مجتمع المؤمنين بين التآلف والخصام
الخطبة الأولى: مجتمع المؤمنين بين التآلف والخصام
روى الشيخ المفيد، أنّ أبا الحسن الرضا أوصى بعض أصحابه قال: «يا عبد العظيم! أبلغْ عنّي أوليائي السّلامَ وقل لهم: أنْ لا يجعلوا للشيطان على أنفسهم سبيلًا، ومُرْهم بالصّدق في الحديث وأداء الأمانة، ومُرْهم بالسّكوت وترك الجدال فيما لا يَعْنيهم، وإقبالِ بعضهم على بعض والمُزاوَرة، فإنّ ذلك قربة إليَّ. ولا يشغلوا أنفسهم بتمزيق بعضهم بعضًا، فإنّي آليتُ على نفسي أنّه مَن فعل ذلك وأسخط وليًّا من أوليائي دعوتُ الله لِيعذّبه في الدنيا أشدّ العذاب، وكان في الآخرة من الخاسرين» [1] .
أولى أئمة أهل البيت اهتمامًا بالغًا بالتربية السلوكية لأتباعهم وشيعتهم. فالعلاقة بالبيت النبوي بالنسبة للأئمة ليست مقتصرة على العبادات والشّعائر والاعتقادات التي يؤدّيها شيعتهم فقط، بقدر ما يتعلّق الأمر بالاقتداء بهم سلوكيًّا وأخلاقيًّا، فأهل البيت يريدون من شيعتهم أن يكونوا أنموذجًا وتجسيدًا لأخلاقهم في التعامل فيما بينهم والتعامل مع الآخرين. وقد أولى أهل البيت العلاقات الاجتماعية في وسط أتباعهم أهمية كبيرة، وورد في هذا الصدد روايات ونصوص كثيرة تؤكّد بشدة على هذا الجانب. فلا يكفي الاعتقاد بأهل البيت وإظهار المحبة لهم واتّباع فقههم، وإنما المطلوب أيضًا أن تكون العلاقات داخل المجتمع الموالي لأهل البيت، تجسيدًا لوصايا وتوجيهات أهل البيت، أكثر من أن تكون علاقات نابعة من الانفعالات والعواطف والأحقاد.
الشيعة أنموذج مشرق
ويأتي تأكيد أئمة أهل البيت على التزام وصاياهم في مجال العلاقات الاجتماعية لجملة أسباب. منها، أن أتباع أهل البيت هم الأجدر بتمثل القيم الدينية، من قبيل؛ قيمة الحبّ، والاحترام، وحفظ حقوق الإنسان، والتعاون وسائر القيم الأخرى.
كما يأتي تأكيد الأئمة على شيعتهم التزام القيم ضمن علاقاتهم الاجتماعية؛ لأنها تمنحهم القوة أمام الضغوط. فأتباع أهل البيت، الذين يُشكّلون أقلّية في الأمة، كانوا مستهدفين من السلطات الظالمة الجائرة، لذلك ظلّت هذه الأقلّية بحاجة ماسّة إلى التماسك الداخلي، وأن يشدّ بعضها بعضًا، فالعلاقات السليمة داخل المجتمع الإيماني تجعل منه مجتمعًا أقوى في مواجهة الضغوط والتحدّيات. في مقابل ذلك، سيصبح أتباع أهل البيت أكثر ضعفًا، إذا كانوا يواجهون ضغوطًا من الأعداء، في الوقت الذي تنخر المشاكل وسوء العلاقات أوساطهم.
الخلافات انشغال عن الرسالة
والأمر الآخر هو رغبة الأئمة في أن يتفرّغ شيعتهم لتأدية الرسالة التي يحملونها. ذلك أنّ الانتماء لمذهب أهل البيت ليس بمنزلة الانتماء القبلي، بقدر ما هو حمل لرسالة، يريدون من شيعتهم إيصالها إلى العالم. فإذا انشغل أتباع أهل البيت ببعضهم، وغرقوا في الخلافات والمشاكل فيما بينهم، فذلك سيكون على حساب تفرّغهم للقيام برسالتهم، وتقديم نموذج مشرق لمدرسة أهل البيت أمام الآخرين. أما إذا كانوا يعيشون التماسك والاحترام المتبادل، ويطبقون القيم الأخلاقية فيما بينهم، فهم بذلك يبهرون الآخرين بسلوكهم وسيرتهم، ويجتذبون إعجابهم، وذلك بلا شك سيخدم رسالة أهل البيت.
