مفهوم الوحدة والتطبيقات المعاصرة
الخطبة الأولى: مفهوم الوحدة والتطبيقات المعاصرة
ورد عن الإمام محمد الباقر أنه قال: «إنّ من أعظم الناس ذنبًا من وقف بعرفات ثم ظنّ أنّ الله لم يغفر له»[1] .
تمثل مناسبة الحج عمومًا، والوقوف على جبل عرفة على وجه الخصوص، أحد أروع المشاهد الإيمانية الوحدوية، التي يتوق لها المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها. حيث تشخص الأنظار، وتشرئبّ الأعناق، في كلّ بقاع العالم الإسلامي، صوب الحجيج الواقفين على جبل عرفة. ويتجلى في هذا الموقف المهيب أمران؛ أولهما، حضور الدين متجدّدًا في نفس الإنسان المؤمن، بالرغم من كلّ تطورات الحياة المعاصرة، وسيادة النزعة المادية في المجتمعات البشرية.وبذلك لا يستطيع أحدٌ الادّعاء بأن هناك انحسارًا أو تراجعًا في حضور الدين في نفوس معتنقيه.
إنّ مناسبة الحج، والإقبال الشديد على أداء المناسك، يكشف بكلّ جلاء ووضوح، النسق المتصاعد لحضور الدين والاهتمام به. ذلك أن المتواجدين في مكة المكرمة لأداء مناسك الحج، والواقفين على عرصات عرفة، ما هم إلّا جزء يسير من عشرات الملايين من المسلمين التائقين لأداء هذا النسك، وحضور هذا الموقف، ولو كان المجال مفتوحًا، والظروف مساعدة، فلربما وصل عدد الحجيج عشرة أضعاف ما هم عليه اليوم، حيث إنّ عدد المليوني حاج ما هم إلّا أولئك الذين أتيحت لهم الفرصة لأداء الحج، وإلّا فهناك عشرات الملايين يتحرّقون شوقًا لأداء هذه الفريضة.
فقد أفصح بعض الحجيج عن انطباعاتهم ومشاعرهم الجيّاشة بمناسبة قدومهم للحج، قال أحدهم وهو في السبعينات من عمره، إنّه ولشدّة اشتياقه للذهاب إلى مكة، ورؤية الكعبة المشرفة، فإنه لم ينم طوال الأيام الثلاثة التي سبقت موعد الرحلة، ويقول إنه لم يستوعب حتى تلك اللحظة التي يتحدث خلاها، أنّ قدمه قد وطأت أرض الحجاز، وأنه الآن في الطريق إلى مكة، ويعلل ذلك بأنه كان يعيش هذه الأمنية طوال حياته. هذه المشاعر الجيّاشة إنما هي مظهر من مظاهر حضور الدين في نفوس أبناء الأمة.
وفي يوم عرفة تتجلّى مدى عظمة الخالق سبحانه، على نحو لا يتسنّى للإنسان تجاهله. فلربما تطغى الغفلة على الإنسان، وتسيطر عليه الشهوة، وقد تجرفه أمواج المادة، لكنه حين يعود إلى وجدانه، وأعماق ضميره، فإنه يجد الله حاضرًا عنده. في يوم عرفة، ترفع الأكفّ على جبل عرفات، وتشخص الأبصار، وتذرف العيون الدموع شوقًا إلى رحمة الله، ورجاءً لمغفرته ورضوانه، والله سبحانه وتعالى أعظم وأسمى من أن يردّ هذه الدموع، ويخيّب هذه المشاعر. وفي هذا الشأن نستحضر كلمة الإمام محمد الباقر حين قال: «إنّ من أعظم الناس ذنبًا من وقف بعرفات ثم ظنّ أن الله لم يغفر له»، ذلك أن العبد متى ما كان صادقًا ومتوجّهًا إلى ربّه، بكلّ وجدانه وجوارحه، فإنّ الله سبحانه يستجيب له بلطفه وكرمه.
