الهامشية والتأثير في الحياة
الخطبة الأولى: الهامشية والتأثير في الحياة
﴿إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَىٰ وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُّبِينٍ﴾ [سورة يس، الآية: 12].
ثمة ثلاثة أصناف من الناس يمكن التمييز بينها، من حيث القدرة على التأثير في واقع الحياة. وأول هذه الفئات تلك التي يعيش أفرادها على هامش الحياة، يستهلكون ولا ينتجون، ويتأثرون ولا يؤثرون، فهم في الأعمّ الأغلب يمرون بالحياة ولا يتركون بصمة أو أثرًا يذكر، يعيشون حياتهم ثم يغادرون، دون أن يفعلوا شيئًا مميزًا، أو إحداث تغيير، أو تطوير في واقع الحياة، ويمثل أفراد هذه الفئة الغالبية من أبناء البشر.
وفي مقابل هذه الفئة، هناك فئة أخرى، تتحلّى بالفاعلية والإنتاج، والقدرة على التأثير، في واقعها ومحيطها، فأفراد هذه الفئة يعملون بجدٍّ على الإصلاح والإنتاج في مجتمعهم، إنْ على صعيد التأثير النظري والعمل الفكري، أم على الصعيد العملي، بتحقيق إنجازات عملية، أو بصناعة نفوذ وتأثير اجتماعي، وتمثل هذه الفئة النخبة من أبناء البشر، التي تضمّ المميزين والمؤثرين في واقع الحياة.
غير أنّ هناك صنفًا آخر من الأشخاص هم الأكثر تميّزًا، والأعمق تأثيرًا، ليس في حدود حياتهم وحسب، وإنما يتركون خلفهم تأثيرًا كبيرًا في الحياة، حتى بعد أن يغادروا الدنيا، وهذا النوع من التأثير هو المستوى الأرقى والأكثر تقدّمًا.
استمرار التأثير بعد الحياة
لقد سطّرت آيات الكتاب الحكيم حقيقة مدى التأثير الذي يتركه بعض البشر خلفهم. حيث ورد قوله تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَىٰ وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُّبِينٍ ﴾، حيث أشارت إلى حقيقة رصده سبحانه لما يقدّمه البشر أثناء حياتهم ﴿وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا﴾ من أعمال خير أو شرّ، وبعدها تكمل الآية بقوله تعالى: ﴿..وَآثَارَهُمْ﴾ ومعنى ذلك أنه علاوة على تقييده سبحانه لما يقدم البشر في حياتهم، فهو سبحانه يحفظ لهم أيضًا آثارهم، أي التأثيرات التي يتركونها على الحياة بعد رحيلهم، فالله سبحانه يكتب للإنسان تأثيرات أعماله، ودوره المستمر بعد مغادرته.
كما ورد في آية كريمة أخرى قوله تعالى: ﴿عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ﴾، ومعلوم أن عبارة ﴿مَّا قَدَّمَتْ﴾ الواردة في الآية، أي ما فعلت هذه النفس في حياتها، أما عبارة «وأخرت» فهي تلك الأعمال المتأخرة عن حياة الإنسان، التي تظهر نتائجها وتأثيراتها بعد رحيله عن الحياة، فهذه التأثيرات اللاحقة ستكون حاضرة في سجل الإنسان يوم القيامة.
حساب مفتوح للأجر والثواب
وقد تناولت النصوص الدينية نماذج ومصاديق للآثار التي تبقى بعد حياة الإنسان. حيث ورد عن رسول الله أنه قال: «من سنَّ في الإسلامِ سُنَّةً حسنةً، فله أجرُها، وأجرُ مَن عمل بها بعدَه. من غير أن ينقص من أجورِهم شيءٌ»[1] ، وهذا مما يتطابق تمامًا مع مضمون الآية الكريمة المتقدمة ﴿عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ﴾.
إنّ من مصاديق السنة الحسنة، أن يعمل الإنسان من أجل تأسيس جمعية خيرية، ثم يغادر الحياة، لكن الجمعية تستمر في تقديم الأعمال الخيرية، التي يقابلها الله سبحانه بالأجر والثواب، هنا يغدو حساب ذلك الرجل المؤسّس مفتوحًا أمام استقبال الأجر والثواب حتى بعد مماته، ليراه لاحقًا يوم القيامة.
