الأخلاق عنوان التقدم
الخطبة الأولى: الأخلاق عنوان التقدم
عن الإمام عليّ: «لو كنّا لا نرجو جنّة، ولا نخشى نارًا ولا ثوابًا ولا عقابًا لكان ينبغي لنا أن نطلب مكارم الأخلاق، فإنّها ممّا تدلّ على سبيل النجاح»[1] .
تتجلى الأخلاق الإنسانية ضمن بعدين؛ بعد ذاتي وآخر اجتماعي. فالبعد الذاتي يرتبط مباشرة بإدارة الفرد لذاته، وضبطه لغرائزه وميوله، ويمكن تفسير حسن الخلق في البعد الذاتي، بما يعني تعزيز وتنمية الميول الإيجابية الحسنة في نفس الإنسان، وكبح جماح النزعات السلبية السيئة فيها، بما يفضي لإدارة الذات على نحو جيّد، وهذا تحديدًا معنى حسن الخلق في بعده الذاتي، أما حسن الخلق في بعده الاجتماعي، فإنّ ميدانه التعامل مع الناس، القريبين والبعيدين، على أساس الاحترام ورعاية الحقوق، والإحسان للآخرين.
طريق السعادة والنجاح
إنّ الإنسان الذي يتحلى بحسن الخلق في إدارته لذاته وتعامله مع الآخرين هو أقرب للنجاح. بينما الآخر الذي يتطبع بسوء الخلق فمسيرته في الحياة أقرب للتعثر، ومردّ ذلك إلى ما يصنعه حسن الخلق من رضا داخلي، واستقرار نفسي، وارتياح لدى الإنسان، علاوة على ما يعود عليه من انسجام مع محيطه الأسري والاجتماعي، فإذا عاش المرء رضا نفسيًّا، وانسجامًا مع من حوله، فهذا هو الطريق إلى النجاح والسعادة في هذه الحياة.
وتشير كثير من النصوص الدينية إلى أنّ حسن الخلق هو السبيل إلى جعل الإنسان ناجحًا وسعيدًا في حياته. فقد ورد عن الإمام جعفر الصادق أنه قال: «لا عيش أهنأ من حسن الخلق»[2] ، فالعيش الهنيء لا يأتي عبر المال أو المنصب ولا مختلف الامتيازات، بقدر ما يأتي نتيجة توفر الرضا في نفس الإنسان، والانسجام ضمن محيطه، وهذا بطبيعة الحال لا يتأتّى إلّا بحسن الخلق. وفي إشارة لافتة يربط أمير المؤمنين بين أخلاق الإنسان والوضع الاقتصادي الذي يعيشه، حيث يقول: «بحسن الأخلاق تدرّ الأرزاق»[3] ، ومعنى ذلك أنّ المرء كلّما كان أفضل أخلاقًا، كان أقرب إلى النجاح في مجالات حياته المختلفة وبما ينعكس على وضعه المعيشي. وعنه في ذات السّياق أنه قال: «من حسن خلقه، كثر محبّوه وأنست النفوس به»[4] .
في مقابل ذلك تشير النصوص الدينية إلى أن سوء الخلق لدى الإنسان هو الطريق إلى نكد العيش. حيث يقول أمير المؤمنين: «سوء الخلق نكد العيش وعذاب النفس»[5] ، فحياة المرء تتحول مع سوء إلى الخلق إلى عيشة نكدة، وعذاب نفسي قائم، وفي كلمة أخرى روي عنه أنه قال: «سوء الخلق يوحش القريب وينفّر البعيد»[6] ، وورد أن رسول الله قال: «من ساء خلقه، عذّب نفسه»[7] ، فالعذاب النفسي يبدو أنّه النتيجة الطبيعية لسوء الخلق على المستوى الشخصي.
