يوم التسامح العالمي.. كيف تستقبله الأمة
اتخذ مفهوم التسامح في العصور الأخيرة أبعادًا واسعة تتجاوز معناه اللغوي المحدود. إذ في حين يذهب المعنى اللغوي للتسامح إلى نواح أخلاقية تنحصر في مفردات التساهل والجود والسخاء والعفو، اضافة إلى تنازل الإنسان عن حقه تجاه الآخرين، فقد أخذ هذا المفهوم في العصر الراهن أبعادًا أوسع وأرحب، خاصة بعدما تبنى هذا المفهوم التنويريون الأوربيون. وقد حدّدت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة «يونسكو»، في بيان صادر عنها عام 1995مفهوم التسامح، وعينت بمقتضاه يوم 16 من نوفمبر من كل عام يومًا للتسامح العالمي والذي اعتمدته الأمم المتحدة، وحددت المنظمة في ذلك البيان معنى التسامح في اللغة الإنسانية المعاصرة.
تناول البيان مفهوم التسامح على نحو أرحب وأكثر تفصيلًا. ومن ذلك، جاء في معنى التسامح أنه الإحترام والقبول للتنوع الثري لثقافات عالمنا، ذلك أن شعوب العالم تزخر بالتنوع الثقافي فلابد وأن يقبل بعضهم بعضًا، وأن يحترم بعضهم بعضًا، وأن لكل جماعة الحق في أن تمارس دينها وتعبر عن ثقافتها وعن ذاتها الحضارية بالطريقة التي تريدها، وعلى الآخرين أن يحترموا هذا الأمر.
حيث جاء في المادة الأولى من البيان الفقرات التالية:
- إن التسامح يعني الاحترام والقبول والتقدير للتنوع الثري لثقافات عالمنا ولأشكال التعبير وللصفات الإنسانية لدينا.
- التسامح هو اتخاذ موقف إيجابي فيه إقرار بحق الآخرين في التمتع بحقوق الإنسان وحرياته الأساسية المعترف بها عالميًا.
- ممارسة التسامح تعني أن المرء حرٌّ في التمسك بمعتقداته وأنه يقبل أن يتمسك الآخرون بمعتقداتهم. والتسامح يعني الإقرار بأن البشر المختلفين بطبعهم في مظهرهم وأوضاعهم ولغاتهم وسلوكهم وقيمهم، لهم الحق في العيس بسلام وفي أن يطابق مظهرهم مخبرهم، وهي تعني أيضًا أن آراء الفرد لا ينبغي أن تفرض على الغير.
وبذلك أصبح معنى التسامح في مفهومه الإنساني العالمي؛ هو الإقرار بالتعددية واحترام الناس في تنوعاتهم الدينية والثقافية والحضارية.
الحروب الدينية في أوروبا:
ولقد تبلور مفهوم التسامح في شكله الراهن على خلفية أجواء الاحتراب والصراع الذي عاشته أوروبا في العصور الوسطى. فقد شهدت القارة في تلك الآونة استبدادًا دينيًا وسياسيًا متعاظمًا، فهناك جهة السلطة الدينية المتمثلة في الكنيسة، والمتحالفة مع سلطة مقابلة متمثلة في الملك أو الإمبراطور، ومن ثم فقد بات من المحتم على الناس الخضوع على نحو مطلق للكنيسة التي تمثل الدين الرسمي للدولة، ونشأت على خلفية هذه الحالة، المقولة الشهيرة «الناس على دين ملوكهم»، ومضمون ذلك أن من حق الحاكم في أي بلد أوروبي أن يعين للناس شكل دينهم، تمامًا كما يعين للدولة اتجاهها السياسي والاقتصادي. وقد كان للكنسية تصوراتها الخاصة حول الخلق والكون ومجمل نواحي الحياة، حيث لم تقتصر آراء الكنيسة على الأمور الروحية بل كانت لها تفسيراتها لحركة الطبيعة وأنظمة الكون، ولم يكن يحق لأحد من الناس تبني أي تصور آخر مغاير، ولو كان عالمًا متخصصاً، حتى بات يوصف بالهرطقة كل صاحب رأي علمي أو فلسفي مخالف لرؤية الكنيسة، وقد كان مصير كل متهم بالهرطقة التعرض لمختلف أنواع العقوبات بما في ذلك الموت حرقًا.
