اشكر من حولك وتجاوز عن أخطائهم
الخطبة الأولى: اشكر من حولك وتجاوز عن أخطائهم
جاء في دعاء مكارم الأخلاق للإمام عليّ بن الحسين زين العابدين: «اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّد وَآلِهِ، وَسَدِّدنِي لأن أعَـارِضَ مَن غَشَّنِي بِالنُّصـحِ، وَأَجـزِيَ مَن هَجَرَنِي بِالبِرِّ وَأُثِيبَ مَن حَرَمَنِي بِالبَذلِ وَأُكَافِيَ مَن قَطَعَنِي بِالصِّلَةِ وأُخَـالِفَ مَنِ اغتَابَنِي إلَى حُسنِ الذِّكرِ، وَأَن أَشكرَ الحَسَنَةَ وأغضي عَنِ السَّيِّئَـةِ»[1] .
يواجه الإنسان ضمن حياته اليومية، في محيطه الصغير أو مجتمعه الكبير، خليطًا من المواقف الإيجابية والسلبية، التي يحتاج معها إلى ضبط ردود أفعاله عليها، على نحو متّزن. والإنسان كتلة من المشاعر، لا يمكنه أن يكون في منأى عن التأثر، سلبًا أو إيجابًا، فإذا ووجه بعمل جميل فهو يرتاح إليه نفسيًّا، وإذا ووجه بعمل سيء فهو يتأذّى وينزعج منه، هذا من طبيعة البشر. لكن السؤال هنا، هو عن كيفية ترجمة المرء لمشاعره وأحاسيسه وردود فعله إزاء المواقف الإيجابية والسلبية التي يصادفها في تعامله مع الآخرين؟
إبداء الشكر والرضا
إنّ أول وأهمّ ما يتوجب على المرء تجاه ما يقدمه الآخرون إليه من أعمال تسرّه، هو إبداء الشكر وإظهار السرور لصاحب المعروف. كأيِّ عمل إيجابي تقدّمه الزوجة في المنزل، أو تصرف جميل من أبنائه، أو خدمة يقدمها جارٌ أو زميل أو أحد المعارف، فجميع تلك الأعمال تستحق الشكر. بعض الناس بخلاء جدًّا في إظهار ارتياحهم وشكرهم للآخرين، وهذا نوع من الجفاف في التعامل. ذلك أن من الواجب التعبير عن مشاعر السرور والرضا إزاء من يحسنون إلينا، وهذا تحديدًا ما يعبّر عنه بشكر المعروف وشكر الإحسان. إنّ الإمام زين العابدين وفي شطر من دعاء مكارم الأخلاق يطلب من الله سبحانه أن يُسدّده ويوفقه لأنْ يشكر الحسنة، أي العمل الجميل الذي يسديه الآخرون له.
الشكر على أداء الواجب
وينبغي الملاحظة هنا، بأنّ إسداء الشكر والتقدير لأهل المعروف، يبقى مسلكًا جديرًا بالاهتمام، حتى لو كان ذلك المعروف مرتبطًا بصميم واجبات الآخرين. فمن أعظم مكارم الأخلاق إِبداء الشكر إزاء أيِّ عمل جميل يقدم لنا على نحو مطلق، ويجري ذلك ـ على سبيل المثال ـ مع ما تقدّمه الزوجة داخل المنزل، فهي تستحق كلّ الشكر بالمطلق، لا كما يفهمه بعض الأزواج المنتفخين ذاتيًّا، من أنّ الزوجة إنما تقوم بما تقوم به باعتباره جزءًا من واجبها، وبذلك لا تستحقّ عليه حمدًا ولا شكورًا! وهذا خلاف المنهج الرباني، فربنا سبحانه وتعالى يشكر عباده المؤمنين، ويجازيهم بالثواب، ويعدهم بحسن المآب، مع أنهم لم يقوموا إلّا بواجباتهم التي فرضها سبحانه عليهم.
وعلى غرار ذلك، ينبغي أن يبدي الآباء الشكر لأبنائهم الذين يبرونهم ويحترمونهم، مع أنّ ما يقوم به الأبناء هو واجب عليهم، لا كما يفعل بعض الآباء الذين ربما لا يجدون بأن عليهم إبداء مشاعر الامتنان أمام الأبناء، معتقدين -خطأً- بأن ذلك من صميم واجبات الأبناء وحسب، فلا يستحقون عليه الشكر.
