في تنمية هذه القيمة؛ قيمة العلم والمعرفة، سواء من خلال المجالس أو المواكب الحسينية التي يحضرها الشباب ويشارك فيها بكثافة، فهي تشكّل فرصة لتعزيز هذه القيمة في نفوسهم، نريد أن نرى المشاركين في المآتم والمواكب أشخاصًا ناجحين في دراستهم وحياتهم، وهذا لا يتسنى إلا من خلال المزيد من التوجيه ضمن هذا البعد.
ثقافة المحبة والتعايش:
أما ثالث الأمور المهمة: فينبغي أن تكون مناسبة عاشوراء محطة لبث قيم السلم والمحبة والتعايش، واحترام الآخر، والكف عن اثارة الضغائن والأحقاد، والانشغال بالجدليات المذهبية العقيمة، واجترار القضايا التاريخية المملة. يكفينا ذلك، فإلى متى سنظل نعيش في ظل هذه الثقافة، ذلك أن ما نراه اليوم من أوضاع مزرية في الأمة هو نتاج الجدل العقيم، والعيش في كهوف التاريخ، وثقافة التحريض بين السنة والشيعة ومختلف الأطياف، هذه الثقافة المدمّرة هي التي هيأت الأرضية لإيجاد هذا الواقع البائس، وإن كانت هناك عوامل سياسية ساهمت في تسعير هذا الخلاف، فإنها استفادت من الظروف القائمة، واستثمرت في الأرضية المناسبة، وليس هناك أفضل من الاستثمار السياسي لثقافة الانشغال بالجدليات العقيمة، والتحريض على الآخر.
وإذا كنا نجد طرفًا قد سلك طريق التحريض الطائفي، فهذا لا يبرر لنا الرد عليه بنفس المنطق، فنرتكب ذات الخطأ الذي وقع فيه، ونقوم بذات الدور السيئ الذي يقوم به.
كفى هذه الأمة انشغالًا عن واقعها بالتاريخ الماضي، وكفى هذه الأمة إثارة وتحريضًا على الكراهية، بسبب اختلاف المذاهب والآراء.
إن الإصلاح في الأمة هو الهمّ الأساس لدى أئمة أهل البيت وفي طليعتهم الإمام الحسين . فما تحرك الإمام ونهض إلا لأجل الإصلاح، ولذلك جاءت صرخته الشهيرة: «إنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي»، ناهيك عن أن سائر خطابات الإمام الحسين في عاشوراء لم تكن تثير خلافًا عقديًا أو مسائل فكرية، بمقدار ما كانت تؤصل للقيم الإنسانية والإسلامية النبيلة، من الحرية والعدالة والمساواة والحق، هكذا كانت شعارات الإمام الحسين وخطبه وخطب أهل بيته، فلسنا نجد خطب الإمام الحسين في عاشوراء ولا خطب العقيلة زينب ، تتناول قضايا عقائدية محل جدل وخلاف، بقدر ما تناولت تلك القيم وركّزت عليها، وتبعًا لذلك ينبغي علينا أن نركّز في خطابنا العاشورائي على ذات القيم.