لا نهضة دون أخلاق
أمّا على الصعيد الاجتماعي فالأمم تقاس في نهضتها وتقدمها بالمستوى الأخلاقي العام السّائد فيها. وذلك ما يتجلّى على صعيد تعامل الناس مع بعضهم بعضًا، من حيث الاحترام المتبادل، والقدرة على التعايش، ورعاية الحقوق، والتعاون والقدرة على العمل الجمعي بين الناس، والانضباط والتقيد بالقانون والنظام، والإتقان في العمل، فهذه بأجمعها مصاديق متعددة للأخلاق الحسنة. إنّ هناك مجتمعات طالما اشتهر عنها سمة الإتقان في العمل، الأمر الذي انعكس على مستوى وجودة الإنتاج عندهم، وعاد إيجابًا على سمعتهم، وهذا ما يتضح في تعامل الناس مع السلع التجارية والمواد الآتية من بلدان معينة، على النقيض من سلع أخرى قادمة من بلدان أخرى لم تشتهر بسمعة جيّدة على صعيد الإنتاج، وهذا كله ناتج عن خُلق الإتقان عند تلك المجتمعات.
وينسحب الأمر ذاته على مستوى الانضباط العام والتقيد بالقوانين، والتزام المواعيد، فهناك مجتمعات تشتهر بحرصها الشديد على هذا الصعيد، بينما لا تجد الأمر ذاته في مجتمعات أخرى ليس بها انضباط عام، ولا تقيد بالقانون، ولا التزام المواعيد!، الأمر الذي ينعكس بطبيعة الحال على جميع المستويات، إنْ على صعيد تعثّر المشاريع العامة، أو تعطيل مصالح الناس، فلطالما تعثرت مشاريع خدمية رصدت لها الملايين دونما مبرر معقول، سوى ارتباط ذلك بغياب خلق التزام المواعيد والانضباط في إنجاز العمل، وذلك مرتبط من حيث الجوهر بأزمة في الأخلاق.
إنّ سيادة القيم الأخلاقية العامة في بعض المجتمعات هي المحرك الأساس لتقدمها. فإيقاع الحياة في المجتمعات المنضبطة أفضل، وحركة الإنتاج أكثر تقدّمًا ونموًّا، على النقيض من المجتمعات الأقلّ انضباطًا. ضمن هذا السياق يمكن فهم الارتباط بين الأخلاق وبين تقدم المجتمعات، الذي تشير له وتشدد عليه النصوص الدينية، فقد ورد عن رسول الله أنه قال: «حسن الخلق ذهب بخير الدنيا والآخرة»[8] .
وتنطوي تحت عنوان حسن الخلق كلّ السلوكيات الإيجابية، من قبيل الإتقان في العمل، والانضباط والتزام القانون، والاحترام المتبادل، ورعاية الحقوق، هذه كلها مصاديق لحسن الخلق، وجاء في الشعر العربي:
فإنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن همُ ذهبت أخلاقهم ذهبوا.
وورد عن أمير المؤمنين أنه قال: «عليكم بمكارم الأخلاق فإنها رفعة، وإياكم والأخلاق الدنيئة فإنها تضع الشريف وتهدم المجد»[9] ، وقد كانت الأمة الإسلامية فيما سبق على مرتبة متقدمة من الشرف، على النقيض مما هي عليه اليوم، فأين ذهبت تلك الرفعة التي تميزت بها الأمة في سالف الأزمان؟ لقد ذهب ذلك المجد وانهدم ذلك الشرف، نتيجة سيادة الأخلاق السيئة، وغياب الأخلاقيات الحسنة، والقيم الإيجابية على الصعيد العام في الأمة.
ويشير الإمام الصادق إلى هذه الحقيقة بقوله: «إنّ البر وحسن الخلق يعمران الديار ويزيدان في الأعمار»[10] ، وللإلمام بفهم عميق للنص، ينبغي أن نفهم حسن الخلق بأنه الالتزام الصارم بالأخلاقيات العامة والقيم الإيجابية في الحياة. وحتى ندرك الصلة المباشرة بين الأخلاق وعمارة الديار وزيادة الأعمار، يكفي النظر إلى معدل الأعمار لدى بعض الشعوب، فاليابانيون مثلًا معروفون بمعدل عالٍ في الأعمار، وأسباب ذلك أن علاقة الناس فيما بينهم على المستوى الاجتماعي لا تشكل ضغطًا نفسيًّا على الفرد الياباني. بينما المجتمعات التي يعاني الفرد فيها من الضغوط داخل الأسرة، والمدرسة، وفي مكان العمل، علاوة على ضغوط السلطة، فأيّ صحة وأيّ راحة ستبقى لهذا الفرد، وأيّ عمر طويل سيتمتع به!. من هنا ندرك جيّدًا كيف أنّ حسن الخلق يزيد في الأعمار، لجهة أنّ الناس في مقدورهم أن يوفروا على أنفسهم العناء والمشاكل النفسية، التي هي من أهم أسباب السقم، واعتلال الصحة، وبالتالي قصر معدّل الأعمار.
