الإمام زين العابدين وخيارات المرحلة
من الطبيعي أن تشكل واقعة بحجم واقعة الطف منعطفاً في حياة أهل البيت ، وأوساط شيعتهم، لجهة تأثيراتها النفسية والفكرية والسياسية، فالجرأة على قتل الإمام الحسين وأصحابه بتلك الطريقة البشعة، وسبي نسائه وعياله، كان عدواناً صادماً في مجمله وتفاصيله، وكانت السلطة الأموية تقصد منه الردع حتى لا يفكر أحد في مواجهتها، فإذا كان الحسين بن علي سبط رسول الله وريحانته وسيد شباب أهل الجنة، ليست له حصانة تحميه من بطش السلطة، فمن يأمن على نفسه بعده؟
وقد شاهد الإمام زين العابدين مشاهد المأساة بأمّ عينيه، وعاش فجائعها وأهوالها، وقد آلمه وأمضّه سكوت الأمة على هذه الجريمة النكراء، والمصاب الجلل. حيث اقتصر تفاعل جمهور الأمة بعد الحادثة على إبداء مشاعر الحزن والبكاء، وقد علق الإمام زين العابدين حينما سمع بكاء نساء أهل الكوفة بقوله: إلا إنّ هؤلاء يبكون فمن قتلنا؟[1].
وعندما عاد إلى المدينة المنورة مع قافلة السبايا من عيال الحسين، وخطب فيمن استقبله من جمهور المدينة، مستعرضاً لهم هول المأساة التي أصابت آل رسول الله بقوله:
"إنّ الله تعالى ابتلانا بمصائب جليلة، وثلمة في الإسلام عظيمة، قتل أبو عبد الله وعترته، وسبي نساؤه وصبيته، وداروا برأسه في البلدان من فوق عامل السنان، وهذه الرزية التي لا مثلها رزية"[2].
لم يجد منهم تفاعلًا يذكر غير إبداء مشاعر الحزن، ولم تذكر المصادر شيئًا عن رجالات المدينة المعروفين، إلا أنّ صوحان بن صعصعة بن صوحان قام فاعتذر إليه، فترحّم الإمام على أبيه[3].
زين العابدين وهو القائد من أهل البيت لهذه المرحلة الصعبة، لم يكن معروفًا لدى جماهير الأمة بمستوى معرفتها لأبيه الحسين، الشخصية الأخيرة من أصحاب الكساء، وكان زين العابدين بعد حادثة كربلاء سنة 61هـ شاباً يخطو في بداية العقد الثالث من عمره، حيث ولد سنة 38هـ، فلم تكن الأمة تعرف فضله وكفاءته بعد.
أمام هذا الواقع الذي واجهه زين العابدين، كان الأمر مفتوحاً على مختلف الاحتمالات والخيارات التي يمكن أن يأخذ بها الإمام في تصدّيه للقيادة، وتحمّل المسؤولية.
خيار الانكفاء والعزلة
كان هناك خيار الانكفاء والعزلة بأن يبتعد الإمام عن الشأن العام، ويعتزل المجتمع، كردة فعل على الموقف السلبي تجاه مقتل الإمام الحسين ، وتلافياً لأيّ اصطدام مع السلطة.
وهذا ما روّج بعض الكتاب والمؤرخين حصوله، مقرّرين أنّ الإمام أخذ فعلًا بهذا الخيار، واعتكف للعبادة، وانشغل بالدعاء.
حتى في عصر الإمام كان البعض يعيب الإمام بذلك، كما ورد في بعض الروايات أنّ عباد البصري قال لِعَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ : أَقْبَلْتَ عَلَى الْحَجِّ وَ تَرَكْتَ الْجِهَادَ فَوَجَدْتَ الْحَجَّ أَلْيَنَ عَلَيْكَ وَاللَّهُ يَقُولُ: ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَ أَمْوالَهُمْ﴾الْآيَةَ، قَالَ فَقَالَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ : اقْرَأْ مَا بَعْدَهَا قَالَ فَقَرَأَ- ﴿التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ إِلَى قَوْلِهِ- وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ﴾ قَالَ فَقَالَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ : إِذَا ظَهَرَ هَؤُلاءِ لَمْ نُؤْثِرْ عَلَى الْجِهَادِ شَيْئاً[4].
