مواقع التواصل الاجتماعي والإعراض عن اللغو
الخطبة الأولى: مواقع التواصل الاجتماعي والإعراض عن اللغو
﴿وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ﴾. [سورة القصص، الآية: 55].
ثمة معايير أساسية ينبغي للإنسان أن يأخذها بعين الاعتبار عندما يطرق سمعه كلام في هذا الشأن أو ذاك. ذلك أنّ حواس الإنسان المختلفة تقع على جميع ما يصادفه المرء من أشياء وأمور ومواقف في هذه الحياة، لكنه إنما يركز على ما يشدّه للاستماع أو النظر إليه، ويتجاوز عمّا سواه. ولربما وقع بصر الإنسان على مناظر كريهة مقزّزة، فتراه يعمد لتجاوزها سريعًا، دون إمعان النظر فيها. كذلك الحال مع ما يطرق السمع من كلام وأصوات، فالإنسان إنما يركز على ما يهتم به، ويتجاوز ما لا يهمّه. ويعود ذلك إلى ما يضعه المرء لنفسه من معايير تحدّد ما يودّ الاستماع أو النظر إليه.
ولعلّ المعيار الأساس الذي ينبغي أن يحدّد مقدار اهتمام المرء بما يطرق سمعه، هو مدى الفائدة مما يسمعه، فالمرء مدعو بداية لتقدير مدى الفائدة العائدة عليه من وراء إصغاء السمع لأيِّ أمر، فإذا كان سيعود عليه بالفائدة، فإنه يصغي إليه، ويركز على استماعه، وإلّا فعليه أن يتجاوزه.
ومن المعلوم أنّ هناك فرقًا بين السماع والاستماع، فالسماع حالة عفوية، تتلقى خلالها الأذن جميع ما يدور حولها من أصوات دون تمييز، وبذلك يختلف السماع عن حالة الاستماع، التي تنطوي على فعل قصدي، يعمد المستمع خلاله إلى التركيز على ما يستمع إليه. من هنا فالمطلوب من الإنسان أن يتقصّد الاستماع إلى ما يفيده. وفي هذا الشأن يقول الله تعالى: ﴿وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ [سورة الاعراف، الآية: 204]، إنه سبحانه يحثنا على الاستماع للقرآن بتركيز، لا مجرّد سماعه كأيِّ شيء آخر، ويقول تعالى في وصف المؤمنين: ﴿الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَـٰئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّـهُ وَأُولَـٰئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾[سورة الزمر، الآية: 18]، فالمؤمن معنيٌّ بتقصّد استماع الأقوال والأفكار المتعددة، حتى ينتفع بالأحسن منها. ومما يذكره الفقهاء في هذا الصّدد، أنّ مجرّد وجود المرء في مكان به غناء وأصوات محرمة كالمطعم أو السوق، فلا شيء عليه ما دام غير معنيٍّ بالاستماع والتركيز على تلك الأصوات المحرمة، وإنما يأثم عندما يتقصّد الاستماع لما حرم الله. لذلك فالكلام هنا عن مسألة الاستماع لا مجرّد السّماع العابر.
تنزيه السمع
إنّ الله سبحانه وتعالى لا يريد للإنسان المؤمن أن يقف على جميع ما يطرق سمعه، باستثناء المفيد من الكلام. وفي السياق يقول الإمام عليّ بن الحسين في رسالة الحقوق: «وأما حقّ السمع: تنزيهه أن تجعله طريقًا إلى قلبك إلّا لفوهة كريمة، تحدث في قلبك خيرًا، أو تكسب به خلقًا كريمًا، فإنه باب الكلام إلى القلب، يؤدي إليه ضروب المعاني، على ما فيها من خير أو شرّ»، فالمطلوب أن يتعامل المرء مع السمع، على غرار تعامله مع حاستي النظر والشم، فإذا كان من الطبيعي أن يشيح بوجهه، ويسدّ أنفه، إذا ما رأى منظرًا قبيحًا، وشمّ رائحة كريهة، فكذلك السمع ينبغي أن ينصرف به عن الاهتمام بالقبيح من الكلام.