الأخلاق مصالح ومكاسب
ولو نحّينا الوصايا الدينية جانبًا، لرأينا أنّ هناك أسبابًا ومصالح واقعية لا تحصى للالتزام بالقيم الأخلاقية. وقد أشار أمير المؤمنين إلى هذه الحقيقة حين قال: «لو كنّا لا نرجو جنة ولا نخشى نارًا ولا ثوابًا ولا عقابًا لكان ينبغي لنا أن نطلب مكارم الأخلاق فإنها مما تدلّ على سبيل النجاح»[11] ، إنّ طلب مكارم الأخلاق، يصبّ في مصلحة تنظيم وتقدم حياتنا جميعًا، وما جاء التزام المجتمعات المتقدمة الأخلاقيات الحسنة، إلّا نتيجة وعيها بأنّ مصالحها مرتبطة ارتباطًا مباشرًا بمدى التزامها هذه الأخلاق.
إنّ أمتنا الإسلامية ربما كانت أولى الأمم بالتزام الأخلاق الحسنة. وذلك لما تنتجه الأخلاق من مصالح لعامة الأمة في الدنيا أولًا، وثانيًا لما يصب في مصلحتنا الفردية في الآخرة كذلك، فالثواب الأخروي لن يتأتّى من خلال الصلاة والصيام فقط، وإنما يتحصل أكثر الثواب في الآخرة نتيجة حسن الخلق مع الآخرين، سواء في المنزل أو مع الجيران أو في التعامل مع زملاء العمل، فقد ورد عن علي أنه قال: «حسّن خلقك يخفف الله حسابك»[12] ، إنّ ما يخفف العذاب يوم القيامة ليس التزام الصلاة والصيام وسائر العبادات فحسب، وإنما حسن الخلق هو أكثر ما يخفف على الإنسان العذاب. وورد في مقابل ذلك عن النبي أنه قال: «سوء الخلق ذنب لا يُغفر»[13] ، فقد يُغفر للإنسان تقصيره في صلاته وصيامه ووضوئه، إلّا أنّ سوء الخلق يبقى ذنبًا لا يُغتفر وفقًا للحديث النبوي الشريف، ذلك لأنّ سوء الخلق سلوك متعلق على نحو مباشر بحقوق الآخرين، فالله سبحانه لا يغفر للمرء الذنوب المتعلقة بالآخرين، إلّا أن يتنازل الآخرون عن حقوقهم.
وورد عن أمير المؤمنين أنه قال: «عنوان صحيفة المؤمن حسن خلقه»[14] ، فلو كان لدى المرء ملف خاصّ به يوم القيامة، فسيكون العنوان الأبرز على ذلك الملف لحظة الفرز هو ما إذا كان هذا المرء حسن الأخلاق أم صاحب خلق سيئ، فالأخلاق هي عنوان صحيفة المؤمن، لذلك ينبغي الحرص على العنوان المناسب الذي يريد أن يجده الإنسان على صحيفته في الآخرة. ونختم بحديث النبي حيث قال: «إنّ العبد ليبلغ بحسن خلقه عظيم درجات الآخرة وشرف المنازل وإنه لضعيف العبادة»[15] ، وهذا الحديث وإن كان يُعلي من شأن الأخلاق الحسنة، إلّا أنّه لا يعني بطبيعة الحال التقليل من شأن العبادة، بقدر ما يعني رقي وعلوّ مكانة حسن الأخلاق عند الله سبحانه وتعالى.
الخطبة الثانية: من يزجُّ شبابنا في محرقة الإرهاب؟
﴿قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا 103 الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا﴾ [سورة الكهف، الآيتين: 103و104].