وتقول الدكتورة سميرة مختار الليثي[5]: (افتقدت الشيعة بمصرع الحسين الزعيم الذي يكون محورًا لجماعتهم وتنظيمهم، والذي يقودهم الى تحقيق تعاليمهم ومبادئهم. وانصرف الإمام عليّ زين العابدين عن السياسة إلى الدين وعبادة الله عزّ وجلّ، وأصبح للشيعة زعيمًا روحيًّا. ولكنّه لم يكن الثائر السياسي الذي يتزعّم جماعة الشيعة، حتى إنّه آثر البقاء في المدينة طوال حياته. وحاول المختار بن أبي عبيدة الثقفي أن ينتزع عليًّا من حياة التعبيد، والاشتغال بالعلم إلى ميادين السياسة، دون جدوى!).
ويقول كاتب آخر[6]: (كانت فاجعة مقتل أبيه التي شاهدها ببصره أقسى من أن تتركه يطلب بعد ذلك شيئًا من إمارة الدنيا، أو يثق في الناس، أو يشارك في شأن من شؤون السياسة، اعتكف على العبادة...).
ويقول أحد الباحثين الزيديين[7]: (وفي تاريخ الشيعة ـ كذلك ـ نشأت نظرات متخاذلة، تولّدت من شعور بعض العلويين وأنصارهم بالهزيمة الداخلية، وقلة النصير، وفجعتهم التضحيات الكبيرة التي قدّموها، ففضّلوا السلامة.
وقد وطّدت معركة كربلاء من هذا الاتّجاه، إذ كان تأثيرها مباشرًا على علي بن الحسين الذي ابتعد ـ من هول الفجيعة ـ عن السياسة، ونأى بنفسه عن العذاب الذي عاناه من سبقه، وعلى قريب من هذا النهج سار ابنه محمد، وحفيده جعفر).
وسيتضح لنا فيما بعد خطأ هذا الاستنتاج والتحليل، من خلال رصد حضور الإمام في الساحة الاجتماعية، ومتابعة مواقفه في الاهتمام بالشأن العام، حيث يتعذّر على الإمام التخلي عن مسؤولياته الرسالية، وأخذ موقف اللامبالاة تجاه قضايا الأمة.
خيار الصدام مع السلطة
أما الخيار الآخر الذي كان من الممكن أن يسلكه الإمام فهو خيار التصعيد ضد السلطة الأموية، والاندفاع نحو الانتقام منها.
وكانت أرضية هذا الخيار قائمة، ومبرراته حاضرة. وذلك:
أولًا: لفظاعة ما ارتكبته السلطة تجاه أهل البيت في كربلاء، مما يشحن نفوس الهاشميين وشيعتهم بالسخط والغضب، ويستثيرهم للانتقام والردّ.
ثانيًا: توغّل السلطة في الظلم والفساد والانحراف، مما يجعل الثورة عليهم مصداقًا لما ورد في الدين من واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومقاومة الظلم والطغيان والفساد.
ثالثًا: اختمار إرادة الثورة والرفض للسلطة في أوساط جماهير الأمة، حيث تجاوز الناس آثار الصدمة بما حصل في كربلاء، وبدأوا مراجعة أنفسهم، وشعروا بتوبيخ الضمير، من السكوت على ما حدث، فتفجرت الثورات والانتفاضات تباعًا ضد السلطة الأموية.
وقد عاصر الإمام زين العابدين اندلاع عدد من تلك الثورات، من أبرزها:
- ثورة أهل المدينة (63هـ) بقيادة عبدالله بن حنظلة (غسيل الملائكة) وقد طردوا بني أمية من المدينة، فأرسل إليهم يزيد بن معاوية جيشًا بقيادة مسلم بن عقبة، يقول ابن كثير: "أباح مسلم بن عقبة، الذي يقول فيه السلف مسرف بن عقبة - قبّحه الله من شيخ سوء ما أجهله - المدينة ثلاثة أيام كما أمره يزيد، لا جزاه الله خيرًا، وقتل خلقًا من أشرافها وقرائها وانتهب أموالًا كثيرة منها، ووقع شرٌّ عظيم وفساد عريض"[8]، فبلغ عدد القتلى في بعض الروايات عشرة آلاف شخص، و "ولدت ألف امرأة من أهل المدينة بعد وقعة الحرة من غير زوج"[9].
لقد طرد أهل المدينة الأمويين وكانوا قرابة ألف شخص، وكانت بعض عوائلهم مهددة تخشى الهجوم عليها، فطلب مروان بن الحكم من الإمام زين العابدين حماية عوائلهم، وينقل أنّ مجموع من حماهم الإمام زين العابدين (400) نسمة كانت منهم بنت عثمان بن عفان، ولم يذكر التاريخ مكان تجمع هذا العدد الهائل من النفوس، فهناك من يذكر الحماية فقط من دون تحديد المكان، ومنهم من يذكر الحماية والخروج بهم إلى ينبع.