إنّ سلسلة النصوص والأدعية الخاصة بالحج، المروية عن أئمة أهل البيت، تكشف بجلاء أنّ الإنسان متى استجاب لنداء فطرته وضميره، فإنه بذلك ينضوي تحت رحمة الله وعفوه. فقد روي عن الإمام زين العابدين عليّ بن الحسين في دعائه يوم عرفة أنه قال: «اللهمّ إنّ هذا يوم عرفة يوم شرفته وكرمته وعظمته، نشرت فيه رحمتك ومننت فيه بعفوك، وأجزلت فيه عطيتك، وتفضّلت به على عبادك، وها أنا ذا بين يديك صاغرًا ذليلًا، خاضعًا خاشعًا خائفًا معترفًا بعظيم من الذنوب تحمّلته، وجليلٍ من الخطايا اجترمته مستجيرًا بصفحك، لائذًا برحمتك موقنًا أنّه لا يجيرني منك مجير، ولا يمنعني منك مانع»، ومن الجليّ أنّ انطلاق مثل هذه الدعوات، وعلى هذا النحو من التضرّع، لا بُدّ وأن يقابله الخالق عزّ وجلّ بالمغفرة، وألّا يخيب آمال عباده الصادقين.
المشهد الوحدوي وواقع التمزق
وإلى جانب المشهد الإيماني، يتجلّى في يوم عرفة الجانب الوحدوي بين أبناء الأمة. حيث يقف على صعيد عرفة ممثلون عن جميع الشعوب الإسلامية، من مختلف البلدان والقوميات والمذاهب، يقفون جميعًا على صعيد واحد، وفي وقت واحد، ويتجهون نحو مقصد واحد، وكلّهم يتحدث بلغة واحدة، هي لغة الاعتراف بالعبودية والخضوع لله، والرجاء لعفوه ورضوانه، والاستجابة لأوامره وأحكامه، وهذا مشهد وحدوي عظيم، تعجز الكلمات عن تصويره، وتفسير معانيه وأبعاده.
إنّ هذه الأمة التي يجمعها هذا المشهد الوحدوي المتكرّر كلّ عام، الذي لا تقتصر آثاره على الحجيج بمفردهم، بقدر ما بات يعيشه جميع الناس بفضل وسائل الإعلام، التي تنقل الحدث لحظة بلحظة، هذا الحدث الذي يفترض أن يكون مكرّسًا ومعزّزًا لوحدة الأمة، سيمّا وأن تعاليمها الدينية تؤكّد الوحدة، فبالرغم من كلّ ذلك؛ لماذا باتت هذه الأمة اليوم أكثر الأمم اختلافًا ونزاعًا في داخلها؟
وبالرغم من أنّ أيّ أمة من الأمم لا تكاد تخلو من الصراعات، إلّا أن أمتنا سبقت جميع الأمم في هذا المضمار، وباتت الصراعات تمزّقها من كلّ جانب، فما هي علّة هذا الواقع المزري في الأمة؟ ولماذا لا يؤثّر في مسلكها كلّ هذا الكمّ الكبير من النصوص الدينية، والمشاهد الوحدوية، التي تأخذ مكانها خلال موسم الحج، ولماذا لا تنعكس هذه المشاهد على شكل معالجات لمشكلة التمزّق القائم؟.
إنّ تناول أزمة التطاحن وغياب الوحدة في الأمة يتطلّب حديثًا طويلًا. فذلك همٌّ ينبغي أن يحمله كلّ إنسان مسلم، وأن يفكّر فيه، ويشعر بالقلق إزاءه، وأن يتلمّس الطريق نحو العلاج والخلاص، حيث إن تجاوز حالة التنازع والخلاف في الأمة ليس واجبًا نخبويًّا كفائيًّا تهتم به فئة من أبناء الأمة، وإنما هو واجب عيني يقع على عاتق كلّ مسلم.
كيف نترجم مبدأ الوحدة؟
ويمكن القول إنّ هناك أسبابًا وعوامل تقف وراء هذه الحالة من التشرذم والتنازع التي تعيشه الأمة اليوم. ويمكن الإشارة هنا إلى عاملين أساسيين، أولهما؛ عدم ترجمة القيم الوحدوية إلى مفاهيم عصرية مقنّنة، تأخذ طريقها نحو التطبيق على أرض الواقع. ولو أردنا أن نقرّب الصورة لفهم هذا التناقض، يمكن النظر على سبيل المثال إلى قيمة العلم، فهي قيمة مسلّم بها في الإسلام بل عند جميع البشر، غير أنّ هذه القيمة ـ العلم ـ أصبحت لها ترجمة واقعية من خلال النظم والقوانين والمؤسسات التعليمية، وأيّ أمة أغفلت هذه النظم المؤسسية في مجال التعليم، ولم تنشئ المدارس الحديثة وتشيد الجامعات ومراكز الأبحاث، انطلاقًا من مؤسسة ونظام تعليمي حديث، فإنّ هذه الأمة لا يمكن أن ترتقي علميًّا، ولن تنفعها في هذه الحال ملايين النصوص التراثية التي تكتنزها حول فضل وقيمة العلم. وكذلك الحال في المجال الصحي، لو شئنا أخذ مثال آخر، فلو أنّ أمة من الأمم لم تأخذ بالخدمات الصحية المعاصرة في مجال الرعاية الصحية، ولم تدر بالًا لإنشاء المستشفيات والصيدليات وكليات الطبّ والعلوم الطبية، واختارت عوضًا عن ذلك البقاء على التقاليد الطبية القديمة فهل ستحافظ على المستوى الصحي لأبنائها!. هنا تنطبق تمامًا ذات المعادلة في مجال الوحدة الإسلامية.
