التحرش الجنسي ووسائل العلاج
الخطبة الأولى: التحرش الجنسي ووسائل العلاج
﴿قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَٰلِكَ أَزْكَىٰ لَهُمْ إِنَّ اللَّـهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا﴾ [سورة النور، الآيتان: 30و31].
استتبع تزايد دخول المرأة حقل الحياة العامة، ومشاركتها الرجل سواء بسواء، بعد غياب طويل، ومشاركة محدودة نتيجة الثقافات والبيئات التاريخية التي كانت سائدة على مدى طويل، استتبع ذلك تداعيات سلبية، ومشاكل ذات أبعاد مختلفة، وأبرزها ذات البعد الجنسي، سيما في ظلّ الميل الغريزي للجنسين كل منهما تجاه الآخر، وكان من نتائج ذلك تداعي الجانب الأخلاقي الذي انعكس سلبًا على تماسك الأسرة إجمالًا، ومن ثم انعكس على الأمن الاجتماعي، بحيث صارت الغريزة الجنسية دافعًا للاعتداء والعدوان من خلال ما عرف بالتحرش الجنسي.
لقد بات التحرش الجنسي موضوعًا عالميًّا مطروحًا للنقاش، على طاولة المؤتمرات والندوات الموسّعة. لما له من انعكاسات خطرة على حياة النساء والأطفال، وقد قاد ذلك إلى سنّ كثير من التشريعات والقوانين في مختلف دول العالم، أما في منطقتنا التي طالما عرفت بكونها من المناطق المحافظة، فبالكاد خرج النقاش حول مشكلة التحرش الجنسي للعلن أخيرًا، بعد أن كان التعتيم على تنامي الظاهرة سيّد الموقف؛ لأنّ تعقيدات المشكلة فرضت نفسها.
وفي بلد محافظ كبلدنا السعودية، تشير الإحصاءات إلى أنّ المملكة احتلت المرتبة الثالثة على صعيد التحرش الجنسي، من بين أربعة وعشرين دولة، وقد نشرت صحيفة الرياض، عن دراسة تشير إلى أنّ نسبة التحرش الجنسي بالأطفال في المملكة، بلغ 22.5 بالمئة، حيث بات يتعرّض طفل واحد من بين كل أربعة أطفال للتحرش، وأشارت الدراسة نفسها أن 90 بالمئة من حالات التحرش ارتكبت على يد أشخاص معروفين للطفل[1] ، فالمتحرشون إمّا هم من أفراد العائلة، أو أصدقاء العائلة الذين يكونون محلّ ثقة عند الطفل.
كيف نواجه المشكلة؟
إنّ تنامي هذه الظاهرة جعل مجتمعاتنا في حالة ارتباك إزاءها. فهناك اتجاه لا يرى حلًّا لهذه الظاهرة ووقاية المجتمع من تداعياتها، سوى بالإمعان في الفصل بين الجنسين على كلّ المستويات، وحجب مواقع التواصل الاجتماعي، تطبيقًا للمثل المعروف «الباب اللّي تجيك منه الريح سدّه واستريح»، ويأتي السؤال هنا، ما إذا كان هذا الفصل والحجب معقولًا أو ممكنًا من حيث الأصل؟!
إنّ هذا النمط من التفكير يشبه إلى حدٍّ بعيد، من يفكر في منع استيراد السيارات والعودة لركوب البعارين، والسبب مشاكل وحوادث المرور!، أو على غرار رجل الدين الذي وقف محذّرًا الناس في النجف الأشرف حين أنشئت سكة القطار قائلًا: أيّها الناس، أتتركون حمير الله وتركبون حمير الشيطان!.
إنّ من غير الممكن الفصل بين الجنسين، فالحياة لا تجري وفق ما يشتهيه بعض المتشدّدين المتزمّتين الذين بودّهم لو استطاعوا أن يجعلوا الرجال في كوكب والنساء في كوكب آخر منفصل تمامًا، أو أن تكون الدنيا من طابقين، أحدهما للرجال والآخر للنساء!.ولطالما اعترض هؤلاء المتزمّتون على خطوات سابقة، ثم وجدوا أنفسهم منصاعين لها رغمًا عنهم، من هنا فمن غير الممكن الدعوة إلى الفصل التام بين الجنسين. وعلاوة على عدم الإمكانية، فالتعاليم الدينية لا تحثّنا على إجراء هذا الفصل الحادّ بين الجنسين، فلا النصوص الدينية ولا السيرة النبوية، ولا سيرة الأئمة والخلفاء تدفع بهذا الاتجاه من قريب أو بعيد، ويكفي أن مناسك الحج كانت منذ البدء ولا زالت تؤدى جماعيًّا، ومختلطة بين الرجال والنساء، حتى إنّ أحد الدعاة عندما اقترح تخصيص طابق للنساء وآخر للرجال للطواف والصلاة في الحرم المكي، اعترض عليه الجميع، وسخروا من طرحه. وكذلك الحال مع حجب المواقع الإعلامية، ومواقع التواصل الاجتماعي فهذا أمر غير ممكن عمليًّا.