ولعلّ أحد أكبر الأخطاء التي يقع فيها المرء، في عصر التدفق المعلوماتي الهائل، هو أن يترك نفسه فريسة سهلة للقيل والقال من مكتوب ومسموع. فقد بات يتلقى الناس الكثير من الكلام المقروء والمسموع عبر أجهزتهم النقالة، وعبر مواقع التواصل الاجتماعي: من تويتر وفيس بوك وغيرهما، غير أنّ كثيرًا من هذا الكلام قد لا يكون صحيحًا، ولا مفيدًا، بل هو بالغ السوء على المتلقي في أحيان كثيرة، إلّا أنّ المؤسف هو انطلاء ذلك على من يجعلون أنفسهم في موقع المتلقّي والمتفاعل مع أيِّ كلام يصلهم، خاصة وأنّ هناك درجة من التأثر التي سيتركها الكلام الخطأ على نفس المتلقّي دون أن يشعر، وهنا مكمن الخطأ الكبير.
إضاعة الوقت
هناك محاذير كثيرة ينبغي أن تصرف المرء عن الانشغال فيما لا يفيده، وعلى رأسها إضاعة الوقت. حيث ينبغي ألّا يضيع المرء وقته واهتمامه فيما لا يعود عليه بالفائدة، فلربما كان ذلك على حساب اهتماماته الأخرى، وأن يمنع كلّ ما يسبب أيّ تأثير سيئ في نفسه، وقد ورد عن أمير المؤمنين أنه قال: «من اشتغل بما لا يعنيه فاته ما يعنيه»[1] ، وفي رواية أخرى عنه أنه قال: «من اطّرح ما يعنيه دفع إلى ما لا يعنيه»[2] ، واطّرح بمعنى ترك، وبذلك يكون من ترك ما يعنيه ويهمّه من الأمور، فسيجد نفسه مشغولًا فيما لا يعنيه ولا يهمّه الانشغال به، وفي رواية ثالثة عنه أنه قال: «من اشتغل بغير المهم ضيع الأهمّ»[3] ، فما الذي يدعو المرء لتتبّع وقراءة ما لا يفيده، لا لشيء إلّا لأنها وصلت إليه!، وهل الوقت رخيص إلى هذا الحدّ حتى تصرفه في تتبّع ما لا طائل من ورائه!
إرباك المشاعر والأفكار
أما المحذور الآخر فهو ما يصيب المرء من ارتباك المشاعر والأفكار جرّاء الانشغال بالترّهات المكتوبة والمسموعة. ذلك أنّ الانغماس في تبادل الترّهات خاصة إذا ما استهدفت النيل من هذا الشخص أو تلك الجهة، فهي غالبًا ما تأتي بنتائج عكسية تربك مشاعر وأفكار من يخوضون فيها أنفسهم، من هنا ينبغي أن يجنّب المرء نفسه خطر الانسياق خلف هذه الأمور. إنّ من المؤسف أن تجد أناسًا منغمسين حتى النخاع في تداول الكلام المسيء، عن هذا وذاك، وهذه الجهة وتلك، ليتسلّى بذلك وحسب، بل وتراهم يلهثون خلف التفتيش عن كلّ ما يسيء وينال من الآخرين، ولا يدري هؤلاء أنهم بذلك إنّما يؤذون مشاعرهم ويربكون أفكارهم.
من هنا نفهم التعاليم الإلهية التي تأمر المؤمنين بالإعراض عن اللغو. حيث يقول سبحانه: ﴿وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ﴾، فالمؤمنون لا يعيرون اللغو أدنى اهتمام، حماية لأنفسهم ومشاعرهم من أيّ تأثير سلبي. وقد ورد عن الإمام الصادق في تفسير قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ﴾، أنه قال: «أن يتقوّل الرجل عليك بالباطل أو يأتيك بما ليس فيك فتعرض عنه لله»[4] ، ومضمون كلام الإمام هو أنّ الإعراض هو الردّ المناسب على الخائضين في اللغو والترّهات، وحين يعبّر الإمام بقوله: «فتعرض عنه لله» أي إنّ الإعراض عن اللغو إنما يمثل استجابة لأمر لله سبحانه الوارد في الآية الكريمة.
