شرف خدمة الحسين
الخطبة الأولى: شرف خدمة الحسين
تتّسم المجتمعات الحية بروح المبادرة. وذلك ما يتمظهر في ارتفاع منسوب الحافزية لدى الأفراد إزاء المصلحة العامة، وخدمة المجتمع، فحين تلمع فكرة إيجابية لعمل مفيد، في ذهن أيّ فرد من هذا المجتمع، فإنه سرعان ما يبادر للتصدي لتطبيق تلك الفكرة على أرض الواقع، إنّ المجتمع الحيَّ غالبًا ما يتنافس أفراده لعمل الخير، فكلّ واحد منهم يحاول أن يسبق الآخرين، حتى مع علمه بأن الآخرين يتحفزون للقيام بذات العمل، فهو لا يقبل أن يسبقه الآخرون لعمل الخير، وهذا عين ما تشير إليه الآية الكريمة في وصف المؤمنين: ﴿وَفِي ذَٰلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ﴾، أي التنافس في أعمال الخير.
إنّ السمة الأبرز في المجتمعات المتخلفة هي انتظار الأفراد أحدهم الآخر للقيام بالعمل، ولربما انسحب ذلك السلوك حتى على أبسط الأشياء، إذ لا يعدم المرء من رؤية جماعة جلوس في مكان وقد شعروا بالحر، فيتكاسل كلّهم عن تشغيل جهاز التكييف، متمنّيًا كلّ واحد منهم أن يقوم الآخر بفعل هذا الأمر!.
عوائق المبادرة للخير:
أما العامل الآخر الذي يمنع الإنسان من فعل الخيرات: فهو استصغاره لنفسه عن القيام ببعض أعمال الخير. فبخلاف العائق الأول الذي يستصغر فيه المرء العمل، إنه هنا بإزاء عائق من نوع آخر، وهو استصغار نفسه أمام العمل، فيستصعب القيام بعمل يراه كبيرًا، ويرى بأنّ غيره ومن هم أكبر منه أجدر أن يقوموا بذلك، وهذا أيضًا من إيحاء الشيطان. إنّ على المرء أن يبادر بنفسه إلى عمل الخير، وقد ورد في هذا الشأن: «المرء حيث وضع نفسه»[3] ، فما دام المرء يجد في نفسه إمكانية القيام بعمل الخير، فلا ينبغي أن يسمح للشيطان أن يثبّط من عزيمته، فكم من أفراد بادروا للقيام بأعمال كبيرة، لم يكن المرء ليحسب للوهلة الأولى أنهم قادرون على القيام بها، فإذا بهم يفعلون وينجزون ما تقاعس عنه الكثيرون، وذلك ما هو ملحوظ في العديد من الأعمال والمشاريع الاجتماعية والدينية والثقافية، التي لم تكن لتأخذ طريقها للنور لولا أن انبرى أمثال هؤلاء الأفراد للقيام بها، بعد أن نالوا التوفيق من ربّ العالمين. وهذا عين ما أشار إليه أمير المؤمنينبقوله: «ولا يقولنّ أحدكم أنّ أحدًا أولى بفعل الخير منّي، فيكون والله كذلك»، ذلك أنّ انسحاب المرء من أداء عمل الخير، إنما يفسح المجال لغيره للقيام بذلك، فهو إقرار ضمني بأفضلية الآخر عليه.
عاشوراء فرصة لأعمال التطوع:
لا بُدّ وأن يقف كلّ فردٍ من أفراد المجتمع، موقف النشط المتفاعل حيال مناسبة عاشوراء. بأن ينخرط في أيّ مجال من مجالات العمل التطوعي، عن طريق المساهمة الفكرية، ورفد العاملين بالآراء والأفكار والبرامج المقترحة، سيمّا وأننا لا نزال نراقب كيف يساهم أبناؤنا بالمزيد من المبادرات الإبداعية عامًا بعد عام. إننا جميعًا مدعوون للمساهمة الفعالة على كلّ المستويات، في تطوير الفعاليات المصاحبة لمناسبة عاشوراء، على نحو أفضل. ولا ينبغي بأيِّ حالٍ أن يستصغر أحد أو يحتقر فكرة ما، كما لا يجوز أن يستصغر نفسه من أن يساهم ولو بفكرة.
