كيف يخون الإنسان نفسه
الخطبة الأولى: كيف يخون الإنسان نفسه
﴿وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إِنَّ اللَّـهَ لَا يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا﴾. [سورة النساء، الآية: 107].
تتعدّد أشكال وأنماط الخيانة، إلّا أنّ أعظمها خيانة الإنسان لنفسه. والخيانة في اللغة هي التفريط فيما يؤتمن عليه الإنسان، ونقيض ذلك؛ الأمانة، وتعني حفظ المرء لما يؤتمن عليه. فإذا ما وأتُمن إنسان على مال، فإن الأمانة تقتضي أن يحفظ ذلك المال، وأن يرده إلى صاحبه، وفي ذلك يقول تعالى: ﴿إِنَّ اللَّـهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا﴾، بينما تعني الخيانة أن يجري التصرف في ذلك المال المؤتمن عليه، أو التفريط في الحفاظ عليه مما يؤدي لضياعه، وهذا ما يُعَدّ خيانة على الصعيد المالي.
وقد حذّرت الشريعة من الوقوع في الخيانة المالية، تجاه أيّ أحد، مسلمًا كان أم كافرًا، وصديقًا كان أم خصمًا، فقد ورد عن النبي أنه قال: «لا تخن من خانك، فتكون مثله»[1] ، ذلك أن الخيانة تجعل الطرفين على حدٍّ سواء في تلك الصفة القبيحة. وورد عن الإمام زين العابدين علي بن الحسين أنه قال: «عليكم بأداء الأمانة، فوالذي بعث محمدًا بالحقّ نبيًّا، لو أنّ قاتل أبي الحسين بن علي ائتمنني على السيف الذي قتله به لأدّيته إليه»[2] .
كما يندرج تحت عنوان الخيانة أيضًا؛ الخيانة في العرض. وذلك بأن يأتمن إنسان أحدًا آخر على عرضه، زوجته وبناته وسائر أهله، فيسوّل الشيطان لهذا الآخر أن يخون تلك الأمانة، ويتصرف تصرف السوء، بدلًا من أن يحافظ على عرض الرجل.
وتلحق بألوان الخيانة خيانة السّر، وذلك بإفشاء أسرار الآخرين الذين يأتمنونه على أسرارهم، وفي هذا الصدد ورد عن النبي أنه قال: «إفشاؤك سِرّ أخيك خيانة، فاجتنب ذلك»[3] ، ويشمل ذلك جميع الخصوصيات التي لا ينبغي للآخرين الاطّلاع عليها.
وقد تتمثل الخيانة في الإخلال بأداء العمل، أو القيام بالوظيفة على غير الوجه المطلوب، والأداء غير المناسب، كما لو تم الاتفاق مع مقاول بناء على تنفيذ بناء وفق مواصفات معينة، فإذا ما أخلّ بالاتفاق، فإن ذلك مما يندرج تحت عنوان الخيانة، والحال نفسه ينطبق على عمل المهندس والطبيب، وأيّ عامل في أيِّ مجالٍ من المجالات.
التأكيد على الامانة
وورد في النصوص الدينية التشديد المضاعف على حفظ الأمانة، وحسن أداء العمل. ومن ذلك ما ورد عن وقوف أمير المؤمنين ذات يوم على خيّاط ملابس، فقال: «يا خيّاط، ثكلتك الثواكل، صلّب الخيوط، ودقّق الدروز، وقارب الغرز، فإني سمعت رسول الله يقول: يحشر الله الخيّاط الخائن وعليه قميص ورداء مما خاط وخان فيه»[4] ، وهذا الموقف مدعاة للتأمل، في مدى الدقة التي تدعو الشريعة لتمثلها، عند أداء مختلف الأعمال، واحترام حقوق الناس.
