قيمة الجود والسخاء
الخطبة الأولى: قيمة الجود والسخاء
ورد عن الإمام محمد بن عليّ الجواد أنه قال: «ما عظمت نعمة الله على أحدٍ إلّا عظمت عليه مؤونة الناس، فمن لم يحتمل تلك المؤونة عرّض النعمة للزوال»[1] .
نعم الله تعالى على الإنسان متعددة ومختلفة، فمنها؛ نعمة العلم، ونعمة المال، ونعمة الجاه، والمهارات والقدرات، وبمقدار ما يتوفر للإنسان من هذه النعم، فإنه يصبح مقصدًا لحوائج المحتاجين، ومقتضى ذلك أن يشرك الآخرين في هذه النعم التي أنعم الباري بها عليه. وبمعنى آخر؛ ألّا تكون النعم التي يسبغها الباري سبحانه حكرًا على صاحب النعمة وحده، بقدر ما ينبغي بذلها للناس.
كما ورد عن الإمام الجواد فإنّ هناك نسبة وتناسبًا بين نعم الله على العبد، وبين حاجات الناس إليه، وزوال النعمة ربما كان بأحد طريقين؛ إما من خلال زوال النعمة نفسها، أو زوال المرء ذاته ومفارقته لتلك النعمة.
الجواد أنموذج للسّخاء
إنّ حياة الإمام الجواد كانت أنموذجًا للعطاء والسّخاء. وما لقب بالجواد إلّا لكونه عنوانًا مجسِّدًا للجود، فقد كانت هذه الخصلة الأكثر بروزًا وجلاءً في سيرته. وفي هذا الصّدد يقول الذهبي، أحد أبرز المؤرخين من أهل السنة والجماعة، في كتابه «تاريخ الإسلام» عن الإمام الجواد، أنه «كان أحد الموصوفين بالسّخاء، فلذلك لقب بالجواد»[2] ، وقال ابن تيمية في كتابه «منهاج السنة»: «محمد بن عليّ الجواد كان من أعيان بني هاشم وهو معروف بالسّخاء والسّؤدد ولهذا سمّي الجواد»[3] ، كما أورد الصفدي، وهو من أعلام أهل السنة أيضًا في كتابه «الوافي في الوفيات» عن الإمام الجواد: «كان من الموصوفين بالسّخاء؛ ولذلك لقب بالجواد»[4] .
وقد نقل المؤرخون قصصًا كثيرة عن سخاء الإمام الجواد. ومن ذلك ما ورد، بأنّ أحمد بن حديد قد خرج مع جماعة من أصحابه إلى الحج، فهجم عليهم جماعة من السرّاق، ونهبوا ما عندهم من أموال ومتاع، ولما انتهوا إلى يثرب، انطلق أحمد بن حديد إلى الإمام محمد الجواد، فأخبره بما جرى عليهم، فأمر له بكسوة وأعطاه دنانير ليفرّقها على جماعته، وكانت بقدر ما نُهب منهم.
الموارد المالية للإمام الجواد
من هنا يأتي السؤال عن مصدر هذه الأموال التي بين يدي الإمام، وفي هذا الشأن يشير المؤرخون إلى عدة مصادر، أولها ما كان يجريه الخليفة العباسي من راتب سنوي للإمام، فقد احتضن المأمون العباسي الإمام الجواد، وتظاهر برعايته، بعد وفاة أبيه الإمام عليّ بن موسى الرضا، وقد أراد المأمون من وراء ذلك التغطية على قتله الإمام الرضا مسمومًا، والتظاهر بميوله لآل البيت، وثمّة من يرجح أن يكون هذا العطاء للإمام بغرض وضعه تحت المراقبة.
