لا تظلم من تكره
في القرآن الكريم نجد نوعين من الأوامر الإلهية:
الأول: يرتبط بعلاقة الإنسان بربه كالإيمان بالله وبرسوله واليوم الآخر، وأداء العبادات، وذكر الله ودعائه..
الثاني: يرتبط بعلاقة الإنسان مع الناس، كبرّ الوالدين، وحسن الجوار والصحبة، ورعاية المحتاجين، واحترام حقوق الآخرين، وعدم العدوان عليهم.
وكلا النوعين من الأوامر الإلهية يجب الالتزام به، لكننا نلاحظ أن معظم أوساط المتدينين تولي اهتمامها الكبير للنوع الأول من تلك الأوامر الإلهية، بينما لا تحظى الأوامر التي ترتبط بالعلاقة مع الناس بنفس الدرجة من الاهتمام.
فالحرص على أداء الصلاة أكثر من الحرص على أداء الأمانة، والحذر من ارتكاب مبطلات الصوم أشدّ من الحذر من ارتكاب انتهاكات حقوق الآخرين، والاهتمام بإتقان الوضوء أكبر من الاهتمام بإتقان العمل الوظيفي.
مع أنّ الأوامر الإلهية صادرة في الجانبين، وهي في الجانب الثاني أكثر تأكيدًا، حيث تشير النصوص الدينية إلى أن الله تعالى يغفر لمن يشاء ما أذنب تجاه ربه، عدا الشرك به، لكنه تعالى لا يتجاوز عن انتهاك حقّ أحد آخر إلا بتنازله.
جاء عن رسول الله أنه قال: (الظلم ثلاثة: فظلم لا يغفره الله، وظلم يغفره الله، وظلم لا يتركه، فأما الظلم الذي لا يغفره الله فالشرك، قال الله تعالى: ﴿إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾، وأما الظلم الذي يغفره الله تعالى فظلم العباد أنفسهم فيما بينهم وبين ربهم، وأما الظلم الذي لا يتركه الله فظلم العباد بعضهم بعضًا حتى يدين بعضهم من بعض) [1] .
ومثله ورد عن الإمام علي في نهج البلاغة في الخطبة (176).
ويبدو من النصوص الدينية أن التعامل مع عباد الله يكشف عن مدى صدق العلاقة مع الله، فليس صادقًا من يعتدي على عباد الله ويظلمهم مهما حسنت عقيدته وزادت عبادته:
وفي الحديث ذُكرت امرأةٌ عند رسول الله وقالوا: إنّ فلانة تصوم النهار وتقوم الليل وتؤذي جيرانها قال: هي في النار) [2] .
وعن أبي عبد الله قال: (لا تغتروا بصلاتهم ولا بصيامهم، فإنّ الرجل ربما لهج بالصلاة والصوم حتى لو تركه استوحش، ولكن اختبروهم عند صدق الحديث وأداء الأمانة) [3] .
التعامل مع الخصوم:
ومن أكثر الموارد حساسية في العلاقات بين الناس التعامل مع الخصوم، فليس فخرًا حسن العلاقة مع الأحباء والأصدقاء، لكن المحك والامتحان الحقيقي هو تعامل الإنسان مع من يكرهه، لأيّ سبب كان، لاختلاف ديني أو سياسي أو اجتماعي.
إنّ كراهتك لأحدٍ لخصومتك الفكرية أو المصلحية، لا تبرر لك العدوان عليه، والبخس لشيءٍ من حقوقه، وهو ما تصرّح به الآية الكريمة: ﴿وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا ۚ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ﴾[سورة المائدة، الآية: 8].
﴿يَجْرِمَنَّكُمْ﴾ أي لا يحملكم ولا يدفعكم، ﴿شَنَآنُ قَوْمٍ﴾ أي بغض قوم وعداوتهم.
وورد عن الإمام عليّ أنه قال: (أعدل الناس من أنصف من ظلمه) [4] .
ومن المناسب أن نستحضر بعض الموارد والمشاهد التي تمثل مصاديق لهذا الامتحان والاختبار.
في موقع القضاء والحكم:
1. في موقع القضاء والحكم، حين ينظر القاضي قضية بين طرفين، أحدهما أقرب إليه من الآخر في الانتماء العقدي، أو التوجه السياسي، أو التصنيف الاجتماعي، فإنّ عليه الحذر من تأثير ميوله النفسية على الحكم الذي يقضي به، والقرار الذي يصدره.
يقول الله تعالى: ﴿فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّـهِ﴾[سورة ص، الآية: 26]
إنّ اتّباع الهوى في الانحياز في الحكم ضد المخالف، أعظم وأخطر عند الله، من اتّباع الهوى في ترك عبادة، أو ارتكاب معصية فردية.
ويقول تعالى: ﴿إِنَّ اللَّـهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ﴾[سورة النساء، الآية 58].
وجاء في وصية أمير المؤمنين لشريح القاضي: >ثمّ واسِ بين المسلمين بوجهك ومنطقك ومجلسك حتى لا يطمع قريبك في حيفك، ولا ييأس عدوّك من عدلك<[5] .
أداء الشهادة:
2. حين يحضر الإنسان حادثة، أو يكون شاهدًا على أمر، فعليه أن يؤدي شهادته بحيادية، ولا ينحاز لصالح من يحب، أو ضد من يكره، فتكون شهادته زورًا، إن الله تعالى يقول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّـهِ وَلَوْ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ ۚ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّـهُ أَوْلَىٰ بِهِمَا ۖ فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَىٰ أَن تَعْدِلُوا ۚ وَإِن تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّـهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾[سورة النساء، الآية: 135]
إنه تهديد ووعيد إلهي، لمن ينحاز في شهادته، أو يتكتم عليها، لصالح ذاته، أو أعزّ الناس عليه والديه، أو لأحد من أقربائه، أو لمن يراعي مكانته الاجتماعية، فالله خبير بحقائق الأمور، وسيحاسب على هذا الانحياز.