ضمن هذا السّياق يمكن أن نفهم الحديث المروي عن الإمام الصادق حين أوصى أتباعه بقوله «كونوا لنا زينا»[2] فالإمام يدعو شيعته لتقديم نموذج مشرق عن أهل البيت، وذلك على النقيض من انتشار حالة العداء والتعبئة فيما بينهم فإنّها تسيء لمدرسة أهل البيت.
لقد أكّد الإمام الرضا تأكيدًا مشدّدًا على التزام أتباع أهل البيت أعلى القيم الدينية فيما بينهم. حيث قال في إشارة إلى شيعته «وإقبال بعضهم على بعض، والمزاورة، فإنّ ذلك قربة إليَّ»، فتبادل الزيارات والتواصل هو ما يقرّب المؤمنين من أهل البيت، وليس مجرّد القيام بالطقوس والشعائر، ويضيف الرضا قائلًا: «ولا يشغلوا أنفسهم بتمزيق بعضهم بعضًا».
ولعلّ في ذلك إشارة إلى وجود صنف من الناس ممن لا يزال شغلهم الشاغل افتعال وخوض النزاعات الداخلية في المجتمع، واستهداف هذا الشخص والإضرار بتلك الفئة، فيسخّر بعض هؤلاء أنفسهم وجلّ وقتهم لهذا الغرض.
هذا الصنف من الناس الذين يُمزّقون المجتمع الإيماني يتوعّدهم الإمام بقوله: «فإني آليت على نفسي أنه من فعل ذلك وأسخط وليًّا من أوليائي دعوت الله ليعذّبه في الدنيا أشدّ العذاب»، أفلا يقرأ هذا الصنف من الناس هذه الروايات والأحاديث، وكيف يعاهد الإمام نفسه أن يدعو عليهم بالعذاب في الدنيا والآخرة؟!
تطابق الآراء ليس شرطًا
إنّ من الخطأ الفادح اشتراط التوافق التامّ كسبيلٍ أوحد لتحقيق التماسك في المجتمع الإيماني. وهل من الممكن أصلًا أن يتفق ملايين البشر في تفاصيل مختلف الآراء والمواقف، سواء في المجتمع الشيعي أو غيره؟!
هل المطلوب أن يتفق الشيعة في كلّ آرائهم وأفكارهم؟
إذًا، ما معنى فتح باب الاجتهاد هنا؟
أليست النتيجة الطبيعية لفتح باب الاجتهاد بروز حالة التعدّد في الآراء والاجتهادات؟
إنّ من أبرز مفاخر شيعة أهل البيت أن باب الاجتهاد عندهم لم يغلق بتاتًا، على غرار ما جرى عند أتباع المذاهب الأخرى بالتوقف على اجتهادات الأئمة الأربعة. ومؤدّى فتح باب الاجتهاد قيام حالة التنوع في الآراء والأفكار، وهذا تحديدًا ما نجده ماثلًا في سيرة السّلف من العلماء والفقهاء، الذي لا زال قائمًا حتى اليوم في الحوزات العلمية. وكثيرًا ما وجدنا فقيهًا تربّى على يد فقيه آخر، فإذا ما بلغ مبلغًا من العلم والاجتهاد، وجدناه قد اختلف مع أستاذه في الرأي، بل ويقوم بإخضاع آراء أستاذه للردّ والمناقشة والبحث.
من هنا يتبيّن، أنّ من غير المطلوب أن يتفق مجتمع المؤمنين، على سعته وتنوعه، في مختلف الآراء والأفكار والمواقف، فذلك خلاف طبيعة المجتمع البشري الذين تختلف وتتعدّد آراؤهم، وتتفاوت مستوياتهم، وتتعدّد زوايا النظر للأمور عندهم، كما تختلف مصالحهم، فالمجتمع الشيعي مجتمع بشريّ وليسوا من جنس الملائكة!.