ليس من الصحيح القول بأنّ الإمام الجواد إنما قبل عطاء المأمون مضطرًا، بل لأنه رأى في ذلك دعمًا يصبّ في صالح رسالته ومنهجه، وإلّا لو لم يكن كذلك لما قبل الإمام من المأمون ذلك العطاء. فأئمة أهل البيت ليس من دأبهم إيثار الحماية والسّلامة الشخصية على حساب رسالتهم، وغاية ما هناك أنّ الإمام الجواد وجد أن إقامة العلاقة مع المأمون، وفق الموازين القائمة آنذاك، كان أجدى وأكثر نفعًا للرسالة من الاصطدام معه، بل إنّه ذهب أبعد من ذلك عندما قبل الزواج من ابنة المأمون المعروفة بأمّ الفضل، وأجرى الأخير للإمام راتبًا سنويًّا قدّره المؤرخون بنحو مليون درهم، وهذا ما كان يُعَدّ مبلغًا ضخما آنئذ. وإذا ما علمنا بأنّ الإمام الجواد لم يعش حياة باذخة ولم يسع لذلك، سيما مع علمه بأن هذا المال إنما هو من بيت مال المسلمين، فقد خصّص ذلك العطاء لتقسيمه على المسلمين، فكان ينفق بسخاء على المحتاجين والسائلين.
أما المصدر الآخر للأموال التي تحت يد الإمام الجواد فكانت الحقوق الشرعية. حيث كان المؤمنون من كلّ مكان يوصلون زكاة أموالهم وأخماسهم ونذورهم وكفّاراتهم.
أما المصدر الثالث فقد كانت الأوقاف الشرعية لأهل البيت، فقد كانت لهم أوقاف كثيرة يتوارثون الولاية عليها، بدءًا من الإمام عليّ الذي كانت تحت يده مزارع كبيرة قام على غرسها وزراعتها بنفسه، وكذلك بقية الأئمة. وقد كانت هذه المصادر المالية تدرّ على الأمام الجواد، فكان يصرف منها بسخاء حتى لقب بالجواد.
العطاء قيمة إنسانية حضارية
إنّ الجود والعطاء قيمة إنسانية حضارية مهمة، يركز عليها الدين كثيرًا. وفلسفة ذلك، هي أن غاية ما يحتاجه الإنسان أن تتوفر له سبل العيش الرغيد، وتسدّ جميع حاجاته الأساسية والكمالية، فماذا عسى أن يفعل بما زاد على ذلك من أموال، خاصة وأنه سيأتي عليه يوم يفارق كلّ هذه الأموال فتذهب بأجمعها لغيره من الورثة، من هنا يأتي التوجيه الديني للإنسان نحو التفكير الصحيح في مصير الثروات التي تحت يده. لا غرو بأنّ للإنسان أن يضمن كل احتياجاته الشخصية من هذه الثروة، ولا ضير في أن يجعل لنفسه مالًا احتياطيًّا يقيه عائدات الدهر، كما أنّ من الطبيعي أن يترك لأبنائه ما يعينهم في مستقبل حياتهم، سيما إذا لم يكونوا في سنّ العمل. ولكن ما زاد على ذلك ينبغي أن يجد طريقه نحو الإنفاق في سبيل الله، وخدمة المجتمع.