وسواء أُسدي المعروف من الأهل والأصدقاء أو الزملاء والجيران، من المهم أن يعوّد المرء نفسه شكر الحسنة الصادرة من أيٍّ كان، بما في ذلك الزوجة أو الخادمة أو العامل أو السائق الذي يوصلنا، كما أنّ من المهم النأي عن العجرفة التي تستكثر تقديم عبارات الشكر التقليدية للعاملين تحت أيدينا، على قاعدة أنهم يتسلّمون معاشًا لقاء عملهم ذاك. إنّ على الإنسان حين يجد عملًا إيجابيًّا من الآخرين، أن يشجّعهم على الاستمرار في هذا المسلك الحسن، من خلال شكرهم حتى لو كان ذلك العمل جزءًا من واجباتهم.
الشكر حقٌّ للمحسنين
وثمّة دواعٍ ومبرّرات عديدة لإبداء الشكر والإشادة بالعمل الجميل من الآخرين. ولعلّ أول هذه المبررات، هو أنّ تقديم الشكر لأهل المعروف حقٌّ أدبيٌّ ومعنويٌّ للطرف الآخر، ونجد ذلك جليًّا في رسالة الحقوق للإمام زين العابدين حين قال: «أما حقّ ذي المعروف عليك أن تشكره وتذكر معروفه»، فالزوجة التي تصرف جهدًا هائلًا في تربية الأبناء، ورعايتهم في كلّ شؤون حياتهم، وتوفير جو مريح لعائلتها وزوجها، تستحقّ الإشادة وتقديم عظيم الشكر والامتنان لها على ذلك. والأمر ذاته ينطبق على الزوجة التي ترى زوجها يكدّ على توفير لقمة العيش للعائلة، وينفق عليها، ويهتمّ بمختلف شؤون المنزل، فعليها أن تعوّد نفسها شكر زوجها على كلِّ عمل إيجابي وجميل يؤدّيه تجاهها، وإن كان واجبًا شرعيًّا عليه.
التشجيع على الخير
أما المبرر الثاني فهو ما يقدّمه الشكر والإشادة بالعمل الحسن من تشجيع وتعزيز لذلك السلوك عند أهل المعروف. متى ما وجدوا انعكاس ذلك إيجابًا، في ردود فعل الآخرين المليئة بالشكر والعرفان، وقد ورد في هذا السّياق عن أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب أنه قال: «شكرك الراضي عنك يزيده رضا ووفاء»[2] ، وأيضًا: «شكرك للسّاخط عليك يوجب لك منه صلاحًا وتعطّفًا»[3] .
وثالث المبررات أنّ هذا المسلك يعزّز السّلوك الإيجابي في الواقع الاجتماعي العام. حين يتعارف الناس على شكر الطيبين، وتقدير الأعمال الإيجابية، والإشادة بها، فهم بهذه الممارسة يحفّزون بعضهم بعضًا على أداء المعروف، والأعمال الحسنة، والإشادة بالمبادرات الخلاقة، ضمن محيطهم الاجتماعي العام.
وعلى النقيض من ذلك، سيغدو المجتمع سلبيًّا إذا تمت مجافاة أهل المعروف، وتجاهل إحسان المحسنين في خدمة الجميع، وربما عُدّ أولئك الذين لا يشكرون أهل الإحسان باعتبارهم قاطعي طريق المعروف، ذلك أنّ فاعلي الخير بشر لهم مشاعرهم، ويتأثّرون بما حولهم، فإن وجدوا الشكر على صنيعهم تشجعوا واستمروا في فعل الخيرات، وإن ووجهوا بالإساءة أو التجاهل فسينال ذلك من عزائمهم، ولربما تأثر عطاؤهم لمجتمعهم سلبًا.