وما ينطبق على الخيّاط، ينطبق تمامًا على العاملين في ورش الميكانيكا، ومكاتب الهندسة، وعمّال البناء وغيرهم، فالحديث هنا عن الخيّاط ليس إلّا نموذج وحسب.
أما أشدّ ألوان الخيانة فهو ما ورد عن أمير المؤمنين في قوله: «إنّ أعظم الخيانة، خيانة الأمة، وأفظع الغش غشّ الأئمة»[5] ، وفي ذلك إشارة إلى القائمين على الخدمة العامة، فعندما يُقصّر هؤلاء في أعمالهم، فهم يقعون في أعظم ألون الخيانة على الإطلاق؛ لأنها ليست خيانة فرد هنا أو هناك، وإنما هي خيانة لجميع الناس، كما أنّ من الخيانة العظمى وفقًا لقوله؛ خيانة الأئمة، والمقصود بالأئمة هنا الزعماء والقادة، الذين يغشّون رعيتهم وأتباعهم، ويفرّطون بمصالحهم.
وهكذا تمضي النصوص الدينية في التحذير من الوقوع في الخيانة. فقد ورد عن الإمام الباقر أنه قال: «إنّ المؤمن لا يخون»[6] ، سواء كانت تلك الخيانة خيانة مال، أو عرض، أو إفشاء سرٍّ، أو في أداء عمل. وعن أمير المؤمنين أنه قال: «إيّاك والخيانة فإنها شرّ معصية»[7] ، فلا يوجد بحسب منطق الإمام معصية تضاهي الوقوع في وحل الخيانة.
خيانة النفس
ويتحدث القرآن الكريم عن لون عميق من ألوان الخيانة، وهو خيانة النفس!. فتارة يخون الإنسان الآخرين، كما تبين آنفًا، وتارة أخرى يخون نفسه. ويأتي السؤال هنا عن كيفية ارتكاب المرء الخيانة بحقّ نفسه، تلك الخيانة التي تشير لها الآية الكريمة بوضوح في قوله تعالى: ﴿وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً﴾، ولعلّ الصفة ﴿خَوَّاناً﴾ الواردة في الآية تشير إلى تكرر فعل الخيانة للنفس من أولئك الذين تتناولهم الآية في ثناياها، واللافت في الآية الكريمة التشديد الإلهي في قوله سبحانه: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً﴾، أي إنه سبحانه لا يحب الخيانة في مطلق الأحوال، سواء وقعت بحقّ الآخرين، أم ارتكبت بحقّ الذات نفسها. وجاء في آية أخرى قوله تعالى: ﴿عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ ..﴾. من هنا، يتكرر السؤال مجدّدًا عن الكيفية التي يخون بها الإنسان نفسه، وهو الذي يفترض به أن يحفظ نفسه، ويرعاها خير رعاية، بجلب المصالح لها ودفع الأضرار عنها، وكأنما هذه النفس أمانة عند صاحبها، وبذلك كان التقصير بحقّها خيانة تضاهي خيانة الآخرين.
إهمال النفس خيانة
إنّ هناك العديد من المصاديق لخيانة النفس. ولعلّ أولها هو التقصير البالغ في تزكية النفس، وتنمية قدراتها، واكتشاف كفاءتها، وبذلك يصبح خائنًا لنفسه كلّ من يتلكأ في تزكية وتطوير واكتشاف نفسه، بمختلف أبعادها، والنفس في هذه الحالة أشبه ما تكون بالبستان العامر بمختلف الزراعات، الذي أوتمن عليه إنسان، فإذا ما أهمل سقاية هذا البستان والعناية به، حتى ذبلت أشجاره، وتلفت ثماره، فهل هناك خيانة أعظم من هذه الخيانة!. هذا المثال ينطبق تمامًا على النفس، التي حباها الله بقدر هائل من الكفاءات والقدرات، ويمكن أن تصنع الكثير إذا ما رعاها المرء واهتم بها، فإذا ما أهملها كان خائنًا لنفسه.