ليس هنالك أكثر خسرانًا من أن يسلك المرء طريق الانحراف، وهو معتقد أنه يسير في طريق الخير. فقد يسلك الواحد طريق السوء والانحراف قاصدًا لذلك، وهذا لا شكّ أنه خاسر؛ لأنّ النتيجة الحتمية لمسلك السوء والانحراف هي الخسران المبين، لكن الأخسر منه من يسلك طريق الانحراف قاصدًا ومعتقدًا أنّه يسير في طريق الخير! وذلك نتيجة تقصير منه في معرفة الحقيقة، وتمييز طريق الخير عن طريق الشّر، إنّ من يمشي مع جماعة من السُّراق، وهو قاصد وعالم بأمر السرقة، فلو ضبط حينها، وأودع السجن، فلن يمثل ذلك بالنسبة إليه مفاجأة أو صدمة كبيرة؛ لأنّ ذلك الاحتمال كان واردًا على أيِّ حال. أما لو تابع أحدهم جماعة بقصد مساعدة فقير من الفقراء على حسب ظنّه، فإذا بهم يسطون على بيت ذلك الفقير ويسرقونه، عند ذلك سيمثل هذا الأمر صدمة كبرى لهذا الشخص التابع. وهذا عين ما أشارت إليه الآية الكريمة: ﴿قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا ﴿١٠٣﴾ الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا﴾.
ضحايا التضليل
إنّ هؤلاء «الأخسرين أعمالًا» المشار إليهم في الآية الكريمة هم الضحايا الذين ارتضوا لأنفسهم التضليل. لقد أعطى الله تعالى الإنسان عقلًا ليفكر ويتأمل، حتى لا يقع ضحية لتضليل الآخرين، إلّا أنّ هؤلاء، لسبب أو لآخر، يقعون في مستنقع التضليل. إنّ القرآن الكريم يشير بوضوح إلى وجود أفعال التضليل، فقد ورد في الآية الكريمة: ﴿أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا﴾، هناك من عمل على تزيينه وإظهاره بمظهر الحسن. وفي موضع آخر تشير الآية الكريمة إلى دور الشيطان في تزيين الأعمال، يقول تعالى: ﴿وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ﴾، ودور الشيطان في هذه الحالة قد يجري عن طريق بعض البشر الذين يتولون التضليل الشيطاني للناس. ولعلّ المصداق الأبرز للمضللين المغرّر بهم هم أولئك المنقادون إلى طريق العنف والإرهاب. فهؤلاء المضللون، الذين خضعوا لما يشبه غسيل الدماغ، ذهبوا بأرجلهم وتورطوا في ارتكاب أعمال العنف والإرهاب ضد الأبرياء، فصاروا يفجرون أنفسهم ويفجرون معهم الآخرين، فيملأون البلاد عنفًا ودمارًا وخرابًا. هؤلاء هم المصداق الأبرز لمن وصفهم الله تعالى في الآية الكريمة بالأخسرين أعمالًا.
لقد شهد التاريخ الإسلامي حالة مشابهة لما يجري اليوم من ولوغ فئة في دماء المسلمين، وهم يظنون أنهم يحسنون صنعًا. وقد أشار الإمام عليّ في تفسيره للآية الكريمة: ﴿قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا ﴿١٠٣﴾ الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا﴾، بقوله: «وما أهل النهر عنهم ببعيد» في إشارة إلى الخوارج الذين قاتلوا عليًّا في النهروان، هؤلاء الخوارج كانوا من المتحمّسين جدًّا، والمتديّنين افتراضًا، وكانوا يوصفون بأنهم من أصحاب الثفنات في إشارة إلى شدة تديّنهم ومواظبتهم على الصلاة كما ورد في الحديث عنهم: «إنّ أحدكم ليحقّر صلاته إلى جانب صلاته»، فهم بذلك جزء لا يتجزأ من الحالة الدينية، لكنهم ضلّلوا وسلكوا طريق العنف والإرهاب ضدّ الناس، حتى اضطر أمير المؤمنين إلى التصدّي لهم ومقاتلتهم.
إنّ مشكلة التضليل الديني للشباب، وسوقهم نحو العنف، باتت مشكلة تؤرق كلّ المخلصين من الأمة في وقتنا الراهن. فهناك من يستغل حماس الشباب المتقد لدينهم، فيدفعهم نحو طريق الإرهاب، فيخسرون بذلك أنفسهم في الدنيا، ويخسرون مستقبلهم في الآخرة، كما في الآية الكريمة: ﴿خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ﴾، وهذا هو الخسران المبين الذي ما بعده خسران، فهؤلاء هم «الأخسرون أعمالًا».