واستدراكًا ينبغي أن نضع في الاعتبار بأنّ المؤمن الواعي ليس في وارد انتظار الشكر من الناس على أعماله الخيرة، بقدر ما ينتظر الثواب من الله متمثلًا بقول الله سبحانه: ﴿إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّـهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا ﴾ [سورة الإنسان، الآية: 9] فالعمل لوجه الله هو الأصل في سيرة المؤمنين، لكن مع ذلك يبقى الإنسان بشرًا له مشاعر وأحاسيس تتأثر بواقعها المحيط سلبًا وإيجابًا، وحيثما غاب الشكر لأهل المعروف، حضر التثبيط لتوجهات الخير والمعروف. وقد ورد عن الإمام الصادق أنه قال: «لعن الله قاطعي سبيل المعروف، قيل: وما قاطعي سبيل المعروف؟ قال: الرجل يصنع إليه المعروف فيكفره فيمنع صاحبه من أن يصنع ذلك إلى غيره»[4] . من هنا ينبغي أن يعوّد المرء نفسه شكر كلّ عملٍ إيجابي، وأن يشيد بأيِّ فعل خير يُسدى إليه شخصيًّا، أو يصبّ في اتجاه خدمة المجتمع عمومًا.
التغاضي عن الإساءات
في المقابل، ينبغي للمرء أن يُحسن ترجمة ردود فعله إزاء المواقف السلبية التي قد يتعرض لها ضمن حياته اليومية. ذلك أنّ المحيطين بالإنسان ليسوا ملائكة، وإنما هم بشر مثله، ومن المتوقع أن يجدهم يقعون في الخطأ والجهل والغفلة، ولا شك بأنّ المرء سيناله انزعاج حين تطاله تصرفات مسيئة من المحيطين به، فهناك من يأتي رد فعله مزيجًا من الغضب والعداء والقطيعة مع المسيئين، في حين تشدّد التعاليم الدينية على أن يكون المسلم الواعي مغضيًا متجاوزًا عن تلك الإساءات ، فإذا ما أخطأت الزوجة فليتجاوز الزوج، وإذا ما أخطأ الزوج بحقّ زوجته فلتتجاوز هي عن ذلك، وعلى غرار ذلك ما يمكن أن يجري بين الآباء والأولاد، وبين الجيران والزملاء والعاملين، فالمطلوب في كلّ الأحوال أن يتمتع الجميع باستعداد نفسي للتغاضي.
إنّ من غير الصحيح أن يتصلّب المرء في مواقفه فلا يتسامح مع من أخطأ بحقّه. حتى إنّ بعض الناس يصعب عليه أن يتجاوز عن كلمة خرجت خطأ من فم زوجته التي عاشت معه عمرًا طويلًا، بل وتظلّ تلك الكلمة وذلك الخطأ لازمة دائمة في قلبه ونفسه!، وذات الأمر ينطبق على الزوجة في حال صدر الخطأ من زوجها، فمن الواجب عليها ألّا تضع ذلك التقصير أو تلك الزلة عنوانًا يلخص كلّ حياتها مع زوجها، فتصل إلى حدِّ التنكر لكلّ المعروف الذي كان بينهما على مدى طويل، وضمن هذا السياق نفهم كلمة الإمام زين العابدين حين يقول في دعاء مكارم الأخلاق: «أن أشكر الحسنة وأغضي عن السيئة»، وإغضاء المرء عن السيئة هنا، أي التجاهل لها،وكأنه لم يَرَهَا، وكما لو أنّها لم تكن أصلًا.
وتتجه كثير من النصوص الدينية إلى تحفيز الإنسان على التجاوز عن أخطاء الآخرين. فقد ورد عن الإمام عليّ أنه قال: «نصف العاقل احتمال، ونصفه تغافل»[5] ، ولعلّها من طبيعة ومتطلبات الحياة أن يحتمل المرء جانبًا ويتغافل عن جانب آخر، وإلّا فلن يعيش مع من حوله على نحو مستقرّ، لذلك جاء في رواية أخرى عنه أنه قال: «من لم يتغافل عن كثير من الأمور تنغصّت معيشته»[6] . من هنا نفهم الإشادة الإلهية بالصفة الأخلاقية المتمثلة في كظم الغيظ، بقوله سبحانه: ﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّـهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾[سورة آل عمران، الآية: 134]، هذه الصفة العظيمة ينبغي أن يضعها المرء في الاعتبار عند تعامله مع زوجته وأبنائه وخدمه والعاملين عنده والمحيطين به، فلا يحسن أن تبقى هذه التوصية الأخلاقية الإلهية مجرّد آيات نسمعها، فيملؤنا الإعجاب والانبهار بمن يتمثّلها من الأئمة والأولياء، ونقف عن هذا الحدّ.