إنّ وجود حالة الاختلاف في الآراء والأفكار لا يُبرّر بأيّ حالٍ بروز حالة التمزّق والاحتراب والتسقيط فيما بينهم. فذلك خلاف أوامر الله سبحانه وتعالى، وتوجيهات الأئمة، وخلاف ما يرشدنا إليه العقل السليم.
ناهيك عن أن ذلك خلاف ما نطلبه من الآخرين من أتباع المذاهب الأخرى، حيث نطلب منهم أن يتفهّموا آراءنا. ومن غير المعقول ولا المنطقي أن يطلب بعضنا من أتباع المذاهب الأخرى، الذين بيننا وبينهم خلاف أعمق وأوسع، أن يحتملوهم وأن يحترموا آراءهم، لكن هؤلاء تضيق صدورهم عن احتمال وجود من يختلفون معهم في الرأي من داخل مجتمعهم ومذهبهم!
التعدّدية في المجتمع الشيعي
وإذا كان المجتمع الشيعي في كلّ عصوره يعجّ بالتعددية والاختلاف في الرؤى العقدية والفقهية، فإنّ دواعي الاختلاف الفكري في هذا العصر أكثر. ومردّ ذلك إلى اتّساع رقعة العلم والمعرفة لدى الناس، فقد تضاعف عدد العلماء المجتهدين في هذا العصر، على نحوٍ لا يقارن بعددهم في العصور الماضية، وتضاعف عدد الحوزات العلمية، واتسعت رقعة المثقفين والمفكرين، فضلًا عن تزايد نسبة الاهتمام بالثقافة والفكر والمعرفة على المستوى الاجتماعي، ناهيك عن حالة الانفتاح الهائل على التطور العلمي والثقافي، ومواجهة مختلف التحدّيات في العصر الراهن.
إنّ من الضروريّ تأكيد جملة أمور مهمّة:
أوّلًا: ضرورة الاعتراف بمشروعية الاختلاف والتعدّدية والرأي الآخر. إنّ من المهم جدًّا الإقرار بحقّ الجميع في تبنّي واعتناق الرأي الذي يوصله إليه اجتهاده، فقيهًا كان أو باحثًا أو مفكّرًا، ويبقى حقّ الفريق المقابل في تبنّي الرأي المغاير الذي يبلغه اجتهادهم. وليس هناك أيّ مسوّغ أن يعطي البعض الحقّ المطلق لفريقه في تبنّي الاجتهادات والآراء التي يقتنع بها، فيما يصادر حقّ الفريق الآخر في تبنّي الاجتهادات والآراء المغايرة!
وماذا يعني أن يتّجه طرف لتلقّي آرائه من فقيه معيّن، فيما يأبى على الآخرين أخذ آرائهم عن فقيه آخر؟! إذ لا يملك طرف مهما كان، حقّ الوصاية على المذهب، ولا يحقّ لأحدٍ تحجيم المنظومة الفكرية والعقدية كاملة في رأيه فقط، فيما تنهال مختلف التهم والتشكيكات على كلّ من يختلف معه في الرأي، فهذا بزعمه خارج عن المذهب، وذاك مائع أو ناقص الولاء لأهل البيت.. وغير ذلك من الافتراءات!. من جعل أمثال هؤلاء أوصياء على مذهب أهل البيت؟ ومن خولهم احتكار تفسير المعتقدات والآراء والفكر داخل المذهب؟!
إنّ من حقّ أيّ أحدٍ أن يطرح آراءه المغايرة لأيّ فريق، شريطة التزام الحوار الموضوعي، وتوخّي السُّبل العلمية، والاستدلالات المنطقية، فلا أحدَ له حقّ تكميم أفواه أهل الرأي عن طرح آرائهم واجتهاداتهم، فذلك خلاف تعاليم القرآن حتى مع أتباع الديانات الأخرى، فقد قال سبحانه: ﴿وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾، وقال تعالى: ﴿قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ﴾، وجاء في آية ثالثة: ﴿قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا﴾. إنّ مناقشة وتبيان نقاط الضعف عند الآراء المقابلة والمغايرة يُعَدّ إثراءً معرفيًّا يشكر عليه فاعله، فهذا ما ينضج العلوم، ويبلور المعارف، ويثري حركة الاجتهاد، ولا أحدَ يدعو لالتزام الصمت أمام الآراء والاجتهادات الأخرى، بل المطلوب طرح الرأي ووجهات النظر، والمنافحة عنها بالدليل العلمي، تمامًا كما يحقّ للآخرين طرح أدلتهم.