وجاء في سيرة الإمام زين العابدين: (شتم بعضهم زين العابدين صلوات الله عليه، فقصده غلمانه فقال: «دعوه فإنّ ما خفي منّا أكثر مما قالوا، ثم قال له: ألك حاجة يا رجل؟»)[5] ، واللافت هنا أنّ الإمام لم يعر شتيمة الرجل أدنى اهتمام يذكر، وزاد على ذلك بأن عرض تلبية حاجة الرجل إن كان محتاجًا.
وفي حادثة أخرى استقبل الإمام رجلًا آخر، فأخذ يكيل للإمام السبّ والشتم، فأجابه الإمام بالقول: «يا فتى، إنّ بين أيدينا عقبة كؤودًا، فإن جزت منها فلا أبالي بما تقول، وإنْ أتحيّر فيها فأنا شرٌّ مما تقول»[6] ، ويشير إلى أنّ المرء معنيٌّ بما يشغله ويهمّه من أمر دنياه وآخرته، ولا يقف عند ما دون ذلك.
وفي حادثة أخرى شتمه رجل فأشاح الإمام بوجهه عنه، فقال الرجل: إيّاك أعني، فأجابه الإمام على الفور قائلًا: وعنك أغضي[7] ، مشيرًا إلى ترفّعه التام عن السباب والشتائم. من هنا ينبغي أن نتربّى على هذه المواقف الرائعة، فلا يستوقفنا أيّ كلام، ولا نتفاعل مع كلّ ما يربك أفكارنا ويؤذي مشاعرنا وأحاسيسنا.
المسيئون لا يستحقون الاهتمام
كما أنّ هناك محذورًا ثالثًا يدعونا للإعراض عن القيل والقال، وهو المتمثل في إيلاء المسيئين اهتمامًا لا يستحقونه. ذلك أنّ إبداء أيّ قدرٍ من ردّ الفعل والتفاعل مع الشتامين إنّما يعني انتزاعهم منّا الاهتمام، وإعطائهم وزنًا هم ليسوا أهلًا له، وهذا أشبه ما يكون بالخطباء المتناثرين في حديقة هايد بارك في لندن، التواقين لأن يستمع الناس إليهم، فبقدر ما تقف للاستماع لأحدهم فإنك بذلك تزيد من مستمعيه فتزيده وزنًا، والأمر ذاته ينسحب على بعض مواقع التواصل الاجتماعي، فكلّما زاد عداد القراءات عندهم ازداد أصحابها انتفاخًا. فالتفاعل مع الكلام السلبي يعني إعطاء الجهة التي يصدر عنها ذلك الكلام اهتمامًا تبحث عنه وتريده.
في المقابل وعلى النقيض من ذلك، إذا ما تجاهل الناس أيّ متحدّث بالسوء، فهو بذلك سيشعر بتجاهل الآخرين له فلا يعود لكلامه أدنى وزن يذكر. من هنا فالإنسان المؤمن مدعو للتقيّد بالخلق القرآني المتمثل في الإعراض عن اللغو. ويعرّف اللغويون، اللغو، بأنه ما لا يعتدّ به من كلام، أي لا قيمة ولا أهمية له، وأقصى ما يستحقه هو المجابهة بالإعراض.
إنّ ملابسات العصر الراهن تقتضي قدرًا أكبر من الإعراض والتجاهل. فهناك أطراف والغة إلى حدٍّ بعيد في قذف الآخرين بالكلام المسيء، وأطراف متورطة في دبلجة ذلك الكلام، وأطراف تسقط كلامًا ربما قيل قبل سنوات فتسقطه على مناسبة مغايرة تمامًا لما قيل فيها، وجميع هذه الأساليب باتت معروفة مكشوفة، غرضها إرباك الناس وإثارة المشاكل بينهم، وإشغالهم فيما لا طائل من ورائه.