وقد ورد عن رسول الله أنه قال: «تعافوا تسقط الضغائن بينكم»[7] ، وفي رواية أخرى عنه أنه قال: «عليكم بالعفو، فانّ العفو لا يزيد العبد إلّا عزًّا»[8] ، ذلك أن عفو الإنسان عن الأخطاء، يجعل من نفسه نفسًا طيبة مرتاحة، بينما سيكون وقوفه عند الأخطاء سببًا للألم في نفسه، ولربما انعكس على هيئة مشاكل نفسية يمكن أن تلم به، وقد ورد في ذات السياق عنه أنه قال: «من كثر عفوه مُدّ في عمره»، علاوة على ما ينطوي عليه العفو عن الآخرين من دعوة ضمنية لهم للمراجعة وإعادة النظر في سلوكهم وسوء تصرّفهم، فقد شكى رجل لرسول الله من تقصير وإساءة بعض من حوله، فأرشده قائلًا: «اُعفُ عنهم تستصلح به قلوبهم»[9] .
الخطبة الثانية: القيم بين التغنّي والالتزام
ورد عن الإمام جعفر الصادق: «إنّ أعظم الناس حسرةً يومَ القيامة مَن وصف عدلًا ثمّ خالفه إلى غيره»[10] .
إنّ من الطبيعي أن يمجّد الإنسان قيم الخير، لكنه يبقى باستمرار أمام تحدّي الامتثال لتلك القيم متى ما اصطدمت مع مصالحه الذاتية. إنّ قيم العدل والخير تنسجم مع فطرة وعقل الإنسان، وفيها حماية لحقوقه ومصالحه، لذلك فمن الطبيعي أن يمجّدها. لكن هذه القيم قد تتعارض أحيانًا، في مجال التطبيق، مع مصالح الإنسان ورغباته الآنية، فيكون حينئذٍ أمام امتحان عسير لمصداقيته، كمن يشيد بقيمة الحرية مثلًا، ثم يكون أعدى أعداء الحرية متى ما خالف تطبيقها رغبة من رغباته الذاتية. فهل يقبل المرء بهذه القيم سواء جاء تطبيقها لصالحه أم ضدّ مصالحه؟ أم أنه يقبلها متى ما كانت تصبّ في مصلحته فقط، وإذا ما تعارضت مع مصالحه فإنّ له رأيًا مختلفًا وموقفًا آخرا!
الازدواجية
ثمّة كثيرون يصدحون بالشعارات القيمية ليل نهار، لكن سرعان ما يفتضح موقفهم الحقيقي، عند تخلّيهم عن تلك القيم ساعة التطبيق. وهذا يشبه إلى حدٍّ ما، ذلك الشاب الذي لا يملك ثروة ولا مالًا عند بواكير شبابه، فتجده كثيرًا ما ينتقد بخل الأغنياء، وإحجامهم عن العطاء ومساعدة مجتمعاتهم، فإذا ما أتيحت لهذا الشاب الفرصة وصنع له ثروة نتيجة جدّه واجتهاده، وتهيؤ الظروف المناسبة له، ليصبح ضمن شريحة الأثرياء، فإذا به يصبح أشدّ بخلًا من أولئك الأغنياء الذي كان يكيل لهم سيلًا من الانتقادات الحادّة!. وقد تناول القرآن الكريم هذا النوع من الناس في الآية الكريمة ﴿وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللَّـهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوا وَّهُم مُّعْرِضُونَ * فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَىٰ يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّـهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ﴾[سورة التوبة، الآيات:75-77 ].
إنّ ذات الأمر ينطبق على الشأن السياسي. فهناك جهات طالما رفعت صوتها بالشعارات عاليًا وهي في صفوف المعارضة، لكنها حين وصلت للحكم وأصبحت بيدها مقاليد السلطة، أصبحت أسوأ بمراحل ممن كان في السلطة قبلها. ولطالما تكرر هذا المشهد في عالمنا العربي على يد أحزاب وشخصيات.