إنّ الوحدة الإسلامية لا يمكن أن تأخذ طريقها للتطبيق في واقع الأمة بمجرد ترديد الآيات والروايات الحاثة على الوحدة، فيما تغيب الآليات والنظم الواضحة. إنّ تحقيق الوحدة في الأمة، لن يتسنّى في ظلّ غياب القوانين الناظمة للوحدة، وحينها سيكون أيّ حديث عن الوحدة مجرّد فقاعات في الهواء، تمامًا كمثالي التعليم والصحة. وفي حين أخذت شعوب الأمة بالنظم التعليمية الحديثة بعد تردّد، كما استنسخت النظم الصحية الموجودة في دول كثيرة من العالم، إلّا أنها عجزت عن أخذ النظم والآليات السائدة في المجتمعات المتقدمة في مجال تحقيق الوحدة داخل الأمة.
مفهوم المواطنة لتعزيز الوحدة
ولعلّ أحد أبرز المفاهيم العالمية الحديثة المؤصّلة للوحدة هو مفهوم المواطنة. فقد تحوّل هذا المفهوم إلى حالة قانونية راسخة، في أكثر بلاد العالم، فكلّ مجموعة بشرية تعيش في بلدٍ من البلدان، هم مواطنون متساوون في الحقوق والواجبات، يحكمهم دستور وقوانين ناظمة، فإنّ بقيت بلداننا بعيدة عن تطبيق مفهوم المواطنة، فليس لها سوى البقاء على حالة المغالبة والتمييز والتفاخر القومي والديني والمذهبي بين فئاتها، وهي بالتالي ستبقى أبعد ما تكون عن الوحدة، والانسجام والعيش المشترك، ولن يفيدها ساعتئذ ترديد أحاديث الوحدة، وتلاوة الآيات في فضل التعاون، وذلك أشبه ما يكون بالاكتفاء بالكتاتيب عوضًا عن إنشاء المدارس والجامعات.
فليس هناك من سبيل لتحقيق الوحدة، إلّا من خلال خلق الحالة المؤسسية، التي تدفع بالوحدة قدمًا، وترفدها بالقوانين الناظمة، فإذا لم يتحقق هذا الأمر، فستبقى الأمة تعيش التناقض بين ما هو موجود في النصوص الدينية، وبين واقعها المأساوي المعيش.
أما العامل الثاني من عوامل التّشرذم والتنازع في الأمة فهو ضعف انتشار ثقافة التسامح وقبول الآخر، فما دامت ثقافة التعصّب والتشدّد تضخ بمفاعيلها في أوساط أبناء الأمة، فإنّ واقع الأمة لن يكون قريبًا من الوحدة، وستظلّ الأمة تتخبّط في واقعها المأساوي الراهن، تحت وطأة النزاع والتفرقة والاحتراب.
الخطبة الثانية: حرمة الأديان وحرمة الإنسان
ورد في خطبة رسول الله في منى في حجّة الوداع أنّه قال: «أيّ يوم أعظم حرمة؟ قالوا: هذا اليوم، قال: فأيّ شهر أعظم حرمة؟ قالوا: هذا الشهر قال: فأيّ بلدة أعظم حرمة؟ قالوا: هذه البلدة، قال: فإنّ دماء كم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا إلى يوم تلقونه فيسألكم عن أعمالكم، ألا هل بلّغت؟ قالوا: نعم»[2] .
حين يرتبط الإنسان بعقيدة دينية، فإنّها تحظى بأعظم قداسة واحترام في نفسه، فالدين بالنسبة للمؤمنين يمثل الحقّ المطلق، والقيمة العليا، من هنا تنبع قداسة الدين وتعظيمه.
