استقلال الشخصية وحسن العلاقات
من الطبيعي أن يكون للوالدين تأثير كبير على شخصية الإنسان، فهناك أكثر من عامل لترسيخ هذا التأثير، ومن أهمها:
1. الاستعداد النفسي للأخذ من صفاتهما بفعل العامل الوراثي.
2. دور التربية والتنشئة في صياغة شخصية الإنسان.
3. عنصر العاطفة الذي يجذب الولد إلى والديه ويجعله متعلّقًا بهما.
4. الارتباط المعيشي والحياة بهما الذي يؤكّد الخضوع لهما.
5. دافع الرغبة في المحاكاة.
6. عامل الثقة في الوالدين.
7. الدافع الوجداني والديني لاحترامهما وتقديرهما.
فقد فرض الله تعالى برّهما، كأعظم فريضة إلى جانب عبادته، يقول تعالى: ﴿وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾. كما جعل شكرهما رديفًا لشكره، يقول تعالى: ﴿أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ﴾.
الاستسلام لتأثير الوالدين:
وقد يُخشى على الإنسان أن يستسلم لهذا التأثير بلا وعي ولا حدود، على حساب العقل والمبادئ والقيم، حين تنسحق شخصيته، ويذوب كيانه أمام والديه، إلى الحدّ الذي يكون فيه إمّعة، يسلك معهما حتى طريق الضلال والانحراف.
وهنا تأتي التعاليم الدينية لتنبّه الإنسان إلى أن يتحمّل مسؤولية نفسه، ويفكر في قراراته، ويختار طريقه بوعي وإدراك، وليس على نهج التبعية المطلقة للوالدين.
فحين يدعوانه إلى الإشراك بالله تعالى، ويضغطان عليه بهذا الاتجاه، فإنّ عليه أن يتمسك بمرجعية عقله، ولا يطيعهما فيما ليس له به علم.
ففي سورة لقمان، وبعد أن يتحدث القرآن الكريم عن حق الوالدين، وفضلهما على الإنسان، ويؤكّد على الوصية بهما، والشكر لهما، فإنه يحذّر من الاتّباع والاستجابة لهما في سلوك طريق الشرك والضلال، يقول تعالى: ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَىٰ وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ * وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَىٰ أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا ۖ وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا ۖ وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ۚ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [سورة لقمان، الآيتان: 14 -15].
ومرة أخرى يؤكّد القرآن الكريم على نفس القضية في سورة العنكبوت، يقول تعالى: ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا ۖ وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا ۚ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾[سورة العنكبوت، الآية 8].
وفي آيات أخرى يستنكر القرآن الكريم ويستهجن اتّباع الآباء في معتقداتهم وتوجّهاتهم التي لا ينطلقون فيها من موقع العلم وهداية العقل، يقول تعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّـهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا ۗ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ﴾[سورة البقرة، الآية: 170].
ويقول تعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَىٰ مَا أَنزَلَ اللَّـهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا ۚ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ﴾[سورة المائدة، الآية 104].
منهجية الاستقلال
هذا التأكيد لاستقلال شخصية الإنسان أمام أهم مؤثر عليه وهو الوالدان، يُراد منه ترسيخ منهجية الاستقلالية عند الإنسان تجاه مختلف القوى التي قد تؤثر عليه، كالزعامات الاجتماعية، والقيادات الدينية والسياسية، والأقرباء والأصدقاء، فإنّ على الإنسان ألّا يلغي عقله أمام أيّ أحد، ولا يتنازل عن إرادته، ولا يتجاوز المبادئ والقيم استجابة لأيّ أحد.
يمكنه أن يستفيد من آراء الآخرين وتجاربهم، وأن يستشيرهم، وأن يقبل نصائحهم، وذلك كلّه مع إعمال العقل، وتحت سقف المبادئ والقيم.
فالاستقلالية لا تعني الغرور والاستبداد بالرأي والمكابرة والعناد، بل التفكير والتأمل في كلّ رأي يطرح عليه، أو دعوة يدعى إليها، فإن وجدها موافقة لمنطق العقل، منسجمة مع مبادئ الحق، قبل ذلك واستجاب إليه، وهذا هو المنهج الرشيد الذي يُبشر الله سالكيه بكل خير وصلاح، يقول تعالى: ﴿فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ۚ أُولَـٰئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّـهُ ۖ وَأُولَـٰئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾[سورة الزمر، الآيتان: 17-18].