ولعلّ أهم النقاط في هذا الصّدد التزام الأخلاقيات الدينية، والنأي عن الاتهام والتشكيك في الطرف الآخر. فطرح وجهات النظر والدفاع عن الرأي حقّ مطلق للجميع، لكن حقّ الدفاع عن الرأي لا يعطي لأيِّ طرفٍ الحقّ في التشكيك في الآخرين، وكيل الاتّهامات لهم، من قبيل القول أنّ هذا الطرف خارج على المذهب، أو ذاك الطرف خارج عن الدّين! لأنه يختلف معه في الراي!، أنه لا يجوز التشكيك في نيّات الآخرين!، فكثيرًا ما تجد هناك من يرمي الآخرين بالتهم، استنادًا إلى تفسير تعسّفي لنيّاتهم، لا أقوالهم وأفعالهم!، وفي الحديث الشريف يقول النبي: «هَلّا شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ»[3] . إنّ الانجرار خلف أساليب التشكيك في نيّات الآخرين، ربما أعطى الفريق الآخر الحقّ في التشكيك في نيّاتك أنت أيضًا!
اختلاف الرأي لا يعني القطيعة
ثانيًا: ومما ينبغي تأكيده هنا، أهميّة وضرورة التواصل والتعاون في تحقيق المصالح العامة. أن يكون مجتمع المؤمنين، مجتمعًا متماسكًا، متعاونًا، يسوده احترام الرأي الآخر، وحفظ حقوق الإيمان فيما بينهم، ويبقى اختلاف الرأي لا يفسد للودّ قضية، كما يقول الشّاعر.
وقد ورد عن الإمام الصادق قوله: «ما أنتم والبراءة، يبرأ بعضكم من بعض، إنّ المؤمنين بعضهم أفضل من بعض، وبعضهم أكثر صلاة من بعض، وبعضهم أنفذ بصيرة من بعض وهي الدرجات»[4] ، فالإمام يحثّ مجتمع المؤمنين على قبول حالة التفاوت في الرأي والمستوى، فإذا ما وجد طرف نفسه صاحب رأي متقدّم في جانب، فلا يحقّ له أن يسقط الآخرين أو يتبرأ منهم لمجرّد اختلافهم معه!، فليس من اللائق التبرؤ من مسلم شيعي موالٍ لأهل البيت، وموافق لك في كلّ الآراء والعقائد، باستثناء بعض التفاصيل هنا أو هناك، فأيّ دينٍ وأيّ أخلاق هذه التي تدعوك لأن لا تزور أخاك ولا تجتمع معه في مجلس ولا تواسيه في أفراحه وأتراحه؛ لأنه يخالفك الرأي في مسألة هنا أو هناك؟
وجاء عن أحد أصحاب الامام الصادق: «إننا كنّا جلوسًا عنده فتذاكرنا أحدًا من أصحابه، فقال بعضنا، ذلك ضعيف ـ يعني أنّ دينه وعقيدته ضعيفةـ، فرفض الإمام قولهم هذا، وقال: «إنّ كان لا يقبل ممن دونكم حتى يكون مثلكم، لم يقبل منكم حتى تكونوا مثلنا»[5] ، فالإمام هنا يشير لأصحابه الذين عابوا على شخص ضعف دينه لقلة ما وصله من علم، بأنه قد يعاب عليهم ضعف دينهم لقلّة ما وصلهم هم أيضًا قياسًا على علم الأئمة، ولذلك يُشدّد الإمام على أصحابه بألّا يستضعفوا غيرهم، وألّا يُشكّكوا في أديان بعضهم بعضًا.