وتتجسّد العقيدة الدينية في الرموز والمعالم. التي قد تكون مكانًا، أو زمانًا، أو شعيرة، أو شخصية تضفى عليها القداسة، وهذا ما ينطبق على كلّ الأديان، ففي كلّ دين هناك رموز مقدّسة، تأخذ قداستها من قداسة الدين نفسه، إن الانسان المتديّن يحترم رموزه الدينية ويقدّسها، انطلاقًا من احترامه وتقديسه لدينه، وهذا أمر واضح وجليّ بين أبناء البشر.
أعظم حرمة من الكعبة
ولأنّ الإسلام أولى اهتمامًا عظيمًا بحرمة الإنسان وقيمته في هذه الحياة، جعل احترام الإنسان حالة موازية لاحترام الدين، فبقدر ما يكنّ المسلم من عظيم احترام لدينه، فإنه مطالب بذات القدر بإظهار الاحترام لنظيره الإنسان.
فالمسلم الذي لا يحترم أخاه الإنسان، فإنّ احترامه لدينه مشكوك فيه. ذلك لأنّ الإسلام جعل هنالك علاقة وثيقة بين الأمرين، وارتباطًا عضويًّا بين حرمة الدين وحرمة البشر. ومن شاء التفكيك بينهما فهذا أبعد ما يكون عن المصداقية في احترامه لدينه.
وإذا ما أراد المؤمن أن يظهر مقدار حرمة الخالق جلّ وعلا في نفسه، فإنه مطالب بالقدر نفسه بإظهار اهتمامه ورعايته لحرمة عباده، على اختلاف مراتب العلاقة بهم، من الوالدين، والأسرة، والجيران، والأصدقاء، والمعارف، والآخرين. فأن تشكر الله سبحانه على نعمة من النعم، فذلك ما يستوجب أن تشكر بالقدر نفسه من يحسن إليك من عباده، وقد ورد عن الإمام عليّ بن موسى الرضا أنه قال: «من لم يشكر المنعم من المخلوقين لم يشكر الله عزّ وجلّ»[3] ، وبذلك يكون شكر الخالق عزّ وجلّ بموازاة شكر المخلوقين دون مواربة.
إنّ هناك نصوصًا دينية كثيرة، تربط على نحو وثيق بين حرمة الدين وحرمة البشر. فقد روي عن النبي في تعريفه للفرد المسلم، أنه قال «المسلم من سلم الناس من لسانه ويده»[4] ، إنّ الفرد المسلم لا يكون مسلمًا حقًّا ما لم يَرْعَ حقوق نظرائه من بني البشر، فإذا ما ادّعى التديّن، في حين راح يعتدى على الآخرين بلسانه، يتهمهم، ويفتري عليهم، ويستغيبهم، ويُشهّر بهم، فهذا ليس من الإسلام في شيء. وفي رواية بهذا المعنى، يشير الإمام عليّ بن أبي طالب إلى أن الله قد يسامح عباده فيما يتعلق به تعالى من حقوق، لكنه سبحانه ليس في وارد إغفال محاسبة العباد على إساءتهم واعتدائهم على حقوق الآخرين، حيث قال: «... وأما الظلم الذي لا يترك ظلم العباد بعضهم لبعض»[5] ، وقال: «من ظلم عباد الله كان الله خصمه دون عباده»[6] ، وعباد الله الوارد ذكرها في الرواية عامة، تشمل الجميع، بدءًا من الزوجة والأولاد، وصولًا إلى جيرانه، وكل من يتعامل معهم في حياته اليومية. وبعبارة أخرى؛ إنّ عباد الله هم كلّ الناس بمختلف أصنافهم، فمتى ما عمد المرء إلى ظلم أحدٍ، فكأنما اعتدى على الله جلّت قدرته، وبذلك يكون الله خصمه الأول يوم القيامة. وهذا مصداق واضح لمدى الارتباط العميق بين حرمة الدين وحرمة البشر.