المؤمن لا يتفاعل مع اللغو
لذلك على الواعين أن يتساموا على هذه الحالة وألّا يستجيبوا لها، وأن يمتثلوا قوله تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ﴾ [سورة المؤمنون، الآيات: 1-3]، فالمؤمنون ليسوا من ذلك الصنف الذي يستغفله الآخرون بإشغاله فيما لا قيمة له من مكتوب ومسموع، على خلاف أولئك الذين يستقبلون اللغو ويتفاعلون معه، ويعطون أهل اللغو جلّ اهتمامهم، وهذا تحديدًا ما يريده أهل اللغو.
ويصف الله سبحانه المؤمنين في مورد آخر بقوله تعالى: ﴿وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا﴾، فالمؤمن يعرض عن اللغو، إذا صادف مروره به، احترامًا لنفسه وحفظًا لكرامته.
وورد عن جابر بن عبدالله عن رسول الله أنه قال: «إِنَّ مِنْ أَحَبِّكُمْ إِلَيَّ وَأَقْرَبِكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ: أَحَاسِنَكُمْ أَخْلَاقًا، وَإِنَّ أَبْغَضَكُمْ إِلَيَّ وَأَبْعَدَكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ: الثَّرْثَارُونَ، وَالْمُتَشَدِّقُونَ، وَالْمُتَفَيْهِقُونَ».
قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، قَدْ عَلِمْنَا الثَّرْثَارُونَ، وَالْمُتَشَدِّقُونَ، فَمَا الْمُتَفَيْهِقُونَ؟ قَالَ: «الْمُتَكَبِّرُونَ»[8] .
من هنا ينبغي أن تكون عند الإنسان معايير أساسية لا يعطي معها بالًا، ولا يعير اهتمامًا، لما ينشر من إساءات عبر مختلف وسائل التواصل الاجتماعي أو القنوات الفضائية. سواء تلك التي تنال من الأشخاص، أو التي تستهدف الجهات، فهناك جهات غارقة في الجدل المذهبي، مرة بين الشيعة والسنة، وأخرى بين الصوفية والسلفية، وثالثة بين هذه الجماعة وتلك الجماعة، فهؤلاء شغلهم بثّ الفتنة وإثارة النزاع بين الناس، هؤلاء يتحدثون باسم السنة، وآخرون باسم الشيعة، وغيرهم باسم الصوفية، وغير ذلك من العناوين والأسماء.
ويأتي التساؤل مشروعًا هنا عن الدّاعي الذي يجبرنا على الخوض مع هؤلاء الخائضين!، أوَلسنا محاسبين على أوقاتنا؟ أوَلسنا مسؤولين عن اهتماماتنا؟ ذلك أنّ أيّ وقتٍ يصرفه الإنسان على متابعة القنوات الفضائية التحريضية والمثيرة للفتن، فإنه يدعم هذه القنوات على نحوٍ أو آخر؛ لأنّ هذا ما يبحث عنه أصحاب هذه القنوات، فالمطلوب عوضًا عن ذلك الإعراض عنهم تمامًا، وكذلك الحال مع مواقع التواصل الاجتماعي التي تستهدف النيل من الآخرين، فالمطلوب أيضًا الإعراض عنها وتجاهلها كليًّا، والنأي عن متابعتها والترويج لأكاذيبها؛ لأنّ ذلك من قبيل نشر الفاحشة، والعياذ بالله.
فالمرء مدعو لتحمّل المسؤولية تجاه نفسه في المقام الأول، وتجاه القيم الأخلاقية ثانيًا، وتجاه المجتمع أخيرًا، فلا يصرف وقته، ولا يضيع جهده فيما لا يفيد، بل بعضه يضرّ، ولا يساعد في إعطاء الاعتبار للجهات التي تحترف القيام بهذه الأدوار، ولنتذكر وصف الله سبحانه لعباده المؤمنين في الآية الكريمة: ﴿وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ﴾[سورة القصص، الآية:٥٥].