وعلى غرار ذلك من يقوم بتأسيس نادٍ رياضي يجمع الشباب، ويحميهم من الانحراف، وينمّي طاقاتهم وكفاءاتهم، ثم يتوفى الله هذا المؤسّس، فيما يبقى عطاء النادي مستمرًّا في المجتمع، ليبقى بذلك حساب المؤسّس مفتوحًا لاستقبال الأجر والثواب. وكذلك الحال لو أسّس الإنسان مسجدًا أو حسينية أو لجنة، في أيّ مجال من المجالات، من رعاية المرضى، إلى حماية البيئة، أو تزويج العزّاب، فآثار هذا العمل تبقى تسجّل عند الله للقائم على أمر التأسيس حتى بعد مماته.
وكذلك الحال مع الآثار السيئة لعمل الشرّ. كما ورد عن الرسول: «من سنّ سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة»، ومردّ ذلك أن صاحب السنة السيئة كان السبب في انخراط الآخرين في طريق المعصية والانحراف، فهو بذلك يكون شريكًا ويتحمّل وزرًا يستمر معه حتى بعد وفاته.
وروي عن الإمام الصادق أنه قال: «ليس يتبع الرجل بعد موته من الأجر إلّا ثلاث خصال: صدقة أجراها في حياته فهي تجري بعد موته، وسنة هدى سنها فهي يعمل بها بعد موته، وولد صالح يدعو له» [2] ، والصدقة الجارية الواردة ربما تمثلت في تخصيص وقف خيري، لخدمة مشروع اجتماعي أو ديني أو ثقافي، وكلّما انتفع أحد منه فإن الثواب يتواصل لمن وقف ذلك الوقف. وكذلك الحال مع «سنة هدى سنها» الواردة في الرواية، فقد تكون مشروعًا أو فكرة عمل، ولعلّ من نماذج ذلك، ما تقوم به بعض الفعاليات من تقديم الجوائز لحفظة القرآن الكريم والمؤلفين والمبدعين، فجميع ذلك مما يصدق عليها أنها سنة حسنة، وذلك بالنظر إلى النتائج النافعة التي تحققها في المجتمع، وهي تظلّ تحسب في رصيد من أسّسها وبدأها. والحال نفسه مع من أنجب أولادًا وربّاهم تربية صالحة، فعم نفعهم مجتمعهم، فإنّ الأبوين الذين ربيا هذا الولد الصالح، سينعمان بثواب أعماله الصالحة، دون أن ينقص من ثوابه شيئًا.
وروي عن الإمام الصادق أنه قال: «ستّ خصال ينتفع بها المؤمن بعد موته؛ ولد صالح يستغفر له، ومصحف يقرأ منه، وقليب يحفره، وغرس يغرسه، وصدقة ماء يجريه، وسنة حسنة يؤخذ بها بعده» [3] ، والقليب الوارد في الرواية هو البئر، ويتمثل في حفر الآبار التي يسقى منها الناس، فهناك من الناس، في أفريقيا على سبيل المثال، من لا يجدون ماءً يشربونه، فيضطرون نتيجة ذلك للسير عدة كيلومترات حتى يستسقوا الماء لأنفسهم ولعيالهم، والتكلفة الإجمالية لحفر البئر قد لا تتجاوز في المتوسط بين 400 إلى 1000 دولار، وهذا ما شجع بعض أهل الخير على التبرع بمبالغ مخصصة لحفر آبار الماء في تلك المناطق، ومعلوم أن ثواب وأجر ذلك سيعود على من ساهم ودفع كلفة حفر ذلك البئر.
وتستمرّ الرواية في تعداد النماذج حتى تأتي على القول «وغرس يغرسه»، ولعلّ في ذلك اشارة إلى أهمية التنمية المتمثلة في الزراعة، فزراعة الأشجار تمثل إضافة نوعية؛ لأن الناس تستفيد منها، سواء لجهة الاستفادة من ثمارها، أو لانعكاساتها البيئية الطبيعية على المحيط.