المؤمن لا يبرأ من أخيه المؤمن
كما جاء في الكافي عن يعقوب بن الضحاك عن رجل من أصحابنا سرّاج، وكان خادمًا لأبي عبدالله جعفر الصادق قال: «جرى ذكر قوم، فقلت: جعلت فداك، إنا نبرأ منهم، إنّهم لا يقولون ما نقول، فقال الإمام: يتولّونا ولا يقولون ما تقولون، تبرأون منهم، قال: قلت نعم، فقال الإمام: فهو ذا عندنا ما ليس عندكم فينبغي لنا أن نبرأ منكم، قال قلت لا ـ جُعلتُ فداك ـ، قال: وهو ذا، عند الله ما ليس عندنا، أفتراه اطّرحنا، قلت: لا والله، جعلت فداك، إذًا ما نفعل؟، قال: فتولّوهم ولا تبرأوا منهم»[6] .
فالإمام يشدّد على أن لا حقّ لأحدٍ في أن يتبرأ من مؤمن، لأنه اختلف معه في رأيٍ ما. وجاء في تعليق الشيخ المجلسي على هذه الرواية قوله: إنّ قول الفريق الأول («إنهم لا يقولون ما نقول» أي من مراتب فضائل الأئمة وكمالاتهم ومراتب معرفة الله تعالى، ودقائق مسائل القضاء والقدر، وأمثال ذلك مما يختلف تكاليف العباد فيها، بحسب أفهامهم واستعداداتهم) [7] ، فالشيخ المجلسي ينظر إلى هذه الاختلافات باعتبارها اختلافات عقدية، لكنه يرى في الوقت عينه أنّ هذه الاختلافات تخضع لفهم كلّ شخص واستعداداته، ولا تستدعي براءة الناس من بعضهم بعضًا.
وفي رواية عن عمّار بن أبي الأحوص قال: قلت لأبي عبدالله جعفر الصادق: «إنّ عندنا أقوامًا يقولون بأمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب ويفضّلونه على الناس كلّهم، وليس يصفون ما نصف من فضلكم، أنتولّاهم؟ فقال لي: نعم في الجملة، أليس عند الله ما لم يكن عند رسول الله، ولرسول الله من عند الله ما ليس لنا، وعندنا ما ليس عندكم، وعندكم ما ليس عند غيركم»[8] . ومفاد ذلك، ضرورة موالاة كلّ من نتفق معهم في أساسيات ومبادئ الدين، وفي أصول المذهب، ولا ينبغي لحالة الاختلاف في التفاصيل والجزئيات أن تمزّق الصف الشيعي.
من هنا، فإنّ الخطاب الديني في مجتمعنا مطالب بأن يحمل رسالة أهل البيت، التي تشدّد على التماسك والتواصل الاجتماعيّ. وعلى كلّ مؤمن واعٍ أن يرفض إثارة التشنّج في العلاقات الداخلية وسط مجتمع المؤمنين، وألّا يقبل بذلك من أيّ جهة كان، فلا يجوز إثارة التشنجات الداخلية بين المؤمنين بسبب الاختلاف في مسائل جزئية فرعية، هذه الرسالة التي ينبغي لكلّ واعٍ أن يحملها.
وينبغي للخطاب الدينيّ في المجتمع الشيعي أن يوصل هذه الرسالة الأخلاقية لشيعة أهل البيت، وأن ينأى الجميع عن تعبئة الأتباع ضدّ آراء الآخرين، والحرص على الوحدة الاجتماعية، ذلك أنّ الخطاب التعبوي، وادّعاء الحقّ المطلق، ومهاجمة أصحاب الآراء الأخرى، ووصمهم بالأمويين والكفار والناصبيين، جميع ذلك لا يمتّ بصلة للدّين ولا لأهل البيت، ولا منطق العقلاء الذين تهمّهم مصلحة مجتمعهم، بل هو أمرٌ مؤذٍ لأهل البيت وممزّق لصفوف المؤمنين.
الخطبة الثانية: شبابنا بين التطرّف والضّياع
﴿فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا * إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَـٰئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا﴾ [سورة مريم، الآيتان: 59و60].