الخطبة الثانية: اليوم العالمي للتوعية بمرض التوحّد
ورد عن الإمام عليّ أنه قال: «رحمة الضعفاء تستنزل الرحمة»[9] .
إنّ من المعتاد في أيّ مجتمع بشري وجود أفراد يعانون من حالات الضعف والمرض. هذه الحالة تمثل في حقيقة الأمر ابتلاءً وامتحانًا من الله تعالى، لكافّة الأصحاء من أفراد المجتمع، ذلك أنّ الله سبحانه وتعالى إنّما خلق الناس للابتلاء والامتحان، قال تعالى: ﴿وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ﴾[سورة الأنبياء، الآية:٣٥].
امتحان التعامل مع الضعفاء
ويتمثل جوهر الابتلاء والامتحان هنا في كيفية تعامل المجتمع مع المرضى والضعفاء من أفراده، وما إذا كانوا يهتمون بأفراد هذه الفئة ويرحمونهم، فإذا ما أحسن المجتمع التعامل مع مواضع الضعف في داخله، فإنه سيكون مستحقًّا للمزيد من رحمة الله سبحانه وتعالى، سواء على مستوى الأفراد المهتمين على نحو مباشر برعاية الضعفاء، أو على مستوى المجتمع على نحو عام، فالمهتمون المباشرون برعاية الضعفاء سينالون المزيد من رحمة الله في الدنيا والآخرة، كما ورد عن أمير المؤمنين أنه قال: «رحمة الضعفاء تستنزل الرحمة»، والمجتمع يكون برمّته محلًّا للمزيد من الفضل والخير والرحمة الإلهية، إذا كان مهتمًّا بالضعفاء من أفراده.
إنّ وجود حالات ضعف في المجتمع، تمثل بحدّ ذاتها محفّزًا لتنمية الأحاسيس والمشاعر الخيرة في أعماق أفراد المجتمع، وتدفعها للتحول إلى سلوك عام، وممارسة عملية لدى مختلف الأفراد.
وتتنوع حالات الضعف لدى الأفراد في أيّ مجتمع. فقد يعاني البعض من الفقر وشحة الموارد المالية، فيما قد ينتاب البعض الآخر ضعف في القدرات الجسمية نتيجة الإعاقة، على حين يعاني آخرون ربما من تدهور في صحتهم النفسية، فهذه جميعًا تمثل حالات ضعف مختلفة قد تلمّ بفئة من أفراد أيِّ مجتمع. ومع تطور العلوم الطبية والنفسية، أضحى هنالك فرز، وتسليط ضوء على مختلف حالات الضعف في المجتمع البشري، ونتناول هنا واحدة من هذه الحالات، وهي حالة مرض التوحّد، الذي يصيب الأطفال منذ سنٍّ مبكرة.
التوحّد: أسبابه وأعراضه
ونظرًا لأهمية هذا الأمر، فقد حددت الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 2007، يومًا عالميًّا يصادف الثاني من أبريل من كلّ عام، يهدف إلى التوعية بمرض التوحّد، والتحذير من أخطاره.
ويتمثل المرض في ظهور أعراض الاضطراب والخلل الوظيفي في المخ، مما يؤثر على مهارات التواصل لدى الطفل ضمن محيطه الاجتماعي، على مستوى القدرة على الكلام، والتخيّل والإشارات التعبيرية، ومختلف الأعمال والممارسات الروتينية اليومية.
ولا يزال التوحّد يمثل لغزًا غامضًا لدى علماء الطب وأهل الاختصاص. حيث لم يتوصل العلم حتى الآن، مع ما بلغه من التطور، إلى الأسباب التي تقف خلف الإصابة بمرض التوحّد، ولعلّ آخر ما ذكر في هذا السياق: أن أعراض المرض تبدأ بالظهور على الجنين في بطن الأم. وليت البشرية توجّهت لبذل المزيد من الجهود والأموال على الأبحاث الخاصة بهذا المرض وغيره، لاستفادت كثيرًا، وحققت تقدّمًا أكبر، عوضًا عن صرف الأموال على تمويل الحروب والنزاعات.