إنّ ما سبق ليس مختصًّا بأصحاب الثروات الطائلة وحدهم، وإنما يشمل كلّ الميسورين. فأيّما شخص لديه دخل جيّد، فهو مدعو للإنفاق على نفسه قدر حاجته، أما ما زاد على ذلك، من أموال تكدس في البنوك، أو تترك ضمن ادخارات الشركات، أو تعوم في سوق الأسهم ومحافظ الاستثمار، فماذا يريد الإنسان بكلّ هذه الأموال؟ إنّها في نهاية المطاف إمّا ستزول عنه أو يزول هو عنها. يقول أمير المؤمنين: «جُدْ بما تُجِدْ تُحْمَدْ»[5] حيث يكون الشكر للإنسان المنفق موصولًا من قبل الله ومن قبل الناس. وفي كلمة أخرى قال أمير المؤمنين: «جود الرجل يحبّبه إلى أضداده، وبخله يبغّضه إلى أولاده»[6] ، إنّ السّخاء ربما جلب محبة الأعداء، على النقيض من البخل الذي يسبب بغض أقرب الناس للإنسان وهم أولاده. إنّ وجود الإمكانات المالية مدعاة لأن ينفق الإنسان منها عبر التوسيع على عياله وأرحامه، وينفع بها أبناء مجتمعه، وإلّا فبماذا ينتفع الأثرياء من أموالهم المجمّدة؟
وقد ورد عن الإمام الصادق في تفسير قوله تعالى: ﴿كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ﴾ أنه قال: « هو الرجل يدع ماله لا ينفقه في طاعة الله بخلًا، ثم يموت فيدعه لمن يعمل فيه بطاعة الله أو في معصية الله، فإن عمل به في طاعة الله رآه في ميزان غيره، فرآه حسرة وقد كان المال له، وإن كان عمل به في معصية الله قواه بذلك المال حتى عمل به في معصية الله عزّ وجلّ»[7] ، لذلك فإنّ على الإنسان أن يعيد النظر في تعامله مع ما عنده من مال وثروة، فهذا ما يقود إليه العقل والوجدان.
أين أثرياء العرب؟
ومما يذكر في هذا الشّأن توقيع مجموعة من أبرز الأثرياء في الولايات المتحدة، في لقاء جمعهم قبل سنوات، على وثيقة تقضي بأن يتبرع كلّ واحد منهم بنصف ثروته، لصالح الإعمال الإنسانية والخدمة الاجتماعية، وقد استجاب لهذه الدعوة ثلاثون مليارديرًا أمريكيًّا، أوليس الإنسان المسلم أولى بهذا التوجّه؟. إنّ من المؤسف أن نجد من الأثرياء العرب سنويًّا على قوائم الأكثر ثراءً في العالم، فيما تحيط بهم من بني جلدتهم شعوب بأكملها تئنّ من الجوع وينهشها الفقر، وما يستتبع ذلك من الاضطرابات والقلاقل، أوليست هذه هي حال الناس في اليمن والصومال والسودان وغيرها من البلدان التي تعاني شعوبها الجوع والعوز!. وحتى في مناطقنا العربية الميسورة تنتشر الفئات الفقيرة المكبلة بالديون، وارتفاع أسعار السكن، وغلاء المعيشة، سيّما في ظلّ رواتب محدودة لا تسدّ الرمق أمام كم الالتزامات الكبيرة. في حين ينتشر عدد غير قليل من كبار أثرياء العالم في هذه المنطقة!، فماذا يفعل هؤلاء الأثرياء بأموالهم وثرواتهم؟ ولا نريد هنا التعميم، فهناك من الأثرياء من يتحلّون بالسّخاء، نسأل الله أن يوسّع عليهم، وأن يضاعف لهم الخير والأجر والثواب، ويكثر من أمثالهم، غير أننا نأمل أن يكون كلّ ثريٍّ وكلّ ذي مال، من الذين ينفقون في خدمة مجتمعهم ودينهم.
الخطبة الثانية: الحجّ.. تعارف وتعرّف على آثار الإسلام
روى هشام بن الحكم قال سألت أبا عبد الله جعفر الصادق: ما العلّة التي من أجلها كلّف الله العباد الحج والطواف بالبيت؟ فكان من جواب الإمام قوله: «إنّ الله خلق الخلق .. وأمرهم بما يكون من أمر الطاعة في الدين، ومصلحتهم من أمر دنياهم، فجعل فيه الاجتماع من الشرق والغرب ليتعارفوا، ولينزع كلّ قوم من التجارات من بلد إلى بلد، ولينتفع بذلك المكاري والجمال، ولتعرف آثار رسول الله وتعرف أخباره، ويذكر ولا ينسى»[8] .