وقد حدثت إثر ذلك انشقاقات داخل الكنيسة الكاثوليكية. وتشكلت عندئذ العقيدة البروتستانية في مقابل الكنيسة الكاثوليكية المهيمنة، وقد وقفت الأخيرة موقفًا عنيفًا إزاء هذا الإنشقاق، وقاد ذلك إلى الدخول في حروب وصراعات دموية، وحالات اضطهاد مريرة، ضد اتباع العقيدة الجديدة، حتى أحرق أكثر من ثلاثمائة من الأساقفة ورجال الدين البروتستانت. في المقابل، عندما قويت شوكة المذهب البروتستانتي الذي نال حصة الأسد من الاضطهاد فيما سبق، أعاد البروتستانت عندما حكموا بريطانيا الصاع صاعين للكاثوليك. وهكذا عاشت أوروبا حالة استبداد واحتراب عنوانها الدين المسيحي كما تفهمه هذه الكنيسة أو تلك، وحصلت اثر هذا الصراع فظائع في أوروبا راح ضحيتها آلاف العلماء والمفكرين وعامة الناس سجنًا وتعذيبًا وقتلًا وحرقًا وتهجيرًا، حتى ذاع المصطلح الشهير «حرب الثلاثين عامًا» لواحدة من جولات هذا الصراع الذي درات رحاه خلال القرن السادس عشر، والتي شهد ارتكابات وفظائع من كل جهة ضد الجهة الأخرى.
التسامح طريق الخلاص:
واثر هذا الصراع الديني المدمّر اتجه العلماء والمفكرون الواعون إلى تلمس سبل الخروج من هذه الدوامة القاتلة. وفي هذا السياق طرح مفهوم التسامح، ذلك التسامح الذي يعني أن يعيش الناس أحرارًا في أديانهم وعقائدهم، ولهم وحدهم حرية اختيار الدين او المذهب أو العقيدة التي يتعبدون بها خالقهم، وأن السلطة الزمنية السياسية معنية فقط بالشئون العامة السياسية والاقتصادية، ولا دخل لها من قريب أو بعيد في الشأن الفكري و الديني للناس. ومن هنا جاءت الدعوات للفصل بين الشأن السياسي والشأن الديني، وأنه لم يعد يجوز لأحد كائنًا من كان أن يضطهد أحدًا آخر على أساس رأي فكري أو معتقد ديني.
وتبعًا لذلك بدأت تشيع فكرة التسامح. وقد كتب المفكرون التنويريون مقالات ورسائل عديدة حول التسامح، ودفع كثير منهم أثمانًا باهظة لتبنيهم هذه الفكرة، فقد سجن وقتل وأحرق كثيرون منهم، خاصة مع وجود كتاب موالين للكنيسة راحوا يقرنون فكرة التسامح بالفوضى ودمار المجتمعات وتقويض العقيدة المسيحية الصحيحة، وزعموا أن التسامح سيجعل الناس تعيش اللامبالاة، مما يقودهم إلى دخول النار يوم القيامة، حتى أن أحدهم التقط عبارة من الانجيل مستدلًا على ضرورة اجبار الناس على اعتناق الدين المسيحي قهرًا، جاء فيها «أرغموهم على الدخول ـ في المسيحية ـ». ورغم الأثمان الباهظة التي دفعها المفكرون التنويريون إلا إن مفهوم التسامح انتصر في نهاية المطاف، حين قامت الدولة الأوربية الحديثة على أساس هذا المفهوم، وإقرار حقوق المواطنة واحترام خيارات الناس، وبذلك تجاوزت القارة حالة الاستبداد السياسي والديني.
جهود المفكرين الأوربيين وتضحياتهم:
لم يتخلص الأوربيون من الاستبداد الديني والسياسي بسهولة ويسر، ولم يحتضن الرأي العام في مجتمعاتهم مفهوم التسامح بين عشية وضحاها، بل تطلّب ذلك تضحيات كبيرة، واستغرق قرونًا من النضال وجهود المفكرين والمصلحين.
