بين نقد الذات ولوم الآخر
الخطبة الأولى: بين نقد الذات ولوم الآخر
﴿وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّـهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلَّا أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنفُسَكُم﴾ . [سورة ابراهيم، الآية: 22].
لأن الإنسان سيكون وجهاً لوجه أمام آثار ونتائج قراراته وأعماله عاجلًا أم آجلًا، فإنه مدعو لأن يكون يقظًا وحذرًا إزاء أيّ قرار يتخذه، أو ممارسة يقدم عليها. وليس هناك من أحدٍ سيواجه هذه النتائج والآثار سوى الإنسان نفسه. ربما ينساق المرء أحيانًا خلف الرغبات والشهوات، فيقع في بعض المواقف ويرتكب بعض الممارسات، غير أنه لا يلبث أن يصاب بالصدمة حين يواجه نتائج وآثار أفعاله تلك، فيتمنى أنه لو لم يقدم على ما أقدم عليه. من هنا فالأحرى به منذ البداية ألّا يندفع خلف الرغبات والشهوات التي توقعه فيما لا يحمد عقباه.
ورد عن أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب أنه قال: «كم من شهوة ساعة قد أورثت حزنًا طويلًا»[1] ، وفي كلمة أخرى ورد عنه أنه قال: «حلاوة الشهوة ينغّصها عار الفضيحة»[2] ، ذلك أن المرء ربما يغرق في اللذائذ لحظة ممارسة الشهوات، غير أنه سرعان ما يتنغّص عليه عيشه إلى أبعد مدى فور مواجهته نتائج وآثار تلك الشهوة العابرة.
وعنه أيضًا أنه قال: «أذكروا عند المعاصي ذهاب اللذات وبقاء التبعات»[3] ، وفي ذلك إشارة إلى أن لذة الشهوات تنقضي فور انقضاء ممارستها، بخلاف ما تترك خلفها من النتائج والتبعات.
ربما يقع الإنسان في الأهواء أحيانًا نتيجة انسياقه خلف أجواء محيطة به، غير أنّ ذلك لا يعفيه من دفع ثمن أخطائه. إنّ الأجواء المحيطة بالإنسان مهما تعاظم تأثيرها في الدفع به نحو مزالق الشهوات، فإن ذلك لن يعفيه من تحمل النتائج. قد يكون هناك من يغري الإنسان ويدفعه نحو الأخطاء، غير أن هذا لن يعفيه من مواجهة نتائج أفعاله، ذلك أن عليه أن يتسلّح بالإرادة وأن يعود إلى عقله، فلا يستجيب لمن يغريه ويدفع به نحو الهاوية.
قد يسلي بعض المخطئين أنفسهم بإلقاء اللوم على الآخرين، ولن يفيدهم ذلك بشئ. فكلّ إنسان هو صاحب إرادة ولديه عقل، ولا ينبغي له أن يتنازل عن إرادته، وأن يفكر بعقل غيره.
الشيطان يتبرأ ممن أغواهم
ويسرد القرآن الكريم في هذا الصدد عددًا من مشاهد القيامة، بغرض التحذير، وإثارة اليقظة في النفوس. ومن تلك المشاهد؛ ساعة يتوجه الناس الذين أغراهم الشيطان، ووسوس لهم ارتكاب المفاسد، يتوجهون نحو الشيطان بإلقاء اللائمة عليه في إغوائهم، وتوريطهم، ساعتئذ لا يفيدهم الشيطان ولا يفعل لهم شيئًا، بل يعترف لهم بأنه الذي أغواهم وأغراهم، على اعتبار أن ذلك دوره الذي أخذه على عاتقه في الحياة، وطلب من الله أن يمنحه إيّاه، بإغواء بني البشر، واستجاب الله لطلبه امتحانًا لعباده. ويُلخّص تعالى هذا الموقف في الآية الكريمة: «وقال الشيطان لما قضي الأمر ان الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان الا ان دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا انفسكم».