إنّه لا ينبغي الاستسلام لمشكلة التحرش الجنسي، وإنما ينبغي التفكير في معالجة المشكلة ضمن آفاق أوسع. فالمشكلة لم تعد منحصرة في بيئة معينة، بل باتت ظاهرة عالمية، تشغل بال كثيرين في هذا العالم، حتى بلغت أروقة أشد المواقع انضباطًا، كما في المعسكرات والثكنات العسكرية، بل وسجّلت حالات تحرش حتى في مقرّ وزارة الدفاع الأمريكية نفسها، كما أنّ تداعيات هذه الظاهرة باتت خطرة على الأسرة والمجتمع في كلّ مكان. ونحن بما نستند إليه من قيم وتراث، يفترض أن نكون أقدر على مواجهة المشكلة، إذا ما فعّلنا قيمنا وتراثنا.
ثقافة الوقاية
وفي سبيل الحدّ من ظاهرة التحرش الجنسي في مجتمعاتنا لا بُدّ من اتخاذ خطوات أساسية، منها: إثارة قيم الانضباط والالتزام في حياة الفرد المسلم، فهناك كثير من الآيات القرآنية والنصوص الدينية، التي توجّه المسلم دائمًا وأبدًا إلى الحذر من انفلات غريزته الجنسية، والنأي عن الانسياق وراء الشهوات.
هذه التعاليم ينبغي أن نستحضرها باستمرار ضمن وعي الجمهور، وبين ثنايا التوجيه التربوي والثقافي للأفراد، ومن أبرز الآيات الواردة في هذا الصدد قوله تعالى: ﴿قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَٰلِكَ أَزْكَىٰ لَهُمْ إِنَّ اللَّـهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ ﴿٣٠﴾ وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا﴾[سورة النور، الآيتان: 30-31]، وقال تعالى في آية أخرى: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ﴾[سورة المؤمنون، الآية: 5]، وفي آية ثالثة قال سبحانه: ﴿وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ﴾[سورة الأحزاب، الآية: 35]، ولفظة الفروج التي وردت في الآيات الكريمة إنما جاءت عنوانًا للغريزة الجنسية.
إنّ من الطبيعي أن ينجذب الإنسان غريزيًّا إلى مظاهر الإثارة والجمال، لكن ينبغي في الوقت عينه أن نتذكر بأن الله بصير ورقيب على جميع تصرفاتنا، وأنّ العقاب هو مآل أولئك الذين يطلقون العنان لغرائزهم. وفي مقابل ذلك، فإنّ الله سبحانه سيكافئ المنضبطين بأوامره ونواهيه بما هو أفضل من هذه المتع العابرة. وقد ورد عن رسول الله أنه قال: «من ملأ عينه من حرام ملأ الله عينه يوم القيامة من النار»[2] ، فالنظر للحرام يستدعي العقوبة من الله، وهذا يشمل الرجل والمرأة على حدٍّ سواء. وعنه أنه قال: «اشتدّ غضب الله عزّ وجلّ على امرأة ذات بعل ملأت عينها من غير زوجها»[3] ، كما ورد عنه: «النظر سهم مسموم من سهام إبليس، فمن تركها خوفًا من الله أعطاه الله إيمانًا يجد حلاوته في قلبه»[4] ، وورد عن الإمام الصادق أنه قال: «من نظر إلى امرأة فرفع بصره إلى السماء أو غمض بصره لم يرتدّ إليه بصره حتى يزوّجه الله عزّ وجلّ من الحور العين»[5] . وعليه لا بُدّ من إثارة قيم الانضباط والالتزام في نفوس الأفراد كخطوة أولى في سبيل الحدِّ من هذه الظاهرة السيئة.