لكلّ عبادة من العبادات عطاءات تعود بالنفع والخير على حياة الإنسان الفردية والاجتماعية. إنّ الهدف الأساس للعبادات هو تعزيز العبودية لله في نفس الإنسان، وأن يتربى على الخضوع لأوامره، والتطلع لرضاه سبحانه وتعالى. غير أنه إلى جانب هذا الهدف يمكن القول: إنّ هناك عطاءات ومنافع فردية واجتماعية لكلّ عبادة، ينبغي تلمّسها. وتأتي فريضة الحج في طليعة العبادات الإسلامية التي أوجبها الله تعالى على كلّ مسلم مستطيع، مرة واحدة في العمر، يقول تعالى: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً﴾. إنّ مناسك فريضة الحجّ تكرّس حالة العبودية والخضوع لله سبحانه بأجلى معانيها، وإلى جانب ذلك تأتي العطاءات والمنافع لهذه الفريضة.
التعارف مقصد أساس
يشير القرآن الكريم ومختلف النصوص الدينية، إلى أنّ للحجّ منافع ينبغي الالتفات لها. حيث ورد في قوله تعالى: ﴿وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ﴾ [سورة الحج، الآيتان: 27-28]، كما ورد في الرواية عن الربيع بن خيثم قال: سألت أبا عبدالله جعفر بن محمد الصادق عن قوله تعالى: ﴿لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ﴾، منافع الدنيا أو منافع الآخرة؟ فأجابه الإمام بأنّ الآية تعني الكلّ[9] ، أي ليشهد الحجاج منافع الدنيا ومنافع الآخرة.
وقد تناول الإمام الصادق ثلاث منافع حياتية مهمة للحجّ، أوّلها التعارف. فقد روى هشام بن الحكم قال: سألت أبا عبدالله جعفر الصادق: ما العلّة التي من أجلها كلّف الله العباد الحجّ والطواف بالبيت؟ فكان من جواب الإمام قوله: «فجعل الله فيه الاجتماع من الشرق والغرب ليتعارفوا، ولينزع كلّ قوم من التجارات من بلد إلى بلد، ولينتفع بذلك المكاري والجمال، ولتعرف آثار رسول الله وتعرف أخباره ويذكر ولا ينسى». فالتعارف بين الناس هو أول منافع الحجّ الثلاث بحسب الرواية، وهو هدف أساس مهمّ. إنّ التنوع البشري ينبغي أن يكون دافعًا للتعارف لا التنافر، وللتعاون لا الصراع والصدام، فقد قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا﴾[سورة الحجرات، الآية: 13].
إنّ للتعارف دورًا كبيرًا في تدوير التجارب بين الشعوب، والتعرف على نقاط القوة والضعف عند كلّ أمةٍ من الأمم. كما أنّ التعارف يمنع العداوة أو يحدّ منها، حيث أنّه، وفي كثير من الأحيان، قد ينظر الناس نظرة سلبية إلى بعضهم بعضا، ولربما تولدت لدى أبناء قومية أو أتباع مذهب انطباعات مغلوطة عن قومية معينة، أو مذهب آخر، لا لشيء، إلّا نتيجة جهل كلّ طرف بالآخر، وفي سبيل أن تتجلى صورة كلّ أمة أو مجتمع أمام المجتمع الآخر، يغدو التعارف أمرًا في غاية الأهمية.
وتنبع أهمية التعارف بين أبناء الأمة الإسلامية لجهة التنوع البشري الواسع فيها، العرقي والقومي والمذهبي والفكري والسياسي. وعلاوة على ذلك، تنبع أهمية التعارف لوجود من يجهد في إثارة البغضاء والكراهية بين مكونات هذه الأمة، انطلاقًا من أرضية الجهل التي يجري الاستفادة منها إلى أقصى الحدود، حيث تعمد بعض الأطراف إلى رسم صورة خطأ عن كلّ طرف لدى الطرف الآخر.