ولعل حركة الإصلاح الديني التي قام بها مارتن لوثر(1483 ـ 1546م) هي المنعطف التي أعطت لدعوة التسامح زخماً وتأثيراً بارزًا في تلك المجتمعات، حيث رفع صوته عاليًا ضد القمع وإرهاب الكنيسة، وتحداها أن تواجه الفكر بالفكر وليس بالعنف، وقال سنة 1520م: «ينبغي التغلب على الملحدين بواسطة الكتابة لا بواسطة النار». وأكدّ مارتن لوثر حرية الاعتقاد، والفصل بين الروحي والدنيوي، وطالب بإلغاء محاكم التفتيش، ووقف كل إجراء ضد من تعتبرهم الكنيسة هراطقة وملحدين.
كما تصدى المفكر كاستيلو (توفي سنة 1561م) للدفاع عن التسامح الديني، وألّف كتابًا مهمًا عن التسامح (سنة 1554م) أورد فيه آراء في حرية الاعتقاد لعلماء ومفكرين سابقين، وأكدّ أن عدم التسامح يتناقض مع المحبة التي دعا إليها المسيح، كما يتناقض مع العقل.
وفي سنة 1687م أصدر المفكر وليم بن كتابًا حول (معقولية التسامح وعدم معقولية قوانين العقوبات والاختبارات) أكدّ فيه أنه لا يجوز مطلقًا استخدام الإكراه في شؤون الإيمان، لأن القوة لا يمكن أن تضع نفسها محل تلك الأمور التي تتصل بعقل الإنسان. مقررًا أن حرية الضمير هي الحق الطبيعي للإنسانية.
وضمن مسيرة هذا النضال ضد الاستبداد الفكري كانت كتابات ﭘﻴﲑ بيل بين سنة 1681 – 1686م والتي فنّد فيها مبررات القمع الديني، الذي يستند إلى سوء تفسير بعض عبارات الكتاب المقدس، كالعبارة الواردة في انجيل لوقا (إصحاح 14 عبارة 23): «أكرهوهم على الدخول» حيث فسروها على أنها دعوة إلى إكراه الناس على اعتناق المسيحية.
مشيرًا إلى أن عبارة يسوع هذه لا يمكن ولا ينبغي أن تفسّر بمعنى حرفي وإلا فإنها غير معقولة، وبرهن بحجج برهانية عديدة أن لا أمر أفظع من إرغام الناس بالقوة على تغيير دينهم، وقد خصص كتابًا للردّ على مقولة «أكرهوهم على الدخول» المنسوبة ليسوع المسيح.
وكتب في الردّ على المعارضين لمفهوم التسامح بحجة أنه يتيح الفرصة لانتشار الفرق الشاذة وتعددها إلى غير نهاية، مجيبًا بأن «هذا التعدد الهائل في الفرق والمذاهب أفضل من المذابح والمشانق والغارات الهمجية وكل الاضطهادات القاسية التي سعت الكنيسة بواسطتها إلى المحافظة على الوحدة دون أن تفلح في ذلك».
ويبرز اسم المفكر جون لوك في طليعة المنظرين لمفهوم التسامح والمؤثرين في تعميقه في أوساط المثقفين والنخب الفاعلة في المجتمعات الأوربية.
جون لوك كان في بداية مشواره الفكري مخالفًا للتسامح ويراه مجرد اسم آخر للعصيان، والفوضى كما تشير إليه كتاباته سنة 1661 – 1662م، لكن بعد سنوات قليلة بدأ يميل للتسامح وكتب (بحثًا في التسامح) سنة 1667م وفي مذكراته التي كتبها سنة 1679م سجّل ملاحظات مهمة لتعميق فكرة التسامح، ومواجهة القمع والإكراه الديني والفكري.
وجاء كتابه الشهير (رسالة في التسامح) سنة 1689م ليقدم مفهوم التسامح بلغة وبيان أكثر تطورًا ونضوجًا، وتلاقفه المفكرون والمثقفون في مختلف أنحاء أوربا وترجموه من اللاتينية إلى الانجليزية وسائر اللغات الأوربية، وكانت بعض طبعات الكتاب تنفذ في شهور قليلة.