أجواء العفّة والاحتشام
كما أنّ من سبُل الحدّ من ظاهرة التحرش الجنسي في مجتمعاتنا، توفير أجواء العفّة والاحتشام، والبعد عن أجواء الإثارة. إذ إنّ ما يجري في أحيان كثيرة، هو أنّ الأفراد يضعون أنفسهم وسط أجواء الإثارة، من خلال مشاهدة الأفلام الإباحية التي تحرّض شهواتهم، وتدفعهم من ثَمَّ نحو ارتكاب جرائم الاعتداء والتحرش الجنسي والاغتصاب. من هنا ينبغي أن نمنع مثل هذه الأجواء، إن على المستوى الشخصي أو العائلي، على أن يكون المنع قائمًا على أساس من الإقناع والتوعية، لا المنع بالقوة. ولا فائدة من ممارسة الإرشاد والتوعية في ظلّ بقاء كل وسائل الإثارة والإغراء، فعندها سنكون كما قال الشاعر:
ألقاه في اليمِّ مكتوفًا وقال له إيّاك إيّاك أن تبتلّ بالماء
وكما أنّ على الرجل أن يلتزم وينضبط، فكذلك على المرأة أيضًا التزام الحشمة، وألّا تُبدي زينتها، وتكشف عن مواضع الإثارة في جسمها، حتى تحافظ على عفّتها، وتمنع الاعتداء عليها، فهذا تكليف مشترك يشمل الجنسين.
وينسحب هذا الأمر على داخل البيوت نفسها، فقد يكون هناك تساهل في الاحتشام داخل الأسرة وبين الأقرباء، فقد ترتدي البنات ملابس مثيرة، وحولهنّ أخوة مراهقون، وهؤلاء بشر يتأثرون بما حولهم، وقد يدفعهم نحو ارتكاب الحرام، كما ينطبق ذات المحذور على الشباب الذين يستعرضون مواقع الإثارة في أجسامهم أمام شقيقاتهم وأقربائهم. من هنا تأتي أهمية توفير أجواء العفّة والاحتشام داخل الأسرة.
التقنينات الرادعة
أما الخطوة الثالثة والأخيرة من سبل الحدّ من التحرش الجنسي، فهي ضرورة سنّ العقوبات الرادعة. وتأتي في هذا السياق مناقشة مجلس الشورى السعودي لقانون الحدّ من التحرش الجنسي، وقد سبقتنا على هذا الصعيد دول كثيرة، بات التحرش الجنسي فيها يعتبر أحد أخطر الجرائم، وقد وضعوا في هذا السبيل عقوبات شديدة رادعة للمتحرشين، بينما في بلادنا بعد لم تسنّ العقوبات الرادعة، بما يكفي للحدّ من هذا السلوك المشين. إنّ وجود العقوبات الرادعة، وتطبيقها بصرامة، سيكون له أثر في الحدّ من هذه الظاهرة.
الخطبة الثانية: الخصومة في الدين انقلاب على الدين
روي عن الإمام الصادق أنه قال: «إيّاكم والخصومة في الدين!.. فإنها تشغل القلب عن ذكر الله عزّ وجلّ، وتورث النفاق، وتكسب الضغائن، وتستجير الكذب»[6] .
قد يتخاصم المرء مع آخرين نتيجة تضارب مصالحه المادية معهم، سواء كان مورد النزاع عقارًا أو تجارة أو تقاسم ثروة، ولربما تخاصم الناس على مكانة سياسية، أو للاستيلاء على نفوذ وسلطة، فهذا أمر واضح مفهوم، وقد خلقت الأمم الناضجة أطرًا حديثة لتقنين هذا التنافس، فسنّت القوانين، ووضعت الأنظمة في هذا السبيل، وذلك للاحتكام إليها عند نشوب النزاعات سواء كانت ذات طابع سياسي أو مالي. غير أنّ الخصومات الدينية تُعَدّ لونًا من الخصومات أثبت باستمرار أنه الأسوأ والأخطر على نحو مطلق.
أخطر الخصومات
ويمكن تعريف الخصومة الدينية بأنّها تلك القائمة على الاختلاف في الرأي الديني، أو المذهبي، أو الانتماء لمدرسة فكرية معينة. وفي هذه الحالة يختصم الأفراد أو الجماعات؛ لأنهم يختلفون مع بعضهم في الرأي الديني، فتنشأ نتيجة ذلك الخصومة بين فريق وآخر، وهذا اللون من الاختلافات الدينية يفوق بأضعاف الاختلافات الأخرى سوءًا وخطورة.