يواجه الجيل الشاب في مجتمعاتنا الإسلامية اليوم تحدّيات خطيرة، تجعله على مفترق طرق، إما باتجاه المشاركة في بناء مستقبل وطنه وأمته، أو الوقوع في نفق الضياع والفوضى والإضطراب. ويأتي على رأس هذه التحدّيات؛ التحدّي القيمي والأخلاقي، ومردّ هذا التحدّي يعود إلى غياب الطرح المقنع والمناسب للقيم الدينية الموروثة في مجتمعاتنا الإسلامية، التي تأخذ طريقها نحو الشباب عبر التنشئة أو من خلال المنابر الدينية، فهي غالبًا لا تعرض بطريقة تتناسب ومستويات هؤلاء الشباب، الذين يعيشون عصر التقدم العلمي والمعرفي، وتطور وسائل الاتّصال، بينما لا تزال القيم الدينية تطرح أمام الشباب بصورة تقليدية، ربما كانت تتناسب مع الشباب في العصور الماضية، لكن هذا الطرح بات متقادمًا وغير مقنع، بحيث لم يعد يجتذب الشباب. وذلك ما جعل القيم الدينية والأخلاقية عسيرة على الهضم لدى الشباب؛ نظرًا لغياب الطرح المناسب.
في مقابل ذلك، يعيش الشّباب حالة من الانفتاح الهائل، يضع بين أيديهم ألوانًا من الثقافات والأفكار والتوجّهات، التي تحرّك عندهم شتى الحالات العاطفية والانفعالية.. من هنا يبرز هذا التحدّي الأخطر أمامهم، وهنا تحديدًا نستحضر الحديث المرويّ عن النبيّ الأكرم: «يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ الصَّابِرُ فِيهِمْ عَلَى دِينِهِ كَالْقَابِضِ عَلَى الْجَمْرِ»[9] .
التحدّي الاجتماعيّ والسّياسيّ
ويبرز التحدّي الاجتماعيّ في المرتبة الثانية أمام شبابنا في هذا العصر. ويتمثل في القلق على المستقبل، قلق الحصول على فرص الدراسة المناسبة لتطلعاته، وضمان الوظيفة التي تلبّي احتياجاته، وتحقّق له سبل العيش الكريم، والزّواج وتكوين الأسرة، خصوصًا في ظلّ الظروف الصعبة، والتقاليد الاجتماعية المرهقة، والأهمّ من ذلك كيف يحقق الشّاب ذاته وكرامته في مجتمع قد لا يتيح له التعبير عن ذاته بوضوح؟ هذه تحدّيات اجتماعية ماثلة أمام أبناء هذا الجيل.
وفي المرتبة الثالثة يأتي التحدّي السّياسي أمام الشباب. فأبناء هذا الجيل من مجتمعاتنا، يرون نظراءهم الشّباب في المجتمعات الأخرى، كيف يشاركون فور بلوغهم سنّ الثامنة عشرة، في انتخاب رؤساء بلدانهم، واختيار ممثليهم في البرلمان، وفي وضع الأنظمة والقوانين لإدارة شؤونهم المحلية والبلدية، ويملكون حرية التعبير عن آرائهم عبر وسائل الإعلام، كلّ ذلك يراقبه شبابنا، فيما يرون أنفسهم لا رأي ولا مشاركة لهم.
إنّ هذه التحدّيات القيمية والاجتماعية والسياسية، تجعل الشباب في مجتمعاتنا أمام مفترق طرق. وإذا ما فشلت مجتمعاتنا في معالجة هذه التحدّيات، فالنتيجة الحتمية لذلك هي ضياع هؤلاء الشباب، وهنا تأتي الآية الكريمة ﴿فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا﴾، ونحن بأجمعنا نتحمّل المسؤولية أمام الله تعالى، وأمام التاريخ، عن ضياع هذه الأجيال الشّابة من مجتمعاتنا.