والحقيقة أنّ الشيطان ليس له أدنى سلطة فعلية على الإنسان. يقول تعالى: ﴿إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا﴾، فلا مقارنة البتة بين إرادة الإنسان وكيد الشيطان، فالكفة تميل لصالح إرادة الإنسان بمراحل، سيما وأن لدى الإنسان عقلًا يهديه، ويميز بواسطته بين الخير والشر. ويقول تعالى في آية أخرى: ﴿إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ﴾ [سورة النحل، الآيتان: 99-100]، فالمشكلة الأساس تكمن في القابلية للانسياق خلف الشيطان، والانزلاق في هوة الشهوات استجابة لإغوائه، وليست المشكلة في قدرة الشيطان على بسط الهيمنة والتسلط على الإنسان.
الأمم الواعية تحاسب نفسها
إنّ ما ينطبق على الأفراد في ضرورة محاسبة الذات، ينطبق تمامًا على وضع الشعوب والأمم. ذلك أنّ الأمم الواعية، أكثر ميلًا لمحاسبة نفسها على أوضاعها وما يجري في واقعها، فحين تتعرض أيّ أمة لنكسة ما، أو تقع في كارثة، أو تواجه قضية كبرى، فإن هذه الأمة الواعية تتجه فورًا إلى نفسها، فتحاسب قياداتها وأجهزتها ووسائل إعلامها، وتفحص أنظمتها وقوانينهاومناهجها التعليمية..، وبعبارة أخرى، فإنّ المتهم الأول حينها ستكون الأمة ذاتها، هذا هو نهج الأمم المتقدمة، وهو المنهج الصحيح دون ريب. بينما تتجه الأمم المتخلفة في حال النكسات للبحث عمّن تلقي عليه باللائمة، عوضًا عن البحث عن الخلل الداخلي، والأسباب الجوهرية، المتمثلة في مناهجهم التعليمية، وثقافتهم، وأنظمة الحكم المتسلطة عليهم، والحالة العامة السائدة عندهم. وهكذا تميل الشعوب المتخلفة إلى إلقاء المسؤولية عن إخفاقاتها على عاتق الأعداء أو الاستعمار، وما إلى ذلك من أعذار لا تنتهي.
وإنّنا لا نبرئ الأطراف الأجنبية من التآمر والعمل العدائي ضد الأمة؛ لأنها تبحث عن مصالحها وأطماعها، إلا أنّ المسؤولية الأولى والأخيرة تقع على الأمة التي وفّرت القابلية، وأعطت الفرصة لتآمر الأمم الأخرى عليها. فالدول الكبرى لا تفتأ تبحث عن بلدان تكون أسواقًا لمنتجاتها، وتبسط عليها هيمنتها، وتجعلها تسير في فلكها، إلّا أنّ السؤال المحوري هنا، هو عن سبب وجود القابلية عند الأمة لتنزو عليها الأمم الطامعة.
إنّ أيّ أمة درجت على تحميل الخارج المسؤولية عن نكساتها وإخفاقاتها، فإنها أمة تفتقد الإرادة الجادة لعلاج مشاكلها. إنّ من يبحث جادًّا عن معالجة مشكلاته، مدعو إلى تلمّس الثغرات في واقعه، أما من ينشغل بإلقاء اللوم على الآخرين، فهو ليس صادقًا في مواجهة المشاكل.
إنّ التعاليم الدينية تنزع إلى تربية الإنسان على الاتجاه نحو محاسبة النفس. وأن يلتزم غاية الحذر عند اتخاذ قراراته، والإقدام على أعماله.
الخطبة الثانية: أممٌ تنتج العلم وأخرى تعيش الجهل
ورد عن أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب أنه قال: «اكتسبوا العلم يكسبكم الحياة»[4] .
سخّر الله تعالى للبشر مقدرات الكون، وجعل السبيل إلى اكتشافها اكتساب العلم. فقد أودع تعالى في هذا الكون ثروات هائلة، وخلق الإنسان ليتنعم بهذه الثروات، وليستمتع بها، فلم يخلق الله هذه الخيرات عبثاً، لتترك دونما استثمار واستغلال، يقول تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا﴾، وفي آية أخرى: ﴿اللَّـهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ * وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ﴾[سورة إبراهيم، الآيتان: 32-33].