ويعود مصدر الخطورة في هذا الشأن، إلى كون الخلافات السياسية أو المالية خلافات ذات حدود واضحة غالبًا، فيما تكون الصراعات الدينية مفتوحة وملتبسة، يطرح فيها الأطراف أنفسهم صفتهم مدافعين عن الله والدين والحقّ، لذلك يأخذ الصراع أبعادًا أعمق في حياة الناس، بما يفوق الأبعاد التي تأخذها النزاعات السياسية والاجتماعية والمالية. ذلك أنّ النزاعات الدينية عادة ما تستنفر كلّ مشاعر وأحاسيس الأفراد؛ لكون الدين أقدس ما يملكه الناس، ولما للدين من تأثير مباشر على حياة الأفراد.
غرض الدين
إنّ الخصومات الدينية تمثل في حقيقة الأمر انقلابًا على غرض وجوهر الدين. فقد أنزل الله الأديان لبني البشر ليعيشوا السلام فيما بينهم، ولكي تعيش المجتمعات حياة آمنة مطمئنة، وقد قال سبحانه: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّـهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّـهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾[سورة الرعد، الآية: 28]، فالطمأنينة هي هدف الدين، وقد ورد عن النبي أنه قال: «الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ النَّاسُ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ»[7] ، وبذلك يتضح أنّ غاية التعاليم الدينية هي زرع الانضباط في النفوس، وكفّ العدوان بين الناس، والنأي عن الدخول في الخصومات مع الآخرين. غير أنّ المؤسف، هو أنّ هذا الدين العظيم الذي يكتنز في أعماقه كلّ هذه الروح السلمية، اتخذه بعض الناس مادة للتخاصم والاعتداء، وهذا هو عين الانقلاب على جوهر الدين، وقمة الإساءة إلى الإسلام.
لماذا الخصومة؟
ويأتي السؤال هنا، عن سبب الخصام الذي يهيمن على عقول البعض تجاه الآخرين لمجرد اختلافهم معهم في الرأي الديني!. فإذا كان الإنسان معتنقًا لدين أو مذهب، وتغمره القناعة بأنه على الدين والمذهب الحقّ، وأنه يلزم الطريق الأصوب للوصول إلى رضا الله سبحانه وتعالى وبلوغ الجنة، فهنيئًا له بذلك، ومن يعتنق رأيًا فكريًّا ويعتقد أنه الأكثر صوابية فله الحقّ في ذلك، ولكن ما شأنه وشأن الآخرين، وما الذي يهمّه من أمرهم، ولماذا يقحم نفسه في الخصومات معهم على هذا الأساس؟
هنا، قد يزعم البعض أنّ منشأ خصومته مع الناس هي التعاليم الدينية التي تأمره بهداية الآخرين. وقد يستند في ذلك إلى قول الله تعالى: ﴿ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ﴾، غير أنه لو أكمل الآية لكفّ عن التخاصم مع الناس، حيث يقول سبحانه: ﴿ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ [سورة النحل، الآية: 125]، فالدعوة إلى الله لا تكون بالدخول في الخصومات والعدوان ورفع السلاح أو السبّ والشتم. إنّ من يخوض الخصومات مع الآخرين انطلاقًا من قناعة دينية، فهو قد فهم الدين على نحو خطأ تمامًا، أو أنه يطلق العنان لغرائزه الأنانية تحت شعار الدين، فيسعى للاستعلاء وفرض الهيمنة باسم الدفاع عن الدين، رغم أنّ التعاليم الدينية الحقّة لا تقرّ ذلك، بل وتنبذ هذه الأساليب. ولتبسيط الأمر إلى حدٍّ بعيد، يمكن القول إنّ هذا يشبه بدرجة كبيرة من يستمتع بتناول طعام معيّن، فيقوم على إثر ذلك بمعاداة وخصومة من لا يحب ذلك الطعام!