اختيار وتقويم الموظفين:
3. من يكون في موقع اختيار الموظفين لجهاز حكومي، أو مؤسسة أهلية، عليه أن يلتزم النظام والقانون في تطبيق مقاييس ومعايير الاختيار، فلا يقدم من يحب على غيره الأكفأ، أو الأسبق طلبًا، محاباة له، وجورًا على حقّ الغير.
وكذلك في مجال تقويم الموظفين، ومنح الترقيات والامتيازات، على المسؤول أن يتقي الله في بخس حقّ أحد، ومحاباة آخر، حيث يحصل كثيرًا أن يتأثر تقويم الموظف أو ترقيته بموقف مديره منه، فإذا كان يرتاح له أو من جماعته، فليبشر بالخير، أما إذا كان الموظف من غير جماعته، أو لا يرتاح له نفسيًّا، فسيناله الحيف والبخس لحقّه.
في حدود دائرة النزاع:
4. حين يدخل الإنسان نزاعًا مع أحد، فعليه أن يواجهه في دائرة النزاع، ولا يتجاوزها إلى الدوائر الأخرى، فيكون معتديًا، فإذا كان النزاع حول موضوع مالي، كما قد يحصل بين الورثة، أو الشركاء، أو المتعاملين في قضايا مالية مختلفة، فلا ينبغي تحويله إلى خلاف ديني، أو قبلي، أو اجتماعي، ولا يجوز له أن ينسب للآخر ما ليس فيه، وينكر إيجابياته الواقعية.
ومؤسف أن نجد مثل ذلك أحيانًا حتى في نزاع بين زوجين، على قاعدة (حبّ وقول وأبغض وقول) بأن تنسب الزوجة إلى زوجها كلّ سوء، وتجرّده من كل خير، وكذلك يفعل الزوج تجاه زوجته.
وهذا ما نراه أيضًا يحدث بين بعض الأصدقاء إذا اختلفوا، وافترقوا، حيث يتّهم الواحد الآخر بكل سوء، وينشر غسيله على الملأ.
عند الاختلاف الفكري والسياسي:
5. في موقع الاختلاف الفكري والسياسي، يمكنك تفنيد الرأي الآخر، ومعارضته، وترجيح رأيك عليه، ولا يصح لك شخصنة الخلاف، باتّهام الطرف الآخر بشتى التهم، والتشكيك في نياته، وتشويه سمعته، فهذا كله ظلم وتجاوز للعدل.
وتعاني مجتمعاتنا في هذا الزمن من هذه الظاهرة الخطيرة، فقد اتّسعت رقعة الاهتمام بالشأن الفكري والسياسي والاجتماعي، وتوفرت فرص التعبير عن الرأي، كمواقع التواصل الاجتماعي، مما دفع البعض لاستغلال ذلك في التشهير والتجريح، وإسقاط شخصيات الآخرين، على خلفية تغاير الآراء والمواقف.
ويمارس البعض مثل هذا الدور القذر بعنوان الدفاع عن العقيدة، ومواجهة البدع، وهل يكون الدفاع عن الدين بالعدوان على الآخرين، والله تعالى يقول: ﴿وَلَا تَعْتَدُوا ۚ إِنَّ اللَّـهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾.
ثم هل يجوز سوء الظنّ بالآخرين، واتّهام نيّاتهم؟ وقد عاتب رسول الله ذلك الصحابي الذي قتل من أعلن إسلامه في المعركة؛ لاعتقاده أنه لم يكن صادقًا في إعلانه الإسلام، فقال له رسول الله: (فهلا شققتَ عن قلبِه) [6] .
وقد ورد عن رسول الله أنه قال: (اُطلب لأخيك عذرًا فإن لم تجد له عذرًا فالتمس له عذرًا) [7] ، وجاء عن عليّ أنه قال: (ضع أمر أخيك على أحسنه حتى يأتيك ما يغلبك منه، ولا تظننّ بكلمة خرجت من أخيك سوءًا وأنت تجد لها في الخير محملًا) [8] .
ترصّد الأخطاء وتضخيمها:
لماذا يبدو البعض وكأنه يترصّد الأخطاء على الآخرين، ليعمل على تشويه سمعتهم، وإسقاط شخصياتهم، وقد لا يكون ما يشهّر به خطأً حقيقيًّا؟
هناك رواية واردة عن الامام الصادق ، يجب أن نجعلها نصب أعيننا، حتى لا نقع في مثل هذا المنزلق الخطير، يقول : (من روى على مؤمن رواية، يريد بها شينه، وهدم مروءته، ليسقط من أعين الناس، أخرجه الله من ولايته إلى ولاية الشيطان، فلا يقبله الشيطان) [9] .
إنّ التديّن لا يتحقق بأداء العبادات والشعائر، إذا شابه سوء تعامل مع الآخرين، أو بخس شيءٍ من حقوقهم، حتى وإن كانوا مكروهين لدينا.
وليحذر الإنسان أن يأتي يوم القيامة محمّلًا بمظالم العباد، قد اغتاب هذا، وشهّر بذاك، وانتقص أقدار الآخرين، فإن حسنات عبادته لن تنفعه آنذاك، كما جاء في الحديث عن رسول الله : (اتقوا الظلم فإنه ظلمات يوم القيامة)[10] ، وورد عن أبي عبد الله : (في قول الله عز وجل: ﴿إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ﴾ قال: قنطرة على الصراط لا يجوزها عبد بمظلمة)[11] .