ولم يكن الكتاب يحمل اسم مؤلفه في طبعاته الأولى حيث كان لوك يكتم أنه المؤلف، ولم يعلن ذلك إلا قبل وفاته بشهر واحد في حاشية وصيته، حيث توفي سنة 1704م.
وقد ترجم هذه الرسالة إلى اللغة العربية الدكتور عبدالرحمن بدوي وكتب مقدمة مستفيضة وتعليقات مهمة، ومع اختصار هذه الرسالة إلا أنها كانت مصدر إلهام لجميع المفكرين في المجتمعات البشرية.
التسامح واجب سياسي قانوني:
ان مسألة التسامح لم تعد مسألة أخلاقية وعظية. سيما وقد بتنا نسمع في أوساطنا الكثير من الكلام حول التسامح، ذلك أن التسامح يجب أن يصبح قانونًا ونهجًا سياسيًا تلتزم به الدول وتوفر له البيئة الحاضنة. ولقد أشار البيان العالمي للتسامح لهذا الأمر بوضوح، حيث شدد البيان على أن تكون سياسة كل دولة وحكومة منسجمة ومنبثقة من مفهوم التسامح، وأن تحترم التنوع الموجود لدى مواطنيها على مستوى العقائد والثقافة والتوجهات، وأنه لا يصح أبدًا لأي سلطة أن تنظر إلى مواطنيها من خلال أفكارهم ومعتقداتهم ومذاهبهم، فالسلطات غير معنية بهذا الأمر مطلقًا، كونه شأنًا خاصًا بالأفراد أنفسهم. وتبعًا لذلك ينبغي أن يكون مفهوم المواطنة قبل أي عنوان وفوق أي اعتبار آخر.
يقول البيان في المادة الثانية:
- إن التسامح على مستوى الدولة يقتضي ضمان العدل وعدم التحيز في التشريعات وفي إنفاذ القوانين والإجراءات القضائية والإدارية. وهو يقتضي أيضًا إتاحة الفرص الاقتصادية والاجتماعية لكل شخص دون أي تمييز. فكل استبعاد أو تهميش إنما يؤدي إلى الإحباط والعدوانية والتعصب.
- وقد يتجسد عدم التسامح في تهميش الفئات المستضعفة، واستبعادها من المشاركة الاجتماعية والسياسية، وممارسة العنف والتمييز ضدها.
كما وشدد البيان العالمي للتسامح في شق آخر على أهمية التربية والتعليم. أن تكون التربية والتعليم للناشئة في مختلف المجتمعات قائمة على التسامح واحترام الآخرين. وبالفعل فإن مناهج التعليم في البلاد المتقدمة تهتم بتنمية المدارك العلمية، وتربية ذهن الطالب على التفكير، وإعداده مواطنًا صالحًا، بعيدًا عن الخصوصيات الدينية التي قد تختلف فيها انتماءات الطلاب، بل إنها تغرس في نفوسهم قيمة الاحترام للآخر وتفهم اختياراته، وفي بعض تلك البلدان كبريطانيا تتاح الفرصة للطلاب عند تنوع توجهاتهم الدينية أن يشرحوا دياناتهم وتقاليدهم أمام زملائهم في الفصل ضمن حصص مخصّصة، كما نقل ذلك عدد من المبتعثين.
أما في بلاد المسلمين فمناهج التعليم في كثير منها لا تراعي التنوع الديني والمذهبي، بل تفرض منهجًا في التعليم الديني وفق المذهب الرسمي للدولة، وأنه وحده الحق دون المذاهب الأخرى، ويتضمن في بعض الحالات إساءة للمذاهب الأخرى واحتقارًا لأتباعها، وذلك هو ما يصنع ارضية طائفية، ويربي على التعصب والتشدد، وينمي في نفوس الناشئة كراهة الآخر وممارسة التحريض عليه، مما يهيئ لقبول توجهات العنف والإرهاب.