واللافت أنّ مرض التوحّد المكتشف حديثًا بات يتزايد بوتيرة متسارعة. حيث تشير الإحصاءات الطبية إلى اتّساع رقعة المرض، وتنامي انتشاره، على نحو أكبر مما كان معروفًا في الماضي، فقد كانت التقارير العلمية تشير في العام 2000م إلى إصابة طفل واحد بمرض التوحد من بين كلّ عشرة آلاف حالة ولادة، وأنّ معدل إصابة الأطفال الذكور أربعة أضعاف الإناث، في حين باتت التقارير الحديثة تشير إلى إصابة طفل واحد بالمرض من بين كلّ 150 حالة ولادة، وتشير تقارير أخرى إلى إصابة طفل من بين كلّ 77 حالة ولادة. ومعلوم أنّ الإصابة بمرض التوحّد تنعكس سلبًا على مستقبل الطفل نفسه، وعلى عائلته ومجتمعه، فالمرض بحدّ ذاته يمثل منطقة ضعف في جسد المجتمع ككل.
وينبغي الإشارة هنا إلى أنّ لدينا في المملكة أعدادًا لافتة من المصابين بمرض التوحّد. فقد قدرت إحصائية رسمية أنّ هناك ما يزيد على 250 ألف طفل توحّدي في المملكة، كما سجّلت الإحصاءات الرسمية نفسها إصابة 200 إلى 400 طفل بمرض التوحّد في كلّ عام. والمؤسف في الأمر أنّ كثيرًا من الأسر تفتقد المهارة في التعامل مع الطفل المصاب بالتوحّد، فقد تصاب الأسرة بالصدمة، وتنتابها الكآبة والتشاؤم نتيجة إصابة أحد أفرادها بالمرض، غير أنّ الأسرة المؤمنة الواعية ينبغي أن تكون راضية بقضاء الله وقدره، وأن تتحمّل مسؤوليتها تجاه هذا الطفل المصاب، من خلال تشخيص المرض خلال الثلاث سنوات الأولى من عمره حيث بداية ظهور الأعراض، فالاكتشاف المبكر لهذه الحالة يساعد أكثر في التكيف مع الحالة، ومساعدة الطفل في تحسين مهاراته وأدائه في مختلف شؤونه اليومية والخاصة، والتقليل من أثر الإصابة بالمرض على مستقبله وحياته. وبحسب المختصين يمكن ملاحظة أعراض المرض من خلال ملاحظة تأخر الطفل في النطق، وضعف استجابته للمؤثرات المحيطة، وقلة التفاعل مع من حوله، إضافة إلى ضعف القدرة على التخيل وإبداء ردّ الفعل المناسب، عند ذلك ينبغي مراجعة الأطباء والأخصايين.
الأسرة ومواجهة الابتلاء
إنّ أول الأطراف المسؤولة عن العناية بالمريض بالتوحّد هي الأسرة في المقام الأول. إذ ينبغي أن تتعامل الأسرة على نحو خاصّ مع المصاب، على أن تضع في الاعتبار أولًا أن ذلك ابتلاء وامتحان من الله، ينبغي الاستعداد له من خلال وضع برنامج للتعاطي مع هذا الابتلاء. ومن المؤسف ما ينتاب بعض الأسر من الانفعال والغضب، نتيجة هذه الحالة، فيتعاملون مع الطفل المريض تعاملًا سيئًا قاسيًا، كما لو أنه طفل سويّ وقد اختار لنفسه المرض!، في حين هو مولود مع المرض، ولا يملك من أمره شيئًا. فالأسرة مطالبة بتفهّم أوضاع طفلها التوحّدي وأن تحسن التعامل معه، من خلال عرضه على الأطباء، والوقوف على كامل أوضاع المرض وأعراضه، وسبل التعامل معه.