لقد أصبحت قضية التضليل مطروحة على نحو حادٍّ في مجتمعاتنا الإسلامية، من خلال القرارات المتخذة، وسيل المقالات والأخبار الصحفية والنقاشات الإعلامية، وهي بحقّ مشكلة مؤلمة ومؤرقة.
جهات التجييش والتمويل
والسؤال المطروح اليوم، هو عمّن ساق هؤلاء الشباب إلى طريق العنف، وضلّلهم ودفع بهم في أتون الحروب والمعارك والفتن. هذا ما ينبغي أن يجري الحديث الصريح حوله.
إنّ أول جهة مسؤولة عن تجييش الشباب وتضلليهم، هي الاتجاهات التكفيرية ذات النزعات الإرهابية، التي تقود شباب الأمة نحو الدمار والخسران في الدنيا والآخرة.
أما الجهة الثانية فهي الجهات السياسية الدولية والإقليمية، التي توظّف هؤلاء الشباب كوقود لصراعاتهم وألاعيبهم السياسية، فهم يستغلّونهم ويزجون بهم يمينًا وشمالًا، حتى إذا انتهت اللعبة في هذا النزاع أو ذاك انقلبوا عليهم. تمامًا كما فعل الأمريكيون في أفغانستان، حين أطلقوا ما اصطلح عليه بالجهاد في أفغانستان ضدّ الاحتلال السوفييتي آنذاك، ثم انقلب الأمريكيون على أولئك «المجاهدين» الذين جنّدوهم بعد أن استنفذوا أغراضهم منهم، وصاروا يطاردونهم في كلّ مكان، ثم استغلوا بعضهم في نزاعات أخرى.
إنّ الجهات السياسية والاستخبارية الدولية، باتت لاعبًا رئيسًا في الزجّ بشباب الأمة في أتون الإرهاب والمعارك الخاسرة. وكم هو مؤلم الاطّلاع على مآسي هؤلاء الشباب المغرّر بهم، ومن ذلك ما كتبه أحد الكتاب في جريدة الشرق الأوسط بعنوان «الشباب السعودي والإرهاب إلى متى؟» ، وذكر الكاتب أنّ شبابًا سعوديين ألقي القبض عليهم في باكستان، وقد كانوا في طريقهم للانضمام لتنظيم القاعدة، وقد ظهروا على شاشات التلفزيون وهم في هيئة رثّة، وقام جلّهم بالتعريف بأنفسهم والمدن السعودية التي ينتمون لها، ويقول الكاتب: «بالطبع إنّنا اليوم أمام أسئلة تتكرر، منذ أحداث 11 سبتمبر الإرهابية في أمريكا، من المسؤول عن زجّ شبابنا إلى المهالك، من المسؤول عن تشويه سمعة المواطن السعودي في كلّ مكان، ومن هو حمّال الحطب في الداخل السعودي».
إنّ هناك تقارير دولية حول أعداد المنخرطين فيما يطلقون عليه بالجهاد في سوريا، وإذا كان أهل كلّ بلد أعرف بمشاكلهم، فما الداعي لكل هذا التأليب والتعبئة والزجّ بالشباب الإسلامي من مختلف البلدان لينتهوا إلى الوقوع في معركة لا مصلحة ولا ناقة لهم فيها ولا جمل؟ وقد رأينا كيف أن شبّانًا أوروبيين للتوّ دخلوا الإسلام، فإذا بهم يُضلّلون ويزجّ بهم في هذه المعارك الخاسرة. فهذه كندا تعلن عن 130 من مواطنيها استقطبوا للخوض في النزاع الأهلي في سوريا، أما عن الشباب السعودي المتورط في الصراع السوري فهناك أكثر من 1400 شاب سعودي يقاتل هناك، أغلبهم من صغار السنّ، وفقًا لعنوان رئيس في صحيفة الوطن السعودية ، فمن يقود هؤلاء الشباب ويقذف بهم إلى أتون المعارك والنزاعات.