تقول المادة الرابعة من بيان التسامح:
- إن التعليم هو أنجع الوسائل لمنع اللاتسامح، وأول خطوة في مجال التسامح، هي تعليم الناس الحقوق والحريات التي يتشاركون فيها، وذلك لكي تحترم هذه الحقوق والحريات، فضلًا عن تعزيز عزمهم على حماية حقوق وحريات الآخرين.
- وينبغي أن يعتبر التعليم في مجال التسامح ضرورة ملحة، ولذا يلزم التشجيع على اعتماد أساليب منهجية وعقلانية لتعليم التسامح تتناول أسباب اللاتسامح الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية والدينية أي الجذور الرئيسية للعنف والاستبعاد، وينبغي أن تسهم السياسات والبرامج التعليمية في تعزيز التفاهم والتضامن والتسامح بين الأفراد وكذلك بين المجموعات الاثنية والاجتماعية والثقافية والدينية واللغوية وفيما بين الأمم.
- إن التعليم في مجال التسامح يجب أن يستهدف مقاومة تأثير العوامل المؤدية إلى الخوف من الآخرين واستبعادهم، ومساعدة النشء على تنمية قدراتهم على استقلال الرأي والتفكير النقدي والتفكير الأخلاقي.
إن من المؤسف القول، أن المناهج التعليمية في بعض بلاد المسلمين صارت تربي الناشئة على التعصب الديني. فهي لم تتخل عن تربية الناشئة على التسامح وحسب، بل على النقيض من ذلك، ذهبت بعيدًا في تربيتهم على التعصب الديني، واحتقار أتباع الديانات والمذاهب والثقافات الأخرى. والمثير للسخرية أن يأتي بعد ذلك من يستغرب خروج جحافل الارهابيين من أبناء مجتمعاتنا، أولسنا نحن الذين غرسنا في نفوسهم بذرة الإرهاب، من خلال تربيتهم على التعصب، والتحريض على الغير، أوليس هذا هو ما يزرع بذور الإرهاب والعنف في نفوسهم!
المؤسسة الدينية والدعوة للتسامح:
لا شك أن كل مؤسسة دينية تقوم على حماية العقيدة التي تتبناها، وتؤمن بأحقيتها وصوابيتها، لكن هناك سؤالين يفرضان نفسيهما على المؤسسة الدينية عبر تاريخها الطويل:
السؤال الأول: هل يحق لها أن تفرض عقيدتها على الآخرين بالقهر والإجبار؟
والسؤال الثاني: هل يستلزم الايمان بأحقية دين أو مذهب الإساءة والظلم والاحتقار لأتباع الأديان والمذاهب الأخرى؟
يمكن القول أن الاخفاق في الإجابة على السؤالين بما ينسجم مع القيم الأخلاقية كان حليفاً لمعظم المؤسسات الدينية في تاريخها الطويل، مع أن الأنبياء والرسل الذين جاءوا بالشرائع الدينية ضربوا المثل الأعلى في الالتزام بقيم الأخلاق ومراعاة العدل والكرامة مع المخالفين لهم والرافضين لدعواتهم.
وللإنصاف فإن الكنيسة المسيحية بعد أن كسر المجتمع الأوربي هيمنتها، اصبح خطابها ينحو نحو الاعتدال وخاصة في هذا العصر.
ولعلنا نشهد اليوم كيف تحول دور الكنيسة كليًا في المجتمعات الغربية، فبعد أن كانت مصدرًا أساسًا من مصادر التعصب، وتشريع الإضطهاد والقمع، تحول الخطاب الديني فيها ـ أو معظمها ـ، حتى صار النهج العام في الكنيسة هو النهج القائم على الدعوة للمحبة، ونحن إنما نقول ذلك لا للدعاية، وإنما لعرض جانب من مسارات التوجيه للمجتمع، حيث بات يجري التأكيد من خلال الخطاب الديني في الكنيسة على المحبة والاحترام المتبادل، وإن وجدت توجهات متعصبة داخل الكنيسة فهي تبقى محدودة ومعزولة، أما النهج العام فيشدد على رفض الاضطهاد الديني والتمييز بين الناس على أساس أديانهم ومذاهبهم. في المقابل لا يزال الدين يستخدم في مجتمعاتنا الاسلامية لأغراض التعبئة والتحريض، حيث يتجه الخطاب الديني في معظمه نحو تعبئة الأتباع ضد الأطراف الأخرى، ورغم أن مجتمعاتنا تعج بالمشاكل الاجتماعية والأزمات الاقتصادية، إلا ان الخطاب الديني فيها لا يجد نفسه معنيًا بكل ذلك، وعوضًا عن ذلك تراه غارقًا في الخلافات العقدية والمسائل المذهبية، واثبات الأحقية الدينية لفريقه وبطلان موقف الفرق الأخرى، والولوغ بعيدًا في القضايا التاريخية. إن هذه التعبئة، والفعل ورد الفعل، هي التي تخلق الأجواء للظواهر العنفية الإرهابية والتوجهات التعصبية.