وفي حديث عن النبي حيث كان يطوف بالكعبة ويخاطبها قائلًا: «مَا أَطْيَبَكِ وَأَطْيَبَ رِيحَكِ , مَا أَعْظَمَكِ وَأَعْظَمَ حُرْمَتَكِ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَحُرْمَةُ الْمُؤْمِنِ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ حُرْمَةً مِنْكِ، مَالِهِ وَدَمِهِ وَأَنْ نَظُنَّ بِهِ إِلَّا خَيْرًا»[7] ، إنّ حرمة الإنسان أعظم من حرمة الكعبة، على الرغم من عظم شأنها ومكانتها وقدسيتها، بل إنّ من يسيء للكعبة ربما كان أقرب للمغفرة والتجاوز، منه إذا أساء لأحدٍ من الناس، فالإساءة للناس أعظم وأشدّ عند الله سبحانه.
حرمة الدم والمال والشخصية الاعتبارية
إنّ لحرمة المؤمن في الشريعة معايير ومحدّدات لا ينبغي تجاوزها بأيِّ حال. وقد أوضح النبي هذه المحددات في قوله: «ماله ودمه وأن يظن به إلّا خيرًا»، فلا يجوز بأيِّ حالٍ الاعتداء على الأموال أو الأنفس، ولا النيل من القيمة المعنوية للآخرين، من خلال إساءة الظن بهم جزافًا.
إنّ الأمة الإسلامية في عصرنا الراهن، أحوج ما تكون لإدراك القيم الدينية العالية، إزاء مراعاة حرمات البشر. خاصة في ظلّ الانتهاكات الصارخة التي تعجّ بها ساحتها. إنّ هذه الأمة التي يسطر نبيها هذه المفاهيم العظيمة المتعلقة بحرمة الناس، بات يُعتدى فيها على الناس نهارًا جهارًا، وصارت الدماء المحرمة تسفك في ساحاتها اعتباطًا، حتى إنّ المرء ليتساءل في نفسه، ما إذا كانت هذه حقًّا أمة الإسلام، وهل هذه هي الأمة التي تتلو القرآن الكريم وتردد أحاديث النبي؟ كيف تحولت إلى بؤرة ترتكب فيها أبشع الفظائع، من قطع الرؤوس وسبي النساء، ومجازر تسفك فيها الدماء، وتنتهك الأعراض، حتى لا يكاد يمرّ يوم دون تفجيرات انتحارية تحصد مدنيين أبرياء.
في اليوم العالمي للاعنف
ما أحرى بالمسلمين أن يكونوا روادًا في منهجية اللا عنف. سيّما والعالم يحتفي هذه الأيام باليوم العالمي للاعنف، المصادف للثاني من اكتوبر، الذي أقرته الجمعية العامة للأمم المتحدة سنة 2007، وهو اليوم المصادف لذكرى ميلاد الزعيم الهندي المهاتما غاندي، رائد فلسفة اللا عنف. أوليس الأحرى بنا كمسلمين أن يرتبط شعار اللا عنف بتاريخنا؟ وأن يكون اللاعنف مجسّدًا في حياتنا وواقعنا؟
إنّ من المشروع لكلّ فئة أن يكون لها تطلّعاتها، لكن ذلك لا ينبغي ولا يجوز أن يكون من خلال توسّل العنف، وارتكاب المجازر والتفجيرات الانتحارية، فهذه الأساليب الدموية ليست من المشروعية في شيء.
لقد ساهمت عوامل وأسباب عديدة في تحويل الأمة الإسلامية إلى السّاحة الأشدّ عنفًا من بين الأمم. وفي طليعة تلك العوامل، استفحال الأنظمة القمعية التي توالت على شعوب الأمة عبر تاريخها الطويل، وإلى وقتنا الراهن، لقد ساهمت الأنظمة في توليد وتنمية حالة العنف في المجتمعات الإسلامية. يضاف إلى ذلك مساهمة الحكومات الأجنبية إبان مرحلة الاستعمار التي اجتاحت البلاد الإسلامية، ولاتزال آثارها متمثلة في الاحتلال الصهيوني لفلسطين، الذي يذيق شعبها الهوان والإذلال، وهذا ما قاد إلى بروز ردود فعل أنتجت قدرًا من العنف.
غير أنّ السبب الأهمّ في تفشّي العنف في الأمة هو التفسير العنفي للدين. فقد نشأت مدرسة في أوساط المسلمين تعتمد في تفسيرها لأحكام الدين وتعاليمه على قاعدة عنفية، وتشجع على ممارسة العنف، باسم الدين وتحت شعار الإسلام، وهذا هو الأمر الأشدّ والأخطر الذي تعاني منه الأمة الإسلامية اليوم.