فمن لديه القدرة على المساهمة المباشرة في خدمة المجالس الحسينية، فدونه ذلك، ومن يستطيع المساهمة بطباعة الكتاب الحسيني المخصص للتوزيع على روّاد المجالس الحسينية فليفعل، ومن يبتغي دعم الفضائيات التي تغطي المناسبة فالمجال مفتوح أمامه، وكذلك المساهمة في الإطعام، أو المشاركة في المواكب. المطلوب على كلّ حالٍ بذل الجهود لإحياء المناسبة على أفضل وجه، وألّا يفوّت أحدٌ على نفسه شرف خدمة أبي عبدالله الحسين .
ملء الفراغات وسدّ الثغرات:
ومن المهم جدًّا المبادرة إلى سدّ الفراغ، في حال وجود شاغر، أو نقص، أو ثغرة لم يلتفت إليها أحد، ضمن مختلف الفعاليات العاشورائية. ذلك أنه لا تعدم بعض الفعاليات من النقص، إنْ على المستوى الاجتماعي أو الإعلامي أو الثقافي. فمثلاً مسألة الازدحام المروري، حيث تبدو الحاجة ماسّة حينها لمن ينبري لتنظيم حركة مرور المركبات، وتسهيل حركة الناس. والحال نفسه يجري مع مسألة النظافة، ذلك أنه من المهم إبراز مناسبة عاشوراء على أفضل وجه، فلا غضاضة ولا عيب، بل إنّه من الشرف أن يقوم جماعة على تنظيف الشوارع التي تسلكها مواكب العزاء، أو تلك التي تعجّ بالمضائف والحسينيات وحركة الناس، فهذا مما ينبغي التوجه إليه، ولا يقولنّ أحدٌ إنّه أكبر من أن يقوم بهذا العمل، أو يستصغر أيّ جانب من جوانب الخدمة في هذه المناسبة العظيمة.
الخطبة الثانية: كيف نفهم موقف الآخر؟
﴿أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَـٰذَا ذِكْرُ مَن مَّعِيَ وَذِكْرُ مَن قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُم مُّعْرِضُونَ﴾ [سورة الأنبياء، الآية: 24].
حين يؤمن الإنسان بفكرة أو توجه ما، وتمتلئ نفسه ثقة وقناعة بها، فإنّه غالبًا ما يقف متسائلًا عن مبررات الموقف المخالف لدى الآخرين، وعن سبب نأيهم عن الإيمان بذات الفكرة التي يؤمن بها، ويركن إلى صحتها، ويثق بأدلتها، ناهيك عمّا يعتقده فيها من وضوح وجلاء تام.
منهجية الحوار
ويعتمد المنحى الأول في التعامل مع المختلفين في الرأي والفكر، على اتخاذ الحوار منهجًا وطريقة. وذلك ما يفترض الندية مع الآخر بداية، فأيّما طرف يبتغي الحوار، وهو ينظر لنفسه سلفًا باعتباره صاحب فكر وباحث عن الحقّ، فهو بالضرورة مدعو للنظر إلى الآخر على نفس المنوال. إنّ حالة الندية المتوخّاة بين المتحاورين، تتضمن بطبيعة الحال النأي عن الافتراض بأنّ أحد الطرفين أكثر أهمية، أو أعلى كعبًا من الآخر. ويمكن الوقوف على منهج القرآن الكريم في هذا الشأن، حين أمر الله سبحانه نبيّه محمدًا : بأن يخاطب كفار قريش، وفق المنطق الذي تتناوله الآية الكريمة ﴿قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّـهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَىٰ هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ﴾ [سورةسبأ، الآية:24]. هكذا يجري منهج الحوار، فكلا الطرفين لديه رأي مختلف عن الآخر، والسبيل إلى فضّ الخلاف هو الحوار والنقاش في مورد الاختلاف، على افتراض إمكانية ورود الصواب والخطأ على كلا الطرفين، حتى مع الاستبعاد الكلي لورود الخطأ على النبي ، وإنما أراد تعالى أن يجعل هناك حالة من الندية بين الطرفين المتحاورين.