منزلقات الضّياع والإجرام
إنّ مجاميع من شبابنا باتت فريسة لمخاطر كبيرة، ومنزلقات عديدة، نتيجة الفشل في تجاوز التحدّيات القائمة. ومن تلك المنزلقات، الوقوع في براثن اللامبالاة والضياع، والتمرّد على القيم والأعراف والتقاليد الاجتماعية، ولعلّ إطلالة سريعة على ما تنشره الصحف اليومية المحلية، تكشف إلى أيِّ مدى باتت تتفشى الجريمة في مجتمعاتنا، علمًا بأنّ النزر اليسير من تلك الجرائم هو ما يأخذ طريقه للنشر، وهذا بالذات ما يبعث القلق على مستقبل هذا الجيل. فقد نسبت صحيفة الشرق السعودية قبل أيام إلى عضو برنامج الأمان الأسري، القانوني سعد الوهيبي قوله ضمن ورشة عمل على هامش المؤتمر الإقليمي لخطّ مساندة الطفل في المملكة الذي أقامته جامعة الملك سعود للعلوم الصحية تحت إشراف وزارة الحرس الوطني، بأنّ هناك 1260 عصابة إجرامية على مستوى المملكة، جلّ أعضائها من الأطفال والمراهقين الذين تتراوح أعمارهم بين 14 و18 سنة!، وأوضح الوهيبي بأنّ الجرائم التي تورّطت فيها هذه العصابات تراوحت بين القتل والسّلب والاعتداء على الأعراض ودخول المنازل، مشيرًا إلى أنّ أقلّ عصابة من هذه العصابات لا يقلّ تشكيلها عن أربعة أفراد، وأوضح أنّ ذلك ما تمّ الكشف عنه من قبل الجهات المختصة حتى الآن، مضيفًا القول ربما «ما خفي كان أعظم»[10] .
إنّ من المؤسف حقًّا أن ذلك يجري في بلد شعاره الحكم بالكتاب والسنة، بلد الحرمين الشريفين، ومهبط الوحي، البلد الذي لا يكاد يوجد بلد آخر في العالم يضاهيه في عدد البرامج والأنشطة والفعاليات والخطب الدينية.
فخّ التطرّف والإرهاب
أمّا المنزلق الآخر الذي وقع فيه الشباب نتيجة الفشل في معالجة التحدّيات القيمية والاجتماعية والسياسية فهو منزلق التطرف الديني. وهذا المنزلق الأخطر هو في جوهره ردّ فعل وانتقام إزاء فشل المعالجة للتحدّيات الآنفة من جهة، إضافة إلى توفر أرضية التشدّد وثقافة التطرّف من جهة أخرى، حتى قاد ذلك إلى أن تصبح شريحة من شباب المملكة والخليج وقودًا لحركات التطرف والعنف والإرهاب على مستوى العالم.
إنّ جانبًا مهمًّا من الثقافة الدينية المتشدّدة متجذّر بشكل أساس ضمن مناهج التعليم والمنابر الدينية. فالمناهج الدينية درجت على تربية الطلاب على بغض ومعاداة الآخرين ضمن عقيدة الولاء والبراء، فالمخالف في الدين أو المذهب، والمخالف في الرأي والموقف، كلّ هؤلاء كفرة مشركون، ومبتدعة وأهل ضلال، ومستحقون للمقاطعة وفقًا لمناهجنا الدينية. وقد ظلّت هذه التلقينات قائمة في المناهج حتى بعد إجراء تحسينات عليها في السّنوات الأخيرة. والأكثر من ذلك ما نجده في سيل الفتاوى التكفيرية، وفتاوى الطعن والاتهام للمغايرين مذهبيًّا في أديانهم وآرائهم. ولعلّ ما يواجهه الزائرون من أتباع المذاهب الإسلامية الذين يأتون لزيارة مسجد رسول الله وزيارة أئمة البقيع وقبور الصحابة وأمّهات المؤمنين، في المدينة المنورة خير مثال، حيث تنهال عليهم التّهم بالكفر والشرك والبدعة والضلال عبر مكبّرات الصوت!. وهذه بالذات الثقافة التي تصنع أرضية التطرّف والتشدّد.
ولقد ساهم ظهور الحركات المتطرفة في تسعير حالة التشدّد الديني، واستقطاب الشباب. وساعدت الصّراعات السياسية في المنطقة في تجيير واستغلال الحركات المتطرفة، ومن ثم استقطاب الشباب المعبأ طائفيًّا باسم الدين والجهاد في سبيل الله، فيقذفون بهم في لهوات المعارك يمينًا وشمالًا، هذه المعارك التي تستهدف في الغالب الناس الأبرياء في المجتمعات الإسلامية وغيرها.