التوحّد والمسؤولية الاجتماعية
وينبغي أن يتحمّل المجتمع مسؤوليته في رعاية مرضى التوحّد. وذلك من خلال توفير المراكز والمؤسسات المهتمة بالأطفال المصابين، ونحمد الله تعالى أن مجتمعنا في القطيف قد تنبه لهذا الأمر مبكرًا، وقد تشكّلت مؤسسة أهلية، تدعى بلجنة أسر أطفال التوحّد، وأخذت طريقها للعمل في جزيرة تاروت سنة 1418ﻫ، بمبادرة من أسر الأطفال ذوي الإعاقة بمرض التوحّد.
وقد عملت اللجنة منذ ذلك الحين على جمع المعلومات، وإنشاء البرامج المساعدة للأسر والأطفال المصابين، وبادروا منذ ذلك الحين في إنشاء فصول لتدريب مرضى التوحّد، اتخذت من أحد المنازل مقرًّا لها، وكانت هذه أول بذرة للعمل الأهلي على هذا الصّعيد، على مستوى المنطقة والمملكة ككل، حتى إنّ مؤسسي جمعية التوحّد في مدينة الرياض، بعثوا يستطلعون تجربة لجنة أسر أطفال التوحّد في تاروت. وتمت الاستفادة من خبرات هذه اللجنة على المستوى الاقليمي، فقد ساهم أعضاؤها في تقديم خبراتهم حيال إنشاء مراكز متخصصة بالتوحّد في جمهورية العراق. والخبر الجيّد على هذا الصّعيد، هو انطلاق مركز جديد تأسس مؤخّرًا في مدينة القطيف باسم مركز تواصل، التابع لجمعية القطيف الخيرية، وهو مركز مختصّ بالتعامل مع مرضى التوحّد، وقد بدأ نشاطه بخدمة 25 طفلًا توحّديًا.
الحاجة إلى مراكز متخصّصة
إنّ على المجتمع أن يتحمّل مسؤوليته تجاه مرضى التوحّد، كذلك على الجهاز الحكومي إيلاء هذا الأمر اهتمامًا أكبر. فهناك على مستوى المملكة مراكز قليلة، مهتمة بمرضى التوحّد، تُعَدّ على الأصابع، حيث يبلغ مستوى الحاجة الفعلية للمراكز الخاصة بمرضى التوحّد في المملكة نحو أربعة إلى خمسة آلاف مركز، سيما وأنّ لدينا أكثر من 250 ألف طفل توحّدي في المملكة، علاوة على ارتفاع تكاليف رعاية مرضى التوحّد في مراكز خارجية، ومن المعلوم أنّ تكاليف رعاية الطفل التوحّدي في الأردن حيث يتواجد كثير من الأطفال السعوديين، يبلغ نحو 150ألف ريال للطفل الواحد سنويًّا، في حين ستنخفض هذه التكاليف بنحو النصف فيما لو تم إنشاء مراكز متخصصة في داخل المملكة، ناهيك عن ما سيوفّره ذلك من تواجد الأطفال على نطاق قريب من عوائلهم، عوضًا عن بقائهم بعيدًا عن أهلهم لفترات طويلة خارج البلاد. إنّ علينا جميعًا أن نتحمّل مسؤوليتنا في الاهتمام بهذه الشريحة الضعيفة في المجتمع. فبرحمتهم ينزل الله رحمته علينا، وهذه المسألة ينبغي أن تستولي على أهمية كبيرة لدى المجتمع، فالاهتمام بهذه الفئة من الضعفاء لا يقلّ أهمية عن الاهتمام بالمساجد والحسينيات والمواكب واللجان الأهلية المختلفة، وذلك لما لهذا الأمر من انعكاس مباشر على حياة هؤلاء الأفراد وعوائلهم والمجتمع على نحو عام.