التفريط بالمستقبل خيانة
أما المصداق الآخر لخيانة النفس فهو التفريط بالمستقبل الأخروي، الذي ينتظر كلّ نفس في نهاية المطاف. إذ أنه مع معرفة الإنسان بأنّ له حياة قصيرة محدودة زمنيًّا، فإن ذلك يتطلب استثمار كلّ ثانية للتجهيز لمستقبله في الآخرة، فإذا كانت أنفاس الإنسان هي العملة التي يستخدمها في الدنيا، فإنّ الآخرة تحتاج إلى عملة من نوع آخر، هي الأعمال الصالحة، وعمل الخير، وبذل الجاه، والتضحية بالوقت والمال في سبيل الله، فإذا ما تناسى الإنسان هذه الحقيقة، وفرّط في استثمار حياته، فإن هذا من أجلى مصاديق خيانة النفس.
وفي تعبير قرآني دقيق يقول سبحانه وتعالى: ﴿وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴿٨﴾ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَـٰئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُم بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ ﴾[سورة الأعراف الآيتان 8 - 9]، فالنفس في هذه الحياة أشبه بعملة ينبغي أن يستبدل بها عملة أخرى تنفع في الآخرة، فإذا ما أهملها المرء ولم يستبدل بها عملة الأعمال الصالحة، فتلك هي الخيانة والخسارة الكبرى. من هنا ينبغي ألّا يفرط الإنسان بنفسه في أمر سوى ما ينفعه في الآخرة. وقد ورد ضمن روائع أمير المؤمنين أنه قال: «إِنَّهُ لَيْسَ لِأَنْفُسِكُمْ ثَمَنٌ إِلَّا الْجَنَّةَ فَلَا تَبِيعُوهَا إِلَّا بِهَا»[8] ، فلا ينبغي أن يبيع الإنسان نفسه بأيِّ ثمن سوى الجنة، ولا يليق بالمرء أن يعاين أيامه تتسرب من بين يديه في غير سبيل الآخرة.
تعريض النفس للهوان
أما المصداق الثالث لخيانة النفس فهو تعريضها للمهانة في الدنيا والعذاب في الآخرة. فإن كلّ من يعرض نفسه للهوان في الدنيا أو الآخرة، فإن هذا يكون خائنًا لنفسه، وإلى ذلك تشير الآية الكريمة في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ﴾[سورة التحريم الآية: 6].
الخطبة الثانية: بين التعبير عن الرأي وافتعال الصراعات
روي عن أمير المؤمنين أنه قال: «من كرمت عليه نفسه قلّ شقاقه وخلافه»[9] .
تنطوي النزاعات البينية المفتعلة، على إمكانية كبيرة لتعريض الإنسان نفسه إلى الامتهان، وقلة الاحترام. لذلك تجد من يحترم ذاته، لا يشغل نفسه، ولا يبدد جهده، في توافه الأمور، ويحرص على أن تتصف نفسه بالصفات النبيلة، وألّا تتلوث بالملوثات المختلفة، تمامًا كما يحرص على نظافة لباسه من الأوساخ، وهذا هو عين الاحترام للنفس. وحين يحترم الإنسان نفسه فإنه لا يعرضها للهوان من قبل الآخرين. وحيث أنّ النزاعات والخلافات توقع الإنسان في المهانة، فإنّ من يحترمون ذواتهم يتسامون على الخلافات، وينأون عن الوقوع في منزلق النزاعات. وهذا تحديدًا ما يشير إليه أمير المؤمنين عليّ حين قال: «من كرمت عليه نفسه قلّ شقاقه وخلافه».
احترام الذات باجتناب النزاعات
ذلك أنّ العداوة مع الآخر، صغيرًا كان أم كبيرًا، لها ارتدادات على الإنسان نفسه، يقول أمير المؤمنين: «إياكم والمراء والخصومة فإنهما يمرضان القلوب»[10] ، إنّ المتورط في الخصومات يجلب الهمّ والغمّ ومرض القلب لنفسه، ناهيك عمّا يتضمنه ذلك من إشغال للنفس وتبديد الجهود.