وقد تورط الشّباب السعوديون في مختلف النزاعات المستعرة في المنطقة والعالم، في أفغانستان والعراق وسوريا ولبنان وليبيا واليمن. وقد تابع الجميع مؤخّرًا الهجوم على المستشفى العسكري في صنعاء، الذي كان على رأس المهاجمين فيه شبّان سعوديون، وراح ضحيته العشرات من الأطباء والمسعفين والمرضى، فقد قتل 56 شخصًا وأصيب 215 آخرين وفقًا لحصيلة رسمية[11] .
وفي إحصائية رسمية تبيّن أنّ هناك 300 انتحاري سعودي فجّروا أنفسهم في العراق خلال العشر سنوات التي تلت سقوط النظام السابق[12] ، ولنا أن نتصور كم من الأبرياء سقطوا على أيدي هؤلاء الانتحاريين، دونما سبّب أو مبرّر!. ورأينا أيضًا كيف تورط شباب سعوديون في المواجهات التي جرت مع الجيش اللبناني في مخيّم نهر البارد، حيث قتل منهم عشرة وأوقف 11 آخرون، وقد تراوحت أعمارهم بين العشرين والثلاثين وفقًا لصحيفة عكاظ السعودية في عدد الرابع من نوفمبر 2007. ويبقى السؤال ماثلًا، حول سبب انزلاق الشباب السعودي نحو اللامبالاة والإجرام تارة والتطرف الديني والإرهاب وقودًا للحركات الإرهابية تارة أخرى.
ولعلّ التطور اللافت هو أن هؤلاء الشباب بلغوا حدًّا من التطرف بحيث يتناحرون فيما بينهم ويقتلون بعضهم بعضًا! فقد باتت عناصر المجاميع الإرهابية التي تعجّ بالسعوديين في سوريا، من داعش والنصرة، وسائر المجموعات الأخرى، بدأوا يتناحرون فيما بينهم وفقًا لتقارير إعلامية كثيرة، وقد أوردت قناة العربية تقريرًا مفصّلًا حول أعمال الاعتقال والتعذيب والإعدامات في أوساط المخالفين للتنظيم من الفصائل الأخرى، فضاع الشباب السعوديون وسط هذه المتاهة!. والأكثر فظاعة هو تورّط هؤلاء الشباب في استهداف الأبرياء، ومن ذلك ارتكاب التفجيرات الدموية وسط زوّار الإمام الحسين في العراق، فأيّ قلبٍ وأيّ عقلٍ وأيّ دينٍ يحضّ على هذه النزعة التي تدفع بهذا الإنسان إلى أن يطلق النار، أو يُفجّر نفسه وسط النساء والأطفال الأبرياء، في المطاعم والمضائف والاستراحات، فتختلط أشلاؤهم ودماؤمهم بالطعام والشّراب والتراب دونما مبرّر أو سبب!.
وقد فجع مجتمعنا في القطيف مؤخرًا بمقتل الطفلة البريئة تقى ماجد الجشّي، رحمها الله، بإطلاق النار من قبل إحدى المجموعات الإرهابية في العراق، فيما لا تزال والدتها تتلقى العلاج في المستشفى[13] ، وكلّ ذنب هذه العائلة أنها كانت ضمن حشدٍ من الزّوار في طريقهم لزيارة مشاهد الأئمة في سامراء، فبأيّ ذنبٍ وتحت أيّ مبرّرٍ تقتل هذه الطفلة ذات الخمس أو الستّ سنوات وتصاب والدتها وسط حالة من الخوف والرعب؟ نسأل الله أن يتقبل من مجتمعنا هذه الشهيدة بقبول حسن وأنْ يُلهم ذويها الصبر والسلوان.
وينبغي أن يتحمّل كلٌّ منا المسؤولية كاملة، من حكومات وشعوب ومجتمعات، في حماية شبابنا، وعدم تركهم يواجهون تحدّيات الحياة على النحو القائم اليوم، حتى لا ينزلقوا نحو هذه المنزلقات الخطرة، وذلك من خلال التعاون والتضامن بين مختلف الجهات والأطراف لوضع حدٍّ لحالة الانزلاق التي تواجههم.