الدين اقتناع لا إجبار
إنّ الإيمان مرتبط على نحو مباشر بقلب الإنسان. وتبعًا لذلك لا يمكن إجبار أحدٍ على اعتناق ما لا يؤمن به، ومن غير اللائق صنع العداوات مع الآخرين، لمجرد إثبات أنك على الحقّ وأن رأيك هو الصواب. إنّ إثبات صحة الدين والمذهب والفكرة يتطلب تقديم الأدلة والبراهين، كما في الآية الكريمة: ﴿قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ﴾، فالإقناع وسيلته الحوار، وإثبات الحقّ أداته المجادلة بالتي هي أحسن، فإن قبلوا رأيك فأهلًا وسهلًا، وإن لم يقبلوا، فليس عليك هداهم، ولا إكراه في الدين. إنّ جميع أنبياء الله الذين كانوا على الحقّ بلا أدنى جدال، ما كانوا يخاصمون أقوامهم، ولا يجبرونهم على الاقتناع برسالاتهم، تبعًا لقوله تعالى: ﴿وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ﴾، فأقصى ما يتوجّب على المرء هو أن يطرح رأيه، ولا يحقّ له أن يكره الآخرين على رأيه. قال تعالى مخاطبًا نبيه: ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾ [سورة يونس، الآية: 99]، إنّ أحقية وصوابية الرأي مهما بلغ مداها، ليست مبررًا لفرض الرأي على الناس بالإكراه.
وفي قصة معبّرة قدم أحد أصحاب النبي شاكيًا لرسول الله، بأنّ له ابنين نصرانيين، ولا يريدان الدخول في الإسلام، وقال للنبي: «ألا أستكرههما فإنهما قد أبيا إلّا النصرانية»، فأنزل الله على نبيه قوله تعالى: «لا إكراه في الدين»[8] ، فلا يجوز الإكراه حتى مع الأبناء الذين هم أقرب وأعزّ ما عند الإنسان.
وفي آية أخرى قال تعالى: ﴿وَقُل لِّلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوا وَّإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّـهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ﴾[سورة آل عمران، الآية: 20] فلا حقّ لأحدٍ أن يحاسب الناس على آرائهم، فضلًا عن اصطناع العداوة معهم على هذا الأساس، ولم يُعطِ الله أحدًا الحقّ في محاسبة الناس على أديانهم ومذاهبهم وآرائهم في هذه الحياة.
ومع شدّة وضوح الآيات والنصوص في هذا الصدد، إلّا أننا ـ مع الأسف الشديد ـ نعيش أجواء التعبئة الدينية القصوى في أوساط المسلمين، فأتباع كل مذهب يشتغلون بالتعبئة ضد أتباع المذهب الآخر، والمدهش أن كلّ واحدٍ من هؤلاء مقتنع إلى حدٍّ بعيد أنه هو على الحقّ، وعلى طريق النجاة، لذلك يأتي السؤال؛ ما لك وللآخرين، ولماذا تدخل في صراعات مفتوحة مع الناس؟.
كما تنسحب ذات التعبئة على الداخل المذهبي نفسه، فلربما تجد أحدًا يؤمن برأي معيّن حول أهل البيت، سواء على صعيد الشعائر الحسينية، أو الوقائع التي عاشها آل البيت، أو مقاماتهم وما شابه ذلك، فإذا ما تبنّى أحد آخر رأيًا مغايرًا، ثارت ثائرته!. لا مبرّر للخصام ولا الإجبار على النزول عند رأي معيَّن، فكلٌّ مسؤول عن رأيه، وله حقّ التبشير بأفكاره بالحكمة والموعظة الحسنة، سواء كان الرأي صادرًا عن اجتهاد منه أو تقليد لغيره، فليس لأحدٍ حقّ الوصاية على آراء الآخرين.
لا وصاية على الآخرين
وهناك على ذات الصعيد نصوص دينية عديدة تنبذ الوصاية وفرض الرأي قهرًا على الآخرين. قال تعالى مخاطبًا نبيه: ﴿فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ * لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ * إِلَّا مَن تَوَلَّىٰ وَكَفَرَ * فَيُعَذِّبُهُ اللَّـهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ * إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُم﴾[سورة الغاشية، الآيات: 21-26] وانطوت الآية الكريمة على مضامين جوهرية، يأتي على رأسها اقتصار مهمة الأنبياء على تذكير الناس وحسب، وألّا سيطرة ولا وصاية لهم على الآخرين. وحتى لو رفض الناس هداية الأنبياء، فليس من حقّ أو من مسؤولية الأنبياء معاقبتهم، وإنما يكمن الحقّ المطلق لله وحده في إيقاع العقاب والعذاب على المخالفين للأنبياء، فمآل الناس جميعًا الوفود على ربهم. وجاء في الآية الكريمة قوله تعالى: ﴿وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّـهِ إِلَـٰهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ﴾، فحساب الناس على يد خالقهم، سواء قبلوا الحق أو رفضوه.