غير أن الطريق للاستفادة من ثروات الكون هو التعرف عليها، واستكشافها من خلال العلم، وبمعرفة الأنظمة والسنن التي تحكم هذا الكون، وهذه الحياة، فكلّما كان الإنسان أكثر علمًا ومعرفة، كان أقدر على الاستفادة والاستثمار.
وقد منح الله تعالى الإنسان القدرة على فهم واكتشاف ثروات الكون. يقول تعالى: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا﴾، حيث جاء في جملة من الروايات، عن تفسير معنى الأسماء الوارد في الآية الكريمة، بأنها أسماء الخلق والوجود. فالإنسان مدعو إلى التأمل في الكون والتعرف على أسرار الحياة، قال تعالى: ﴿قُلِ انظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾، ويقول تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّـهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ﴾، وفي ذلك دعوة إلى النظر في بدايات الخلق، ونشأة مختلف الكائنات.
من هنا نفهم كلمة أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب حين قال: «اكتسبوا العلم يكسبكم الحياة»، ذلك أنّ العلم يجعل الحياة أكثر تقدّماً، ويجعل كلّ مقدرات الدنيا مكسباً في متناول اليد. وفي كلمة أخرى له قال: «بالعلم تكون الحياة»[5] ، وفي ثالثة قال: «العلم حياة»[6] .
العلم وتطوير الحياة
لم يَعُدْ سرًّا في وقتنا الراهن ما للعلم من دور حاسم في تغيير وجه العالم، وانعكاس ذلك على مختلف مناحي الحياة. فعلى المستوى البشري، كان متوسط عمر الإنسان في الأزمان الغابرة قصيرًا نسبيًّا، وبالكاد كان يتجاوز الثلاثين إلى الخمسين سنة، بينما ارتفع متوسط عمر الإنسان في المجتمعات الحديثة إلى أكثر من ذلك بكثير، حتى أنّ هناك توقعات بأن يرتفع متوسط عمر البشر إلى تسعين عاماً بحلول العام 2050، خاصة وأن هناك مجتمعات متقدمة في وقتنا الراهن، بلغ متوسط العمر فيها أكثر من 83 عاماً كالمجتمع الياباني. ومعلوم أن متوسط الأعمار يتفاوت من مجتمع لآخر، تبعاً لجودة الخدمات الطبية، والتقدم العلمي والتكنولوجي، وما يرتبط بذلك من وسائل الرفاهية والخدمات، التي سهّلت حياة البشر.
وعلى المستوى الخدمي، كم كان الإنسان قديماً يحتاج إلى جهد مُضْنٍ للقيام بأبسط الأشياء. فقد كان بحاجة إلى مدة طويلة ل مجرد إيصال رسالة إلى منطقة أخرى بعيدة، بينما لم يَعُدْ يحتاج الناس اليوم لأكثر من الضغط على أزرار هواتفهم النقالة، ليتخاطبوا مع أصدقائهم على الطرف الآخر من العالم، أو يبعثوا لهم أيّ رسالة يريدون. والطريف أن البحوث العملية تجري اليوم حثيثاً للوصول إلى تقنية ما، يجري من خلالها ـ بضغطة زر ـ إرسال وتبادل الأشياء لحظيًّا بين الناس، من البضائع والطرود أو الهدايا، وكلٌّ من مكانه، بالرغم من بعد المسافات. ولعلّ شيئاً من ذلك يحدث في يوم من الأيام، كما سبق وأن حدث فعليًّا، كما يشير إلى ذلك القرآن الكريم في سرده لقصة نبي الله سليمان، قال تعالى على لسان سليمان مخاطباً قومه بشأن عرش بلقيس: ﴿قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ * قَالَ عِفْرِيتٌ مِّنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ * قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ﴾[سورة النمل، الآيات: 38-40]، وقصة الإتيان بالعرش هذه، تشبه تماماً كما لو كنا اليوم نحدّث بدويًّا عاش قبل ألف سنة بقدرتنا الفورية على إرسال ما نريد من رسائل، إلى من نشاء عبر العالم. لذلك يمكن أن نفترض بأن إرسال وتبادل الأشياء لحظيًّا بين الناس أمر وارد الحدوث، مع تطور التقنيات العلمية.