وعلى المستوى الشخصي هناك صنف من الناس، لديهم نزعة شديدة نحو تقييم الآخرين، إلّا أنّهم لا يرون أنفسهم ضمن دائرة التقييم! فأمثال هؤلاء لا يترددون في إخضاع آراء ومواقف الآخرين للمحاكمة وفق معيار القيم، فيهاجمون هذا الرأي بشدة، وينتقدون ذاك الموقف بحدّية بالغة، والسؤال؛ هو ما إذا كانت مواقف هذا الشخص نفسه وآراؤه منسجمة مع القيم التي يحتكم لها أم لا؟ ولو تناولنا في هذا الصدد مثلًا واحدًا وهو الانضباط المروري، فسنجد البعض ينتقدون بعنف المخالفين لأنظمة المرور، غير أنّهم هم أنفسهم ممن يخرق أنظمة المرور، ويبررون لأنفسهم تلك الخروقات بتبريرات واهية. وعلى غرار ذلك تجد من ينتقد غياب الانضباط عند الموظفين العموميين في الدوائر المختلفة، إلّا أنه بارع في اختلاق الأعذار لنفسه عند بروز التقصير منه شخصيًّا. من هنا ينبغي القول، إنّنا حينما نحاسب الآخرين على أساس القيم، فالمطلوب أن نحكّمها على سلوكنا وتصرفاتنا.
ولعلّ إحدى القضايا الشائكة في هذا الصدد هي قضايا الرأي وحرية التعبير. فحين يتعلق الأمر بالحقّ في ضمان حرية التعبير عن الرأي فإنّ البعض يلحّ في المطالبة، وينتقد بشدة تكميم الأفواه، ويكرر الاستدلال بالآية «لا إكراه في الدين»، لكن في مقابل ذلك لا يجرؤ هؤلاء أنفسهم على ضمان حرية التعبير لأقرب الناس إليهم، من أصحاب الآراء المخالفة لاجتهاداتهم وتوجّهاتهم، بل ويزيدون على ذلك بتبرير موقفهم القمعي بقذف مخالفيهم في الرأي بأنهم من أهل الضلال، وغير ذلك من عبارات التشنيع!، فإذا كنتم أنفسكم تنتقدون الآخرين لعدم ضمانهم حرية التعبير لكم، فلماذا تتقصمون ذات الموقف، فلا تعترفون للآخرين بحرية الرأي؟ أليست هذه ازدواجية مفضوحة؟
المصداقية
وتشدّد الشريعة على تحلّي الفرد المسلم بالمصداقية، وقرن القول بالعمل. فأيُّ شعار وقيمة يرفعها المرء لا بُدّ وأن يلتزمها هو أولًا، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّـهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ﴾[سورة الصف، الآيتان:2-3]، وعلى هذا النحو تنطوي الكتب الحديثية، من قبيل كتاب الكافي وبحار الأنوار على باب مهم بعنوان «من وصف عدلًا ثم عمل بغيره»، أو بعنوان «من وصف عدلًا ثم خالفه»، وتجمع هذه الأبواب الأحاديث والروايات التي تتناول هذا السلوك ومن تلك النصوص ما روي عن الإمام جعفر الصادق أنه قال: «إنّ من أعظم الناس حسرة يوم القيامة من وصف عدلًا ثم خالفه إلى غيره»، يقول الشيخ المجلسي في بحار الأنوار[11] تعقيبًا على هذه الرواية: «إنما كانت حسرته أشدّ لوقوعه في الهلكة مع العلم»، أي إنّ هذا نفسه الذي يتحدث عن العدل، هو يعرف جيّدًا معنى العدل لكنه يوقع نفسه في خلافه، وكذلك الأمر مع الذي يتشدّق بالحرية ثم يفعل العكس، فهؤلاء يقعون في الخطأ مع علمهم المسبق بهذا الخطأ، ويضيف الشيخ المجلسي بأنّ هذا «أشدّ من الوقوع فيها بدونه»، أي بدون علمه، «لمشاهدته نجاة الغير بقوله، وعدم نجاته به».
أسباب الازدواجية
وهنا تساؤل عن تفسير وقوع بعض الناس في هذه الازدواجية بين القول والفعل؟ وللإجابة عن هذا التساؤل يمكن إيراد سببين رئيسين لهذه الازدواجية:
أولهما: عدم تجذّر هذه القيم في النفوس، حيث لا تتجاوز لقلقة اللسان، كما يقول تعالى: ﴿يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ﴾ [سورة آل عمران، الآية: 167].