من هنا ينبغي الاستفادة من موسم الحج، ليتعرف الناس على بعضهم بعضًا، خاصة وأنهم على المستوى المذهبي، الشيعة والسنة والإباضية، والإسماعيلية والزيدية والصوفية والسلفية، يتواجدون بأجمعهم لأداء مناسك الحج، ولا يخلو الأمر من إشكالات وشبهات ونقاط استفهام عند أتباع كلّ مذهب تجاه المذهب الآخر، فليكن موسم الحج فرصة ليتعرفوا على بعضهم بعضًا.
لا عذر لأحدٍ حين يختار العيش في ظل الجهل، ثم يتبنّى المواقف على ذلك الأساس. ويغرق في الجهالات، وهو يمتلك الفرصة لكي يتعرف على حقيقة الأطراف الأخرى، ويحيط بكل قضية من مختلف جوانبها. من هنا يغدو التعارف مسألة مهمة لا ينبغي أن تفوّت، خاصة بالنسبة للنخب العلمية والدينية والفكرية، والأطراف المؤثرة في مجتمعاتها.
إنّ من المؤسف جدًّا أن يذهب كثير من المسلمين لأداء فريضة الحج، لكنهم يتجاهلون هذا الهدف؛ أي التعارف فيما بينهم، فلا يسعون من أجل التعرف على الحجاج الآخرين، وبينهم من قدموا من مختلف البقاع والأصقاع والقوميات والمذاهب، أوليس الأولى أن يتعرفوا على بعضهم بعضا، ويقفوا على أوضاع بعضهم بعضًا، ويرسموا صورة أوضح عن اتجاهاتهم وانتمائهم ومجتمعاتهم. ينبغي الاعتراف هنا بغياب الأجواء المساعدة والمشجّعة بالمقدار الكافي لتحقيق التعارف، لكن هناك دورًا كبيرًا تلعبه المبادرات الفردية والمؤسسية على هذا الصّعيد، لذلك ينبغي أن تشقّ طريقها قدمًا.
الحراك الاقتصادي
أما المنفعة الثانية للحج بحسب الإمام الصادق فهي الحركة الاقتصادية. فقد ورد في الرواية قوله: «.. ولينزع كلّ قوم من التجارات من بلد إلى بلد ولينتفع بذلك المكاري والجمال»، وفي السياق، لا بأس أن نشير هنا إلى يوم السياحة العالمي الذي يصادف يوم غدٍ السّابع والعشرين من سبتمبر، الذي أقرته منظمة السّياحة العالمية عام 1980، ويجري بهذه المناسبة تكثيف البرامج والاحتفالات والمؤتمرات، في بلاد كثيرة حول العالم، للتعريف بدور السياحة، وأهميتها في التعرف على المناطق والمجتمعات الأخرى عبر العالم.
ذلك أنّ السّياحة أصبحت موردًا اقتصاديًّا مهمًّا لكثير من بلاد العالم، فهناك بحسب إحصاءات منظمة السّياحة العالمية أكثر من 250 مليون شخص يعملون في قطاع السّياحة عبر العالم، وقد بلغت عائدات السّياحة في العام الماضي 2014 وحده نحو 500 مليار دولار، وهي أعلى بنحو 12 بالمئة من عائدات السّنة التي سبقتها.
وعلى المستوى الوطني، قدّرت إحصائية حجم الإنفاق الذي صرفه السعوديون على السّياحة خلال العام الماضي بما يزيد على 30 مليار ريال، وهناك تقديرات بأنّ السائح السعودي ينفق على السياحة أكثر مما يصرفه السائح الغربي بنحو 60 بالمئة، نتيجة قلة الوعي السّياحي، وضعف المعلومات، وبذخ الإنفاق، وبذلك يتمتع السائح الأوروبي أكثر، وبنسبة إنفاق أقلّ من السائح السعودي، نتيجة الوعي وحسن التخطيط.