أمم تنتج وأخرى تستهلك
إنّ عالمنا اليوم ينقسم إلى صنفين من الأمم والشعوب، شعوب متعلمة منتجة، وأخرى مستهلكة تستمرئ واقع الجهل. فهناك شعوب دأبها البحث العلمي، والاستكشاف، والإنتاج الصناعي، فتحقق بذلك إنجازات علمية، تمثل مكاسب عظيمة للبشرية. وهناك شعوب تغرق في الجهل، وتستمرئ العيش المتخلف، حتى أصبح الجهل مصدر راحة لهم، لدرجة دفعت بعضهم لأن يشكروا الله أن سخّر لهم من يقوم بالمخترعات والاكتشافات التي تأتيهم على طبق من ذهب، فيما هم يضعون رجلًا على رجل ولا يحرّكون ساكنًا!.
ولعلّ ما هو أسوأ لدى بعض الشعوب، هو انتشار تيارات الخراب والتشدّد الديني في أوساطها. ففي حين تتجه الشعوب المتقدمة نحو التعمير والإنتاج، لا تزال الشعوب المتخلفة ترزح تحت رحمة التيارات التخريبية القائمة على القتل، وسفك الدماء، والتفجيرات، وافتعال النزاعات، وشتّان بين هذين الصنفين من الأمم والمجتمعات.
لقد تابع العالم قبل أيام، مناسبة الإعلان عن الفائزين بجائزة نوبل للعلوم الطبية. هذه الجائزة المهمة التي أنشأها الكيميائي السويدي الفريد نوبل (1833-1896)، وهو الرجل نفسه الذي اخترع مادة الديناميت المتفجرة، وأنشأ مصانع كثيرة في أنحاء العالم، وأصبح خلال سنوات قليلة أحد أبرز أثرياء العالم، لكن هاله استغلال اختراعه ذاك في الفتك والتدمير في الحروب، بعد أن كان يعتقد بأن اختراعه سيكون مخصّصاً للأغراض العلمية، فأصيب جرّاء ذاك بنوبة حزن عميقة، يقال أنها كانت سبباً في إنشائه صندوقًا، تدعم أرباحه الجائزة التي لا تزال تحمل اسمه حتى اليوم.
وقد خصّص نوبل مبلغًا ماليًّا مجزيًا بمعايير زمنه مقداره تسعة ملايين دولار، لإنشاء ذلك الصندوق الذي خصّص جزءًا من أرباحه على شكل جوائز سنوية، قيمتها تزيد على المليون دولار، تُقدّم لكلّ مخترع أو عالم يبتكر ما من شأنه المساهمة في خدمة البشرية إجمالًا، في الطب والفيزياء والكيمياء والآداب والاقتصاد، وأخرى مخصّصة للمساهمين في السلم العالمي.
وقد منحت جائزة نوبل للطب هذه السنة، مناصفة لعلماء ثلاثة، لقاء توصلهم لاكتشاف نظام تحديد المواقع في الدماغ البشري. وجوهر الكشف العلمي هذا، هو الوقوف على الطريقة التي يستطيع الدماغ البشري من خلالها معرفة وتحديد المكان الذي يتواجد فيه الإنسان، بخلاف ما يجري مع مريض الزهايمر مثلًا، الذي يفتقد هذه القدرة، وكذلك الحال مع الطفل الصغير أيضًا. فهناك خلايا معينة في المخ هي المسؤولة عن تحديد الموقع الجغرافي للإنسان، شبيه بنظام تحديد المواقع العالمي (GPS)، ومن شأن النتائج التي توصل لها العلماء، أن تساعد في تحديد السبب وراء عدم مقدرة المصابين بمرض الزهايمر، على التعرف على الأماكن المحيطة بهم. ويتوقع أن يكون هذا الاكتشاف بمنزلة فتح علمي يخدم البشرية. وقد نال الجائزة لقاء هذا الكشف المتميز العالم الأمريكي المقيم في بريطانيا جون أو كيف، مناصفة مع العالمين النرويجيين ادفارد موزر، وزوجته مايبريت موزر.