التعالي على الآخرين
أما المنحى الآخر: فهو التعالي على الآخرين. إنّ المتعالين على غيرهم يفترضون أنهم الوحيدون القادرون على التفكير، وأنهم الأكثر حرصًا على بلوغ الحقّ، فيما ينظرون للآخرين باعتبارهم قصّرًا، أو أنهم معاندون يعرفون الحقّ لكنهم يصرّون على مخالفته.
إنّ آيات القرآن الكريم تسلك في تربية الإنسان منحى آخر، وذلك بأن تفرض على المرء أن يتفهم حقيقة موقف المخالفين، فليس كلّ مخالف في الدين أو المذهب أو الراي، هو معاند ومصرّ على ركوب الخطأ، واتّباع الباطل، وإنما قد تكون لدى الآخر براهينه وأسبابه، التي لا يمكن الوقوف عليها وفهمها إلّا من خلال الحوار. وإذا شئنا أن نذهب بعيدًا، فلنفترض أن هذا الآخر واقع في الاشتباه، فقد أراد بلوغ الحقّ إلّا أنه ضل الطريق. وهذا عين ما قاله أمير المؤمنين علي بن أبي طالبفي الخوارج: «فَلَيْسَ مَنْ طَلَبَ الْحَقَّ فَأَخْطَأَهُ كَمَنْ طَلَبَ الْبَاطِلَ فَأَدْرَكَهُ»[4] ، فقد كانيرى أن الخوارج إنما قاموا بما قاموا به طلبًا للحقّ، إلّا أنهم أخطؤوه، فيما طلب قوم معاوية الباطل فأصابوه.
ليس كلّ مخالف معاندًا
لقد خطّ القرآن الكريم منهجًا واضحًا في التعامل مع المختلفين. ويتضح ذلك جليًّا في قوله تعالى: ﴿أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَـٰذَا ذِكْرُ مَن مَّعِيَ وَذِكْرُ مَن قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُم مُّعْرِضُونَ﴾، ذلك أنه مع جلاء الحقّ الذي عليه النبي ، القائم على وحدانية الله والعبودية له تعالى اسمه، لكنه مع ذلك يتوجه إلى الكفار طالبًا الحوار معهم، وداعيًا إيّاهم إلى تقديم البراهين على مزاعمهم. إنّ الآية الكريمة تقرر حقيقة لافتة في قوله تعالى: ﴿ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُم مُّعْرِضُونَ﴾ [سورة الأنبياء، الآية:24]، ذلك أنّ أكثر أتباع الأديان والمذاهب، ومختلف العقائد والآراء، لا يعلمون الحقّ، إنما هناك قلة من هؤلاء ممن يعلمون الحقّ لكنهم معاندون، وحالة العناد هذه أكثر ما تصيب الزعامات، ومن لهم مصلحة مباشرة في الإصرار على آراء وأفكار معينة، وإنْ كانت بعيدة عن الحقّ، أما عامة الناس فهم في الغالب إمّا مضللون أو مقصرون، ومع أنّ هذا لا يعفيهم من البحث عن الحقّ، إلّا أنه لا يمكن وصفهم بالعناد، حيث لم يكن الحقّ يومًا واضحًا عندهم ليصرّوا على مخالفته.
تقبّل الاختلاف
إنّ هناك جملة من النصوص الدينية التي تدفع الإنسان إلى التعايش مع المختلفين معه فكرًا ورأيًا. ومردّ ذلك إلى أنه من المتعذّر على أيٍّ كان أن يفرض آراءه وأفكاره على الآخرين، مهما بلغت درجة اقتناعه بها. فقد جاء في الآية الكريمة: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾، وتشير الآية على نحو قاطع إلى عدم إمكانية فرض الرأي على الآخرين. فقد يكون لدى الآخرين أدلتهم التي اقتنعوا بها، وليس من المتوقّع أن تتفق جميع الآراء حول فكرة معينة.