وقد هيأ الإمام لهؤلاء الحماية الامنية والمعاشية، بحيث صرح البعض أنّ الخدمات التي قدّمها الإمام كانت أفضل مما في بيوتهم وعند أهلهم[10].
وأورد ابن الأثير في تاريخه، أنّ يزيد لما سيَّر مسلم بن عقبة قال له: (ادْعُ الْقَوْمَ ثَلَاثًا، فَإِنْ أَجَابُوكَ وَإِلَّا فَقَاتِلْهُمْ، فَإِذَا ظَهَرْتَ عَلَيْهِمْ فَانْهَبْهَا ثَلَاثًا، فَكُلُّ مَا فِيهَا مِنْ مَالٍ أَوْ دَابَّةٍ أَوْ سِلَاحٍ أَوْ طَعَامٍ فَهُوَ لِلْجُنْدِ، فَإِذَا مَضَتِ الثَّلَاثُ فَاكْفُفْ عَنِ النَّاسِ، وَانْظُرْ عَلِيَّ بْنَ الْحُسَيْنِ فَاكْفُفْ عَنْهُ وَاسْتَوْصِ بِهِ خَيْرًا، فَإِنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ مَعَ النَّاسِ، وَإِنَّهُ قَدْ أَتَانِي كِتَابُهُ)[11].
- ثورة عبدالله بن الزبير في مكة (65هـ)، حيث أعلن ثورته وانضمّ إليه بعض الخوارج، والفارّون من المدينة وسواهم، فزحف إليهم الجيش الأموي بقيادة الحصين بن نمير السكوني، وحاصر مكة المكرمة، وضربوا الكعبة بالمنجنيق وأحرقوها، وفي الأثناء مات يزيد بن معاوية، فقوي موقف ابن الزبير وسيطر على مناطق الحجاز، ومناطق في العراق حتى هزمه الأمويون.
- ثورة التوابين في العراق (65هـ)، بقيادة سليمان بن صرد الخزاعي. الذي التف حوله جمع من أهالي الكوفة النادمين على عدم نصرتهم للحسين، فخرجوا تكفيرًا عن ذنبهم للانتقام من قتلة الحسين وكانوا أربعة آلاف رجل وواجههم الجيش الأموي فأبادهم.
- ثورة المختار الثقفي (66هـ)، الذي قاد انتفاضة في الكوفة وسيطر عليها، وطرد والي عبدالله بن الزبير، وصفّى جميع قتلة الحسين، كما تصدّى للجيش الأموي الذي جاء لمحاصرته، وقتل قائده عبيدالله بن زياد.
- ثورة مطرف بن المغيرة (77هـ)، وكان واليًا على المدائن من قبل الحجاج لكنه ثار على الحجاج وخلع عبدالملك بن مروان.
- ثورة عبدالرحمن بن الأشعث (81هـ)، الذي انتفض ضدّ طغيان الحجاج وخلع عبد الملك بن مروان واستمرت ثورته من سنة 81هـ إلى 83هـ حيث قضى عليها الحجاج بجيوش زاحفة من الشام.
لكن الملاحظ أنّ الإمام لم يتجه لاستثمار هذه الأجواء بإعلان الثورة والمعارضة للسلطة، ولم يشترك في أيّ من هذه الثورات، ولم يعلن دعمًا وتأييدًا لها، إلا ما ظهر من الشكر لله تعالى والثناء على المختار لقتله قتلة الحسين ، حيث أورد بعض المؤرخين إنَّ "عَلِيَّ بنَ الحُسَينِ عليه السلام لَمّا اُتِيَ بِرَأسِ عُبَيدِ اللّه ِ بنِ زِيادٍ ورَأسِ عُمَرَ بنِ سَعدٍ، قالَ: فَخَرَّ ساجِدًا، وقالَ: الحَمدُ للّه ِِ الَّذي أدرَكَ لي ثاري مِن أعدائي، وجَزَىَ اللهُ المُختارَ خَيرا"[12].
هذا ولم ينقل عن الإمام زين العابدين أيّ تصريح وحديث لا من قريب ولا من بعيد عن حركة التوابين على الرغم من حدوثها في فترة انقلاب سياسي وفراغ قيادي في الأمة[13].
وقد روي أن المختار أرسل إلى عليّ بن الحسين بعشرين ألف دينار فقبلها وبنى بها دار عقيل بن أبي طالب ودارهم التي هدمت، قال: ثم إنه بعث إليه بأربعين ألف دينار بعدما أظهر الكلام الذي أظهره[14].