ماذا يعيقنا عن الإنجاز؟
في مقابل ذلك، لا تزال مجتمعاتنا أبعد ما تكون عن حقل الإنتاج العلمي. وليس السبب أن عقول أبناء شعوبنا وقدراتهم الفكرية تقل عن الآخرين، بل يكمن السبب الأساس في ضعف التوجه، فما أحوجنا لتشجيع أبنائنا على التعمق في طلب العلم، وأن يواصلوا مسيرة دراساتهم العليا، حتى يصبحوا علماء يقدمون للبشرية الجديد في مجال العلوم المعاصرة.
إنّ حكومات البلاد الإسلامية مطالبة بتأسيس بنية علمية راسخة، من خلال إنشاء الجامعات، ومراكز الأبحاث والدراسات، التي تخرّج العلماء، عوضًا عن الاكتفاء بتخريج الموظفين.
ينبغي أن تدفع جميع الفاعليات الاجتماعية والدينية والإعلامية شباب الأمة باتجاه التخصص العلمي. ولو أخذنا الخطاب الديني السائد مثالًا، فإننا نجد كم يدفع هذا الخطاب باتجاه الالتزام الديني، وأداء العبادات، وهذا أمر مطلوب في حدّ ذاته، غير أننا ينبغي أن نلحظ في الوقت عينه، أن القرآن الكريم الذي يحضّ على إقامة الصلاة، هو نفسه يأمرنا بالنظر في آفاق الكون، وهذا الكتاب الذي يأمر بالصيام وأداء الحج، هو نفسه الذي يأمر بالتأمل في نظام الخلقة والوجود، لذلك يأتي السؤال هنا؛ لماذا لا نأخذ بأوامر القرآن الكرام في هذه المجالات أيضًا؟
إنّ جزءًا كبيرًا من الثقافة الشائعة في بلادنا الإسلامية ثقافة حشو ولغو. وانشغال كبير بقضايا التاريخ، وانخراط مبالغ في القضايا النظرية، التي لا تمت للحياة المعاصرة بصلة، ويذكرنا ذلك بالرجل الذي سأل الإمام موسى بن جعفر الكاظم: الكفر أقدم أم الشرك؟، فردّ عليه الإمام بقوله: «ما لك ولهذا»[7] ، وكأنما أراد الإمام أن يقول له؛ وما شأنك بهذا الموضوع وماذا سيفيدك؟ أوليس الأولى أن يتأمل الإنسان في البحث عن نظم الحياة، وأسرار الكون، ومفاتيح العيش الرغيد له ولمجتمعه؟
إنّ شعوبنا بحاجة ماسّة إلى ثقافة جديدة. وألّا ننشغل بهذه الأمور الجانبية، على حساب معرفة نظام الحياة. ولو تأمل الإنسان في آيات القرآن الكريم، وأجرى مقارنة بين الآيات التي تدعو إلى التأمل في الطبيعة، والنظر والتعلم والتعرف، وبين الآيات التي تتناول الأحكام الفقهية، لخلص إلى أنْ لا مقارنة من حيث الكمّ، فالفقهاء يقولون، إن آيات الأحكام في القرآن الكريم لا تتجاوز 500 آية، في حين يتضمن القرآن الكريم آلاف الآيات التي تتناول الكون والحياة والطبيعة، فما الذي يجعلنا نقصر انشغالنا بمجموعة آيات من القرآن الكريم ـ على أهميتها ـ، ونترك بقية الآيات؟