وهكذا نجد النصوص الدينية تشجع الإنسان على التفكير في أن يُبقي أثرًا ينتفع به الناس من بعد رحيله عن هذه الحياة. فليس المطلوب أن يكون المرء فاعلًا ومنتجًا في حياته وحسب، إنما المطلوب أن يفكّر فيما سيترك خلفه بعد مماته، حتى يكون الأجر والثواب مستمرًّا له، سواء من خلال فكرة صالحة، أو ابتكار علمي، أو مشروع اجتماعي، أو خدمة إنسانية عامة.
الخطبة الثانية: التطرف وارتداداته الداخلية
﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّـهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّـهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾[سورة البقرة، الآية: 190].
تشكل النزاعات والحروب أمرًا واقعًا في المجتمعات البشرية. نتيجة تضارب المصالح بين الجماعات، واستفحال الأنانية والنزعات السيئة في أعماق نفس الإنسان، لذلك جاءت الأديان والشرائع بما تحمله من مبادئ أخلاقية، رافضة للعدوان على الآخرين، وأعطت الحقّ فقط في الدفاع عن النفس ومقاومة العدوان.
ضوابط لردّ العدوان
غير أنّ التعاليم الدينية تضع ضوابط صارمة في حالات الصراع وردّ العدوان. حتى لا تشيع ولا تتفاقم حالات العدوان، وحتى لا يقع الناس فريسة لشهوة الانتقام والمبالغة في ردّ الاعتداء. سيمّا وأنّ حالات الاعتداء تبعث على استفزاز الإنسان، ما قد يدفعه للمبالغة في الردّ، لدرجة قد يتحول معها المظلوم الذي كان ضحية الاعتداء، إلى ظالم ومعتدٍ، نتيجة تجاوز الحدود في ردّ العدوان.
من هنا يأتي تأكيد الرسالات السماوية على رفض الشروع في العدوان، على أيٍّ كان، وإذا ما واجه طرف اعتداء من جهة من الجهات، فإنّ عليه أن يبحث عن طرق المعالجة السلمية، لتجاوز وردع العدوان، تجنبًا للدخول في الحرب، يقول تعالى: ﴿وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا﴾، وهذا تشجيع إلهي للمؤمنين على تلافي الصراع الدموي، والتفتيش عن السبل الكفيلة بتجنب الدخول في الحرب.
وتحضّ الشريعة في حال الاضطرار لخوض الحرب إلى الاكتفاء بدفع العدوان وحسب. فإذا ما ألجئ الإنسان إلى الدخول في صراع، فليكن الدفاع والمقاومة ضمن نطاق الضرورة، والنأي عن الانزلاق إلى مستنقع الانتقام، وتجاوز الحدود، يقول تعالى: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّـهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّـهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾، إنما يكون القتال حصرًا مع المقاتلين المعتدين، وأما من لم يرفعوا السلاح ولم يعتدوا، فلا سبيل لمقاتلتهم، ولا يجوز الاعتداء عليهم، بأيِّ نحوٍ من الأنحاء.
وورد عن الإمام جعفر الصادق أنه قال: «كان رسول إذا أراد أن يبعث سرية، دعاهم فأجلسهم بين يديه، ثم يقول سيروا باسم الله وبالله وفي سبيل الله، وعلى ملة رسول الله، لا تغلوا ولا تمثلوا ولا تغدروا ولا تقتلوا شيخًا فانيًا ولا صبيًّا ولا امرأة ولا تقطعوا شجرًا إلا أنّ تضطروا إليه»[4] . كما ورد عن أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب أنه قال: «نهى رسول الله أن يلقى السّم في بلاد المشركين»[5] .
وبذات التوجه عالجت التعاليم الدينية النزاعات الداخلية في المجتمع. حيث يقول تعالى في محكم كتابه: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ * وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّـهِ﴾[سورة الشورى، الآيتان: 39-40]، وتنص آية أن يكون جزاء السيئة بالسيئة المثيلة لها، دونما مبالغة في ردّ الإساءة، مع تفضيل العفو والنأي قدر الإمكان عن الدخول في النزاعات. وفي آية أخرى يقول تعالى: ﴿وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرِينَ﴾[سورة النحل، الآية: 126]، فالعقوبة في حال الضرورة تأتي بمقدار العقوبة المتلقاة لا أكثر، مع أرجحية قصوى للتجاوز والصبر على الإساءة، فذلك ما يتبدى في وعد الله بالخير للصابرين.