وفي المقابل روي أيضًا: أنّ المختار بعث إلى عليّ بن الحسين (عليه السلام) بمائة ألف درهم فكره أن يقبلها منه وخاف أن يردها، فتركها في بيت، فلما قتل المختار كتب إلى عبد الملك يخبره بها فكتب إليه "خذها طيبة هنيئة "[15].
وتشير بعض النصوص التاريخية إلى أنّ السلطة الأموية كانت مطمئنة لموقف الإمام وراضية عنه. كقول يزيد لمسلم بن عقبه: "وَانْظُرْ عَلِيَّ بْنَ الْحُسَيْنِ فَاكْفُفْ عَنْهُ وَاسْتَوْصِ بِهِ خَيْرًا، فَإِنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ مَعَ النَّاسِ، وَإِنَّهُ قَدْ أَتَانِي كِتَابُه".
وأورد الذهبي عن الزهري، قَالَ: كَانَ عَلِيٌّ مِنْ أَحْسَنِ أَهْلِ بَيْتِهِ طَاعَةً وَأَحَبَّهُمْ إِلَى مَرْوَانَ وَإِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ"[16].
ولقد كانت علاقة مروان بن الحكم الأموي، بالخصوص، طيّبة مع الإمام لما أبداه الإمام تجاهه من رعاية، أيام وقعة الحرّة، وكان مروان شاكرًا للإمام عليه السلام هذه المكرمة.
وطبيعي أن يعرف عبدالملك بن مروان، للإمام زين العابدين هذه اليد والمكرمة.
ولذلك نراه، لمّا ولي الخلافة، يكتب إلى واليه على المدينة الحجّاج الثقفي يقول: "أَمَّا بَعْدُ: فَانْظُرْ دِمَاءَ بَنِي عَبْدِ المُطَّلِبِ فَاحْقُنْهَا وَاجْتَنِبْهَا فَإِنِّي رَأَيْتُ آلَ أَبِي سُفْيَانَ لَمَّا وَلَعُوا فِيهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا قَلِيلًا وَالسَّلامُ"[17].
والإمام لم يمرّ بهذه الرسالة بشكل طبيعيّ، بل بادر الى إرسال كتاب الى عبدالملك، يقول فيه: "فإنك كتبت يوم كذا وكذا، من ساعة كذا وكذا، من شهر كذا وكذا، بكذا وكذا. وإنّ رسول الله أنبأني وأخبرني، وأن الله قد شكر لك ذلك وثبّت ملكك، وزاد فيه برهة"[18].
خيار الحضور وبثّ الوعي
وهناك خيار ثالث يبدو أنّ الإمام قد اختاره وسلكه، وهو تفعيل الدور القيادي لأهل البيت، بالحضور في ساحة الأمة، وبثّ الوعي في أرجائها، وتربية القيادات الصالحة، وتنمية روح الالتزام المبدئي في نفوس أبناء الأمة.
ومن يقرأ سيرة الإمام زين العابدين يجدها مفعمة بالنشاط والحركة على هذا الصعيد، بدأً من اهتمامه بالفقراء والمحتاجين، ومواظبته على الحضور في المسجد النبوي الشريف، واحتوائه لأعداد كبيرة من الموالي لتربيبتهم قبل منحهم الحرية والانعتاق، إلى تربية العلماء والفقهاء والمحدثين الذين وردت تراجم العشرات منهم في كتب التراجم وفي طليعتهم ولده الإمام الباقر الذي دشّن عهدًا زاهرًا للمعرفة والعلم، والشهيد زيد الذي حمل راية الثورة والجهاد.
والبعد الآخر اهتمامه بإعادة تشكيل الوعي في الأمة بالتركيز على الجانب الحقوقي، لتكون العلاقة بين مختلف الأطراف في المجتمع قائمة على أساس من الحقوق المتبادلة، كما ترسم ذلك رسالته الخالدة المعروفة بـ "رسالة الحقوق".
ولأنّ السلطة بسياستها أشاعت ورسّخت روح الأنانية والمصلحة المتطرفة، وأبعدت الناس عن القيم الروحية والمبادئ السامية، فقد اشتغل الإمام على إيقاظ الضمير والوجدان، وإحياء النزعات القيمية الروحية، عبر أسلوب الدعاء، وإنتاج مجموعة كبيرة من الأدعية لمختلف المناسبات، تحمل المضامين الفكرية والعقدية، وتذكر بالمبادئ والقيم، وتوجّه إلى مكارم الأخلاق وخصال الخير، وقد جمع القسم الأكبر منها فيما يعرف بـ "الصحيفة السجادية". إلى جانب سائر عطاءات الإمام في التوجيه الديني والأخلاقي.