ولعلّ أقرب مثال على ذلك هو اختلاف الفقهاء في آرائهم وفتاواهم الدينية، حتى ضمن المذهب والمدرسة الواحدة، بل حتى لو كانوا متواجدين في المكان عينه، كما نرى ذلك جليًا في الحوزات العلمية، التي يتجاور فيها الفقهاء، حيث يتجه كلٌّ منهم لتقرير بحثه العلمي باستخدام أدلته ومبانيه التي يرجع إليها ويرى أرجحيتها، دون أن يطلب أن يتنازل أحد الفقهاء عن آرائه لصالح الآخر، ولا يمكن اتهامهما أو أحدهما بالمعاندة، سيما إذا بذل الفقيه ما في وسعه للتوصل للحق فهو معذور، وكما ورد في الحديث: «إذا اجتهد فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر واحد»[5] .
إنّ المنهج القرآني في استيعاب حالة الاختلاف، ينبغي أن يمنحنا سعة الأفق، ورحابة الصدر في التعامل مع الاختلافات التي تنشأ على نحو طبيعي في كلّ مجتمع بشري. إنّ هناك صنفًا من الناس تتضخم عندهم الاختلافات الجانبية، حتى يبلغ عندهم حدّ الطعن في تديّن ونزاهة المختلفين معهم، تارة تحت مزاعم تمييع الدين، وأخرى تحت شعار مخالفة العقيدة، والخروج على الملة، وثالثة بدعوى العمالة والخيانة. إنّ التسرّع في طعن الناس في تدينهم ونزاهتهم يأتي بخلاف المنهج القرآني. ويأتي السؤال هنا عن سبب غياب الافتراض بأنّ للآخرين أدلتهم، أو حملهم على الاشتباه في الحدّ الأدنى. إنّ مردّ هذه النزعة المتسرّعة في النيل من الآخرين هو ضيق الأفق، المخالف تمامًا لمنهج القرآن الكريم.
اتّهام الناس في أديانهم
وقد بلغ ضيق الأفق بالبعض أن يُخرج الناس من دائرة الدين والمذهب، ويحرمهم الجنة، ما لم يوافقوا رأيه في فكرة معينة، أو ممارسة طقس مختلف بشأنه.
ومما يذكر في هذا الشأن، أن المسيحيين الكاثوليك، كانوا يعتقدون في القرون الوسطى، أنّ الجنّة لا يدخلها إلّا من اغتسل في صغره غسل التعميد الكنسي، وتحديدًا على يد الكاهن، وفي داخل الكنسية، ليكون بذلك مسيحيًّا حقًّا، وبناءً على ذلك فإنّ كلّ من لا يجري عليه هذا الطقس فهو لا يدخل الجنة، بما في ذلك الأنبياء السابقون، كنبي الله إبراهيم وموسى، حتى مع احترامهم لهما واعترافهم بنبوتهما، غاية ما هناك أن يتوسّط لهما، نبيّ الله عيسىفيدخلهما معه الجنة، كلّ ذلك لأنّهما لم يغتسلا غسل التعميد الكنسي[6] !.
إنّ الانسان المؤمن ينبغي أن يكون واسع الأفق، وأبعد ما يكون عن اتّهام المختلفين معه، في دينهم ونزاهتهم. بل يلتمس للآخرين الأعذار والأسباب، التي دفعتهم لتبني قناعة يختلف معهم بشأنها.
إنّ أئمة أهل البيت كثيرًا ما كانوا يحثّون شيعتهم على احترام بعضهم بعضًا، حتى ورد في الرواية عن الإمام الصادق : «ما أنتم والبراءة، يبرأ بعضكم من بعض، بعض المؤمنين أكثر بصيرة من بعض، وبعضهم أكثر عبادة من بعض، وبعضهم أنفذ بصيرة من بعض، وتلك هي الدرجات»[7] . إنّ علينا أن نؤكّد أهميّة التحلّي بسعة الأفق، والتسامح مع المختلفين، وتفهّم موقف الآخرين، حتى لا نساعد على تشظّي مجتمعاتنا وزرع الخلاف بين المؤمنين.