وكما في الأفراد، ينطبق الحال أيضًا على المجتمعات. فالمجتمعات التي تحترم نفسها أكثر ميلًا إلى تنظيم خلافاتها على النحو الذي لا يوقعها في شرك التطاحن والنزاع، على النقيض تمامًا من المجتمعات المتخلفة التي تكثر فيها الخلافات والنزاعات، وهذا أوضح دليل على أن هذه المجتمعات لا تحترم نفسها؛ لأنّ المنازعات غالبًا ما تدفع للنيل من هذه الفئة أو تلك، والإساءة إلى هذه الشخصية أو تلك، الأمر الذي يقود إلى تبديد الجهود والقدرات في المجتمع برمّته.
وقد ورد في النصوص الدينية التشديد الكبير على النأي عن التنازع حرصًا على احترام وسلامة النفس. فقد روي عن أمير المؤمنين أنه جمع أبناءه يومًا وأوصاهم بالقول: «يا بني، إيّاكم ومعاداة الرجال، فإنهم لا يخلون من ضربين؛ من عاقل يمكر بكم، أو جاهل يعجل عليكم»، ثم أنشأ قائلًا:
سليم العرض من حذر الجوابا ومن دارَى الرجال فقد أصابا
ومن هاب الرجال تهيّبوه ومن حقر الرجال فلن يهابا[11]
وورد عن الإمام الصادق أنه قال: «وإيّاك وكثرة الخصومات، فإنها تبعدك عن الله»[12] ، إنّ ذلك الإنسان المتورط في الخلاف مع هذا، والصراع مع ذاك، والكلام ضد هذه الجهة والنيل من الأخرى، هذا الإنسان بعيد عن الله، حتى لو سوّل له الشيطان أنه يتقرب بأفعاله تلك إلى الله، ذلك أن الخصومات والإساءة لعباد الله تبعد الإنسان عن الله سبحانه وتعالى.
إنّ على الإنسان الواعي أن يهرب من الخصومات. وأن يستخدم أقصى درجات ذكائه وحكمته ليبتعد عن العداوات مع القريب والبعيد، وعدم الاستجابة للاستفزاز والاستدراج من قبل الآخرين. وكما يقول الشاعر:
ولقد أمرّ على اللئيم يسبني فمضيت ثَمّ قلت: لا يعنيني
والأروع من ذلك قول الله تعالى: ﴿وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ﴾[سورة القصص، الآية:٥٥]. وروي أنّ أمير المؤمنين سمع رجلًا يشتم خادمه قنبر، وقد رام قنبر أن يرد على الرجل، فناداه أمير المؤمنين: «مهلًا يا قنبر! دع شاتمك مهانًا، تُرضي الرحمن، وتسخط الشيطان، وتعاقب عدوك، فوالذي فلق الجنة وبرأ النسمة، ما أرضى المؤمن ربه بمثل الحلم، ولا أسخط الشيطان بمثل الصمت، ولا عوقب الأحمق بمثل السكوت عنه»[13] .
ومما روي في هذا الشأن، أنّ شخصًا شتم الإمام علي بن الحسين زين العابدين فأشاح الإمام بوجهه عنه، فصرخ الرجل في وجه الإمام قائلًا: إيّاك أعني، فأجابه الإمام بالقول: وعنك أغضي[14] .