إنّ الأنبياء والأئمة لم يكونوا يتعاملون مع المخالفين لهم في القضايا الدينية كما يتعامل الناس اليوم. فهل أن الناس اليوم أحرص على الدين من الأنبياء، وهل هم أكثر غيرة على العقيدة من الأئمة!، فلماذا كلّ هذا التشنج القائم، والخلافات، والصراعات، وقطيعة الأرحام، وتبادل السباب والشتائم في أوساطنا؟ وما الضّير أصلًا في أن يتبنى الناس آراء مختلفة، وما شأن الآخرين إن اعتنق إنسان رأيًا من الآراء التي لا تنسجم وآراءهم. إنّ غاية ما هناك أن يلتزم الناس ما هم مقتنعون به، ولا دخل لهم فيما اعتقده الآخرون، فكلٌّ له منهجيته وطريقه الذي يسير عليه، هذه هي توجيهات الدين.
ضبط النفس أمام التعبئة الطائفية
نحن بحاجة إلى مستوى عالٍ من ضبط النفس، خصوصًا في هذه الظروف الحسّاسة، التي يجري فيها التصعيد من وتيرة الجدل والنبرة الطائفية التي تسخن الساحة لأغراض ومصالح سياسية.
وقد حثّ أئمتنا باستمرار على ضبط الأعصاب وعدم الانجرار إلى ساحة النزاع والخصومة، فقد روي عن الصادق أنه قال: «إيّاكم والخصومة في الدين»، فالخصومة بحدّ ذاتها أمر سيئ مرفوض، سواء كانت الخصومة مع المختلفين دينيًّا أو مذهبيًّا، أو حتى المختلفين ضمن مفردات جزئية داخل المذهب الواحد، فلا يستحق الأمر كلّ هذا التوتر النفسي والتشنج الاجتماعي، لدرجة يشفق المرء فيها على بعض الناس، لشدة ما يرى فيهم من تشنّج وانفعال، يبدو جانب كبير منه فيما يتناولونه عبر حساباتهم في مواقع التواصل الاجتماعي، فالسّمة الغالبة لهم هي الغضب الشديد، وإشهار سيف الاتّهام على كلّ مخالف، وليت هؤلاء يعلمون بأنّ الله لا يريد منهم كلّ هذا التشنج، ولا الأئمة ينتظرون منهم كلّ هذا الحماس المنفلت من عقاله.
إنّ منهج أئمتنا يقول بوضوح «إياكم والخصومة في الدين فإنها تشغل القلب عن ذكر الله عزّ وجلّ وتورث النفاق وتكسب الضغائن وتستجير الكذب»، وفي نصٍّ آخر «.. وتستجيز الكذب»[9] . حيث إنّ صاحب الخصومة يلجأ للاختلاق والكذب والتقوّل، حتى ينال من خصومه المختلفين معه في الرأي!. وروي عن عليّ بن يقطين أنه قال: «قال لي أبو الحسن موسى بن جعفر الكاظم: مُرْ أصحابك أن يكفّوا من ألسنتهم ويدعوا الخصومة في الدين ويجتهدوا في عبادة الله عزّ وجلّ»[10] ، وعن الإمام الصادق أنه قال: «لا تخاصموا الناس لدينكم فإن المخاصمة ممرضة للقلب»[11] ، وعن أيوب بن الحرّ قال: سمعت أبا عبد الله الصادق يقول: «إنّ رجلًا أتى أبي فقال: إني رجل خصم، أخاصم من أحبّ أن يدخل في هذا الأمر[12] ، فقال له أبي[13] : لا تخاصم أحدًا، فإنّ الله إذا أراد بعبد خيرًا نكت في قلبه»[14] ، ومضمون قول الإمام للرجل، أنّ أحدًا لم يطلب منك الدخول في هذا النوع من الجدل المذهبي، كما لم يكلفك بهذه المهمة أحد، وأنّ الهداية أمر ربّاني في المقام الأول.
من هنا، على المرء ألّا يستجيب لحالات التحريض الطائفي، وألّا ينجر إلى إثارات التأليب الفكري ضمن الداخل المذهبي. بل المطلوب دائمًا أن نتعامل مع بعضنا بأعصاب هادئة، وأن ننأى بمجتمعنا عن التشنجات الاجتماعية الناتجة عن اعتناق هذا الرأي أو رفض تلك الفكرة، وأن يحتفظ الجميع بحقّ التعبير عن الرأي دون الدخول في الخصومات والعداوات، فهذا مما لا ينبغي للإنسان المؤمن التورّط فيه.