إنّ التعاليم الدينية تحض على ضبط النفس، والنأي عن الاستجابة للاستفزاز، والانجرار للنزاع. ذلك أن الصراعات تخرج أسوأ ما في نفس الإنسان، وتزج به نحو الأسوأ تحت تأثير سكرة الانتقام، ودافع إثبات القوة والقدرة.
التطرف يرتدّ على مؤيديه
وقد أثبتت التجارب، أنّ سكوت أيّ جماعة عن ارتكاب التجاوزات بحق مخالفيهم ومناوئيهم، يقود إلى ارتداد ذات السلاح عليهم، وارتكاب ذات الخطيئة بحقّ الجماعة نفسها. فأيّما طرف سمح لأحد من جماعته بكيل الشتائم والسباب على رموز الآخرين، والترعرع على البذاءة اللفظية بحق المخالفين، فإن هذا الشتّام السبّاب سيرتد على من رضوا بفعله السيئ إزاء الآخرين، وسيستخدم ذات اللغة والمفردات البذيئة ضدّ بني دينه ومذهبه وجماعته، تمامًا كما تطاول على رموز الفرق الأخرى. من هنا يأتي التشديد على الرفض الجذري لهذا الخلق السيئ، ومنع تشريعه وتفشيه في المجتمع.
ولعلّ نظرة عامة على مسيرة التيارات المتطرفة التي ابتلي بها العالم اليوم، تكشف عن خطر السكوت على التطرف. فهذه التيارات التي رفعت عقيرتها في البداية بشعارات الدفاع عن الأمة، ومارس أتباعها إرهابهم الدموي ضد غير المسلمين، وتجاوزوا أقصى الحدود، حتى صاروا يستهدفون الأبرياء، ويعتدون عليهم بغير حقّ. ولربما عبر البعض عن ارتياحهم في البداية إزاء الاعتداء الذي ضرب أبراج مركز التجارة العالمي في نيويورك، في سبتمبر 2001، على قاعدة أن الأمريكيين يدفعون ثمن أخطائهم، وكان ذلك موقفًا خطأً جملة وتفصيلًا، فالدين لا يقبل الاعتداء على الناس الأبرياء، كما أنّ الإرهاب في حال الرضا به، أو السكوت عليه، فإن الإرهابيين سيستخدمون ذات السلوك المدمّر داخل أمتهم، وضدّ مجتمعاتهم، وهذا ما باتت الأمة تعاني منه اليوم.
لقد مارست التيارات الإرهابية اعتداءاتها بداية ضدّ من تعتبرهم أعداء الأمة والإسلام، ثم انتهى بها الحال لممارسة الإرهاب ضد المسلمين أنفسهم. والولوغ في دماء المسلمين إلى أبعد الحدود، حتى فاق تعداد ضحايا الإرهاب من المسلمين ضحاياه من غير المسلمين، بأضعاف مضاعفة، وجميع الإحصاءات تشهد بذلك.
وحين سُكت عن ممارسة الإرهاب ضدّ أتباع الطوائف والمذاهب الأخرى، كان ذلك تشريعًا ضمنيًّا لممارسة الإرهاب ضد أتباع الطائفة والمذهب نفسه، ولعلّ نظرة على تعداد ضحايا الإرهاب المرتكب على يد التيارات المحسوبة على أهل السنة، تظهر أن أغلب ضحاياهم اليوم هم من أهل السنة أنفسهم، كما يحدث في أفغانستان والصومال ونيجيريا وسوريا والعراق وقبل ذلك في الجزائر. وهذا دليل على أن التطرف الديني سلوك إجرامي، لا يصحّ قبوله، ولا تأييده، ولا الرضا به، ولا السكوت عن مرتكبيه بحق الآخرين؛ لأنه سرعان ما سينقلب على الراضين به والمؤيّدين له، وهاهنا تحديدًا تكمن معاناة الأمة في عصرها الراهن، فقد ضربها الإرهاب في الصميم، ولا يزال يستنزف مقدراتها البشرية والمالية، ويلطّخ صورتها في العالم أجمع.