والحديث عن السياحة يجرنا إلى الحديث عن بعد هامٍّ من أبعاد الحج. فأنْ يتوجه هذا العدد من المسلمين لأداء مناسك الحج، فلا بُدّ أن يصنع هذا الحدث حراكًا اقتصاديًّا ملحوظًا، وكما هو معروف فإنّ عددًا من الدول الإسلامية تعمل على مدى سنوات في تحصيل واستثمار أموال مواطنيها الراغبين في الحج، وهذا أمر حاصل في إيران وتركيا وأندونيسيا وماليزيا، حيث يحتاج الراغب في أداء مناسك الحج في تلك البلدان للتسجيل في قوائم انتظار، ودفع التكاليف مسبقًا، وقد يمتدّ به الانتظار إلى سنوات حتى تتاح له الفرصة، وأثناء ذلك تقوم الجهة المنظمة باستثمار أموال الحجاج المسجلين على قوائم الانتظار، وتدرّ هذه الأموال أرباحًا كبيرة لصالح مؤسسة الحج، وإدارة شؤون الحجاج. ومن أسفٍ نقول إنّه نتيجة لضعف الاهتمام، فإن مجتمعنا قلّما يستفيد اقتصاديًّا من موسم الحج على النحو المناسب، حتى مع وجود الكمّ الهائل من الحركة الاقتصادية التي يوفرها.
استحضار تاريخ الرسالة
أما الفائدة الثالثة للحج التي يتناولها الإمام الصادق فهي استحضار تاريخ الإسلام. فالمسلمون القادمون من أصقاع الأرض لأداء مناسك الحج، لا بُدّ أن يتعرّفوا على أخبار وآثار رسول الله، فهؤلاء الحجيج طالما سمعوا عن مكة المكرمة، والمدينة المنورة، والهجرة النبوية، وعن وقائع بدر وأحد، وهي في أذهان هؤلاء لا تزيد عن أسماء وعناوين، لذلك يأتون وأنفسهم تعتمل بالحنين، وتمتلئ شوقًا، للاطّلاع المباشر على هذا التاريخ، والوقوف عيانًا على هذه المعالم، وهذا هدف كبير من أهداف الحج، حتى يكون هنالك تواصل نفسي وثقافي مع السيرة والقيم النبوية. إنّ هذا الأمر يتطلب تهيئة الأجواء للحجيج، وأن يصاحب ذلك برامج لحفظ الآثار النبوية والمواقع التاريخية.
ومن أسفٍ نقول: إنّ بلادنا تفتقد الاهتمام بالآثار النبوية والمواقع التاريخية. حيث ساد فيها اتجاه ديني يحارب هذا الأمر، وذلك بالنظر إلى الآثار النبوية والمواقع التاريخية نظرة حدّية، محورها الخشية من أن يتبرك الناس بهذه المواقع والآثار، معتبرًا ذلك شكلًا من أشكال الوقوع في البدعة، وارتكاب الحرام، ومن مظاهر الشرك، ونتيجة لهذه النظرة الضيقة حرموا الأمة من كثير من الآثار العظيمة، والمواقع التاريخية. ولعلّ التطور الأبرز الذي ظهر مؤخرًا، هو ارتفاع الأصوات المنادية بضرورة حفظ الآثار التاريخية في مكة المكرمة، والمدينة المنورة، وقد شقّت بعض الكتابات والأحاديث طريقها عبر الصحف المحلية، والبرامج التلفزيونية، آخذين في الاعتبار رغبة الحجيج في الاطّلاع على معالم تاريخهم الإسلامي، وسيرة وآثار نبيهم، وآثار أهل بيته وصحابته، فلماذا يحرمون من هذه الفرصة، فهذا من أبرز أهداف الحج.