أما السبب الآخر: فيكمن في البيئة الحاضنة، حينما يعيش المرء في بيئة تعزّز تطبيق القيم والتزامها، فهذه البيئة ستكون مساعدة بدرجة كبيرة، وعلى النقيض من ذلك إذا عاش المرء في بيئة تسودها مخالفة القيم، وتبدأ البيئة الحاضنة بالتربية، فحين يتربى الطفل على التزام القيم في المنزل والمدرسة، إضافة إلى وجود قانون يحمي القيم ويرعى تطبيقها، ووجود رأي عام اجتماعي يعترض على كلّ مخالف لتلك القيم، هذه العناصر بمجملها تمثل بيئة حاضنة تجعل الناس يلتزمون القيم، أمّا في حال غياب هذه البيئة، فإنّ القيم تتحول إلى مجرّد شعارات، كما هو حاصل بالفعل في مجتمعاتنا العربية والإسلامية، فبالرغم من كثرة الحديث عن القيم إلّا أنّ واقعنا لا يزال أبعد ما يكون عنها.
وعلى نحو الإيضاح لمدى أهمية البيئة الحاضنة التي تُعزّز تطبيق القيم والتزامها في المجتمع، نورد القصة التالية التي حدثت الجمعة الماضية 18 جمادى الآخرة 1435ﻫ بجوار أقدم وأكبر المراكز الإسلامية في شمال أمريكا، وهو المركز الإسلامي في مدينة ديربورن بولاية ميتشيغن الأمريكية، الذي تأسّس سنة 1964م على يد عالم الدين اللبناني الراحل الشيخ محمد جواد شري المتوفى سنة 1994م رحمه الله، وجدّد بناء المركز سنة 2005 على مساحة 11 ألف متر مربع، ويؤمّ الصلاة في المركز في الوقت الحاضر العلامة السيد حسن القزويني، وهو ممن يُفخر بهم من العلماء الواعيين، فهو عالم منفتح يعرف جيّدًا طبيعة وظروف الحياة في أمريكا، ويجيد التعامل مع مختلف الظروف المحيطة بالجالية الإسلامية هناك.
في الأسبوع الماضي، في اليوم الذي يصادف الجمعة العظيمة، أي يوم صلب المسيح بحسب التقويم الكنسي، عمدت امرأة للوقوف مقابل بوابة المركز الإسلامي، وكان المصلون يفدون لأداء صلاة الجمعة، وكانت المرأة ترفع لافتة كبيرة مكتوب عليها؛ أنا أؤمن بعيسى؛ لأنّه حيّ، ولا أؤمن بمحمد لأنّه قد مات، وقد جاءها شاب من داخل المركز وسألها في حوار منشور عبر اليو تيوب عن معنى هذا الشعار الذي ترفعه، وعن سبب اختيارها هذا الوقت والمكان بالذات؟ علّلت المرأة موقفها بأن هذا اليوم يصادف الجمعة العظيمة وأنها أحبت أن تبلغ المسلمين في هذا المكان بموقفها من المسيح ومحمد على حدٍّ سواء، فردّ عليها الشاب بأن موقف المسلمين هو نفسه ما عبرت هي عنه حرفيًّا، فالمسلمون يؤمنون بأنّ الله تعالى قد رفع إليه نبيّ الله عيسى وهو لا يزال حيًّا، وأنّ النبيّ محمدًا قد مات، كما جاء في الآية الكريمة ﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ﴾ [سورة الزمر، الآية: 30]، وبذلك لا مشكلة ولا خلاف بيننا، فقالت المرأة إنّه ما دام لا مشكلة في محتوى اللافتة فما الضّير في أن أقف هاهنا؟
قامت إدارة المركز بالاتصال بمركز الشرطة، فسألتهم الشرطة عن مكان وقوف المرأة بالتحديد، وما إذا كان داخل ملكية المركز الإسلامي أم في الشارع العام؟ فأجابوا بأنها تتواجد خارج ملكية المركز، لكنها تجلس في مقابل البوابة مباشرة، فقالت لهم الشرطة إنّ المرأة ما دامت تقف على أرض عامة فهي حرّة في التعبير عن رأيها، فأعربت إدارة المركز عن خشيتها من حصول استفزاز أو مشكلة لسبب أو لآخر، فأرسلت الشرطة بعض عناصرها لمراقبة الموقف، وضمان عدم التعرض للمرأة، ما دامت تعبّر عن رأيها لا أكثر. وفي تلك الأثناء تحدّث خطيب الجمعة في المركز السيد القزويني، وخاطب المصلين بالقول إنّ اللافتة التي ترفعها المرأة قبالة مدخل المركز، إنما هي كلمة حقّ أريد بها باطل، ذلك أن ما أرادته هذه المرأة هو استفزاز المصلين المسلمين، طمعًا في أن يتعرض لها أيّ أحد، فتعمد وسائل الإعلام بعدها لافتعال قضية عريضة، وأكّد السيد رجاءه للمصلين بألّا يتعرضوا للمرأة، وأن يتجاهلوا وجودها تمامًا، وهذا ما حصل بالفعل، فقد تجنّب الناس الاقتراب منها أو التعرض لها، فبقيت مكانها حتى غادر آخر المصلين ثم طوت لافتها وغادرت، وغادر أفراد الشرطة بعدها، وانتهى الأمر وكأن شيئًا لم يكن.