استخدام الدين في التعبئة للإرهاب
لقد لعبت التعبئة الدينية دورًا محوريًّا في قذف الشباب إلى أتون النزاعات الأهلية في المنطقة. فالتعبئة ضدّ اليهود والنصارى والمبتدعة والرافضة والصوفية والليبرالية، كلّ هذه الأشكال من التعبئة التي تأخذ غالبًا منحًى تحريضيًّا على الآخرين، هي التي هيَّأت الأرضية في نفوس الشباب لارتكاب الجرائم ضد المختلفين عنهم، هنا تكمن خطورة هذا التعبئة. إنّ الأساليب التأليبية التي أخذت طريقها إلى مناهج التعليم، وفتاوى بعض رجال الدين وخطبهم، وصولًا إلى وسائل الإعلام، هي التي صنعت الأرضية لهذا التيار العنفي الإرهابي. حتى غدا حال الشباب الخاضع للتعبئة والتحريض ليلًا ونهارًا كما يصور الشاعر:
ألقاه في اليّم مكتوفًا وقال له إيّاك إيّاك أن تبتل بالماء!.
والسؤال هنا، لماذا نصنع كلّ هذه الأجواء التعبوية لشبابنا، ثم نأتي لنحاسبهم ونلومهم على أفعالهم، ونحن الذين هيّئنا الأجواء لهم لكي يقعوا في هذا المأزق وهذه النار.
ولعلّ أحد أسوأ العوامل التي دفعت بالشباب دفعًا للانخراط في العنف، هو التشريع الديني للعنف تحت مزاعم الجهاد. إنّ مما يدعو للشفقة حال هؤلاء الشباب الخاضعين إلى سيل من الخطب والمحاضرات، التي تَعِدُهُمْ إذا فجّروا أنفسهم بمشاركة النبي على موائد الجنة، وأنهم سرعان ما يكونون في أحضان الحور العين. إنّ هذا لا يمتّ للجهاد بصلة، بل هو ضلال وإرهاب وخسران، ذلك لأنّ الجهاد في الإسلام له ضوابطه، وموارده، ولا يصحّ لأيِّ أحدٍ ممارسة العدوان تجاه الآخرين تحت مزاعم الجهاد.
إلى ذلك، تلعب الجهات الممولة دورًا حيويًّا في دفع الشباب إلى محارق العنف والإرهاب. فكل المؤشرات توحي بأنّ هناك تمويلًا هائلًا بالسلاح والمال يصبّ في جيوب الجماعات الإرهابية، وإلّا كيف تحصل هذه الجماعات على أحدث الأسلحة والتجهيزات العسكرية، ويستمرون في إدارة شؤونهم، مع أنّ بعضهم يعيشون في الكهوف والجبال، كلّ ذلك يشير إلى أنّ هناك جهات تمولهم، وتوفر لهم الإمكانات تحت مختلف العناوين.
أما العامل الأخير في دفع الشباب إلى أحضان الجماعات الإرهابية، فهو انسداد الأفق، وغياب الخيارات السياسية البديلة أمامهم. فالشباب المسلم يرى بأمِّ عينه كلّ أشكال الأزمات، دون وجود أيّ خيارات مطروحة أمامهم للمعالجة، بل ويجري التعتيم على إمكانية وجود سبل أخرى للمعالجة، وهذا ما يجعل الشباب أمام خيار واحد للتغيير، وهو خيار ممارسة العنف والإرهاب.
لقد عانت البلاد الإسلامية بما يكفي جرّاء هذا الواقع المؤلم. وأكثر ما يحزّ في النفس هو تكرار التجارب ذاتها، والوقوع في ذات المآزق، فقد جرّبنا الأمر في أفغانستان وعانينا ما عانينا من الويلات، بعد أن ذهب شبابنا إلى هناك، فإذا بهم يعودون إلى الديار ناقلين معهم نزعات العنف والإرهاب، فكانت تجربة من عرفوا بالعرب الأفغان، وما أن انحسرت هذه الموجة وظنّ الناس أن هذه الصفحة طويت، ولن تتكرر في بلادنا، إذا بالأمر يعود في الشيشان، ثم يعقبه العراق، وبأسوأ مما سبق، حيث التعبئة والزجّ بالشباب في أتون تلك المعارك، وأخيرًا تكرّر الأمر ذاته في سوريا، ولا ندري على من سيأتي الدور فيما بعد!. إنّنا جميعا نتحمّل المسؤولية أمام هؤلاء الشباب المضلّلين المغرّر بهم؛ لأنّ النتيجة الحتمية للتحريض على العنف ليست سوى الخراب والدمار في ديارنا، وتلطيخ سمعة ديننا، والعبث بالأمن والاستقرار، وهيمنة الرعب والهلع في كلّ مكان، كما هو حاصل اليوم في أكثر من بلدٍ عربي.