إن السلوكيات التعصبية لم تأت من فراغ. بل جاءت كنتيجة للأجواء العامة التعبوية، والتربية العدوانية تجاه الآخرين، حتى بات المرء لا يستطيع أن يمارس عبادته الخاصة بحرية. ولقد تكرر معي شخصيًا في حادثتين منفصلتين، مواقف متشنجة من متعصبين أبدوا ضيقهم الشديد من مجرد وضعي ورقة أردت السجود عليها أثناء الصلاة، وقد حدث ذلك في أحد المستشفيات مرة، وأخرى في أحد المنافذ الحدودية. ولا تفسير لمثل هذا التعصب سوى أن النفوس باتت مشبعة بالتعصب، بحيث لم تعد تتقبل أن يعبر الآخر عن ذاته بأي شكل من الأشكال، وإلا فما الذي يضيرك أنت من أن أعبر عن هويتي الدينية وأن أمارس عبادتي وفق طريقتي، حتى وإن لم تنل رضاك واعجابك، تمامًا كما تعطي لنفسك الحق في التعبير عن هويتك وعبادتك!. ان هذه الحالة من التنافر هي التي تخلق الأجواء وتصنع البيئة المواتية لحالات العنف والإرهاب ونشوء الصراعات والإحن والبغضاء بين أبناء المجتمعات.
ونحن نحتفي باليوم العالمي للتسامح ينبغي أن نعود إلى مبادئ ديننا النقية. ولعل اطلالة على الآية الكريمة ﴿فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ ۗ وَقُل لِّلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ ۚ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوا ۖ وَّإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ ۗ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ﴾، تفيدنا هذه الآية الكريمة أن الله يأمر نبيه أن يبين دعوته للناس من المنتمين للديانات الأخرى وهم أهل الكتاب، ومن غيرهم، وأنهم أصحاب القرار والاختيار لأنفسهم، فإن استجابوا لدعوة الرسول فقد اهتدوا إلى الحق، وإن لم يستجيبوا فهم أحرار، ومسؤولية الرسول تنتهي عند حدود التبليغ، ثم ترك المسألة بين الناس وربهم المطلع على أمورهم. من هنا، نحن أحوج ما نكون كأفراد ومجتمعات ومؤسسات إلى تعميق مفهوم التسامح في حياتنا، على المستوى العائلي، وعلى مستوى الخطاب الديني، فالواجب الحرص على أن يكون الخطاب الذي نصغي إليه ملتزمًا بمفهوم التسامح، وإذا ما كنا نطالب الآخرين بوجوب التزام الخطاب المتسامح معنا، فإن الواجب علينا نحن فعل الشيء نفسه، ولا يليق أبدًا الإساءة للآخرين تحت مزاعم الحق في التعبير عن الرأي، فالحق في التعبير مكفول للجميع، لكن العدوان والإساءة للآخرين والتحريض عليهم أمر مرفوض قطعًا أيًا ما كان مصدره. آن الآوان أن تفكر أمتنا، حكومات وشعوبًا وجماعات ومؤسسات دينية، في أن تتجاوز هذه الحالة، وأن نعيش في وئام وسلام، وأن نتفرغ جميعًا نحو تنمية أوطاننا ومعالجة مشاكلنا وتحقيق التقدم العلمي والتكنولوجي والاقتصادي فيها، كما تفعل المجتمعات المتحضرة.