إنّ هناك من الناس من لديهم شهوة الصراع والاستمتاع بالنزاع. فأمثال هؤلاء في وقتنا الراهن لا شغل لهم إلّا الدخول على مواقع التواصل الاجتماعي، بحثًا عن شخص أو جهة ما يصب عليها جام غضبه وسيل شتائمه، سيما وقد وفرت هذه المواقع فضاءً واسعًا للتعبير عن الرأي. أوَليس الأولى بالإنسان عبر هذه المواقع أن يدعو إلى الخير بالتي هي أحسن، وأن يبشّر بالتسامح، وينشر المحبة والمودة بين الناس، عوضًا عن البحث عن كلمة يرد عليها، أو شخصٍ يتنازع معه؟ إنّ النفسية الباحثة عن الخصومة والنزاع تنمّ عن شخصية مريضة، لا تحترم ذاتها بأيِّ حال.
إنّ العاقل أحوج ما يكون إلى كبح جماح النفسية التنازعية عنده. وعلينا في هذا السبيل أن نُعزّز هذا التوجه في أنفسنا أولًا، وأن نوصيَ من حولنا بالنأي عن هذا المسلك ثانيًا، سيما في هذه الظروف التي نجد فيها الكثيرين قد فقدوا توازنهم، فهم بالكاد وجدوا أنفسهم قادرين على التعبير عن أنفسهم عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وسرعان ما انزلقوا نحو إثبات وجودهم على نحو خطأ، في هذا الفضاء الافتراضي، وهذا ما وفّر الوقود للصراعات والخلافات والمهاترات.
فهم خطأ للتعبير عن الرأي
إنّ من المؤسف أن يفهم البعض مسألة التعبير عن الرأي على نحو خطأ. ذلك أن بعض من يمارسون الإساءة لغيرهم في الفضاء الإلكتروني، يزعمون أنهم يمارسون حقّ التعبير عن الرأي!. صحيح أن حرية التعبير عن الرأي تُعَدّ حقًّا أصيلًا من حقوق الإنسان، لكن ينبغي الالتفات إلى أنّ تلك الحرية مشروطة بضابطتين:
الأولى: هي التعبير عن الرأي تجاه الأفكار وليس النيل من الأشخاص، فلو أنّ شخصًا ما طرح فكرة، ولدى شخص آخر فكرة مخالفة، فللثاني كلّ الحقّ في نقد الفكرة الأولى، وطرح الفكرة المقابلة لها، وليس شخصنة الأمور، والتهجم على صاحب الفكرة، والنيل منه بأقذع العبارات.
أما الضابطة الثانية، فهي البعد عن الطعن في نيّات الآخرين والتشكيك في تدينهم، حيث إنّ البعض يقفز مباشرة إلى اتهام ضمائر الناس، والتشكيك في غاياتهم، ولعلّ أبلغ ما يقال لهؤلاء هي كلمة النبي الأكرم: «أفلا شققت عن قلبه»[15] .
إنّ الهدي النبوي الشريف يرشدنا إلى أفضل الطرق حكمة في معالجة الأخطاء، دون الإساءة إلى الأشخاص. فقد ورد عن النبي أنه إذا بلغه تصرف أو قول لا يرتضيه، فإنه يتبع أسلوب الموعظة الحسنة على نحو جماعي في المسلمين، مع استخدام عبارته الشهيرة: «ما بال أقوام يقولون كذا وكذا»، فهو إنما ينتقد القول المغلوط أو التصرف الخطأ، على نحو عام دون تعيين الأشخاص. هذا هو الخلق الذي ينبغي اتّباعه ضمن العلاقات المجتمعية، وحين مناقشة الأفكار والردّ عليها.
إننا مدعوون جميعًا لاحترام أنفسنا، والنأي عن التنازع. حتى يسود الاحترام أجواء المجتمع، فالمجتمع التي تنال فئاته المختلفة من بعضها بعضًا، وتعمد إلى تسقيط رموزها، فإن مؤدّى ذلك هو التسقيط لجميع الرموز، وانعدام الاحترام لكلّ الفئات، فلا حرمة حينئذٍ لأيِّ شخصية، ولا اعتبار لأيِّ فئة أو جماعة، والمحصلة النهائية هو سقوط للمجتمع برمّته.