الانضباط أمام الاستفزازات
من خلال هذه القصة يتضح مدى النّضج الذي يتمتع به هؤلاء الناس عند هذه المواقف. فهناك قانون يحمي الحريات، ورأي عام تسامحي تجاه حالات الاختلاف الديني أو الفكري، ولكن دعونا نفترض لو أن مسلمًا شيعيًّا كتب لافتة ورفعها أمام مسجد سنّي، أو أنّ مسلمًا سنيًّا كتب لافتة ورفعها أمام مسجد شيعي، ربما وقعت نتيجة ذلك واقعة يسجلها التاريخ وتتحدث عنها الأجيال!.
إننا بحاجة إلى وعي أكبر في التعامل مع مثل هذه الحوادث الاستفزازية. فإذا عمد أحدهم لإساءة التعبير، وإساءة اختيار المكان والزمان لغرض الاستفزاز، فلماذا نعطيه الفرصة ونحقق له مبتغاه من خلال الاستجابة لاستفزازه؟ ما الذي يحذونا لجعل أجوائنا متشنّجة، ونفوسنا مشحونة، وقابلة للاستفزاز عند أقلّ موقف، كما لو أننا في انتظار سماع أقلّ استفزاز؟ وهذا تحديدًا ما بات يعرفه الأعداء عن طبيعتنا نحن المسلمين، إذ يكفي لافتعال مشكلة في أيّ بلد مسلم، أن يجري تشجيع أيّ أحمق على إلقاء خطبة نارية، أو كتابة مقالة تستفز مشاعر الطرف الآخر في بلده، سواء كان ضد السنة أو ضد الشيعة، أو أيّ جهة من الجهات، والنتيجة ستكون معروفة فور الانتهاء من هذه الخطبة أو المقالة.
ونختم حديثنا بذكر هذه القصة التي وقعت في عهد أمير المؤمنين. فقد جاء في تاريخ الطبري أنّ عليًّا قام في الناس يخطبهم ذات يوم في مسجد الكوفة، وهو الخليفة حينها، وأثناء ذلك قام رجل من جانب المسجد صائحًا بشعار الخوارج؛ لا حكم إلّا لله، فما إنْ سكت حتى مضى أمير المؤمنين في خطبته دون إبداء أيِّ ردة فعل على الرجل، فقام آخر، وثالث حتى توالى عدة رجال منهم يرددون ذات الشعار، فقال الإمام عليّ: الله أكبر، كلمة حقّ يلتمس بها باطل، ومضى يخاطبهم بالقول: أما عندنا لكم ثلاثًا ما صحبتمونا، لا نمنعكم مساجد الله أن تذكروا فيها اسمه، ولا نمنعكم الفيء ما دامت أيديكم مع أيدينا، ولا نقاتلكم حتى تبدؤونا، ثم رجع إلى مكانته من خطبته التي كان يخطبها؛ وكأنّ شيئًا لم يكن[12] .
وبهذا يرشدنا الإمام إلى الخلق الرفيع والتعامل المطلوب إزاء حالات الاستفزاز، فهو لم يسكت عنهم وحسب، وإنما أعطى بسيرته وممارسته درسًا بليغًا في عدم الاستجابة إلى الاستفزاز، بل وضمان حقوق أولئك المعارضين. هكذا ينبغي أن تتجذّر القيم في نفوسنا.