الطاعة في المعروف
صحيح أنّ طبيعة الحياة الاجتماعية فيها تراتبية تفرض على الإنسان القبول والاستجابة لأوامر هذه الجهة أو تلك، كالوالدين، والزوج، والحاكم، والقائد الديني، والزعيم الاجتماعي، ومدير العمل.. لكن هذه الطاعة ليست مفتوحة بلا حدود، بل تحدّها القيم والمبادئ، فلو استغلّ أيّ طرف موقعه القيادي، وأمر بما يخالف القيم والمبادئ الثابتة، فإنه لا تصح طاعته ولا الاستجابة لأمره.
فقد ورد عن رسول الله أنه قال: (إنما الطاعة في المعروف) [1] .
وعنه : (أطيعوا آباءكم فيما أمروكم، ولا تطيعوهم في معاصي الله) [2] .
وعن الإمام علي بن موسى الرضا : (وبرّ الوالدين واجب وإن كانا مشركين، ولا طاعة لهما في معصية الخالق ولا لغيرهما، فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق) [3] .
وحين مرّ الحسين على عبد الله بن عمرو بن العاص فقال عبد الله: من أحبّ أن ينظر إلى أحبّ أهل الأرض إلى أهل السماء، فلينظر إلى هذا المجتاز، فقال له الحسين: أتعلم أني أحبّ أهل الأرض إلى أهل السماء، وتقاتلني وأبي يوم صفين؟ والله إنّ أبي لخير منّي، فاستعذر وقال: إنّ النبي قال لي: أطع أباك، فقال له الحسين : أما سمعت قول الله تعالى: ﴿وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَىٰ أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا﴾، وقول رسول الله : (إنّما الطاعة الطاعة في المعروف)، وقوله: (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق) [4] .
لا للقطيعة والعداوة
كثيرًا نرى إفراطًا أو تفريطًا عند بعض الناس في علاقتهم بالآخرين، فهو إما أن يعيش حالة الذوبان والتبعية، والوقوع تحت التأثير المطلق للطرف الآخر، أو يعلن القطيعة والعداء لمن يخالفه في الاتجاه والرأي، وكلا النهجين خطأ.
فاستقلال الشخصية في الرأي والموقف، لا يعني قطع العلاقة أو سوء التعامل مع المخالفين.
وهذا ما أكّدت عليه الآية الكريمة حول العلاقة مع الوالدين إذا كانا مشركين، وكانا يضغطان على الولد لاتباعهما في الشرك، فإنّ عليه أن يحتكم إلى عقله، ويتمسّك باستقلال قراره عنهما في المعتقد، لكن ذلك لا يعني أبدًا أن يترك والديه، أو أن يُسيء لهما، بل واجبه ملازمة والديه، وبرّهما، والتعامل معهما بأفضل ما يكون التعامل، يقول تعالى: فَلَا تُطِعْهُمَا ۖ وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا﴾.
وهذا النهج لا يختصّ بالتعامل مع الوالدين فقط، بل يحكم العلاقة مع أيّ جهة أخرى يرتبط بها الإنسان في حياته، ويخالفها في معتقده وتوجّهاته.
يريد الدين للإنسان أن يستقلّ بشخصيته ورأيه، وأن يبقى في الوقت ذاته على علاقة حسنة مع من يرتبط بهم قرابة أو صحبة أو معيشة.
إنّ البعض من الناس يبلغ به الحماس لرأيه وموقفه إلى حدّ القطيعة والخصومة لمن يخالفه، من أقربائه أو أصدقائه أو سائر أبناء مجتمعه، وتنتشر هذه الحالة أكثر في أوساط المتدينين، وكم رأينا حالات قطيعة وخصومة بين أقرباء وأصدقاء؛ لأنهم اختلفوا في اختيار مرجع تقليد، أو في الموقف من بعض العلماء والآراء والممارسات الشعائرية، وهذا لا يليق بعاقل ولا يصحّ من متديّن!!
ومن المؤسف أن تنهار علاقات بين الناس لطروء اختلاف في الرأي.
يقول الإمام علي: (ما أقبح القطيعة بعد الصلة، والجفاء بعد الإخاء، والعداوة بعد المودة) [5] .
احترام اختيارات الآخرين
إنّ التعاليم الدينية توجّه الإنسان إلى احترام اختيارات الآخرين في آرائهم ومواقفهم، وألّا يؤثر ذلك على حسن العلاقة معهم، يمكنه الحوار معهم فيما يخالفهم فيه، ونصهحم في اتّباع ما يراه حقًّا وصوابًا، لكن قرارهم بأيديهم، كما أنّ قراره بيده.
ورد عن أبي بصير قال: سألت أبا عبد الله عن الرجل يصرم ذوي قرابته ممن لا يعرف الحقّ؟ قال: لا ينبغي له أن يصرمه[6] .
وعن صفوان عن الجهم بن حميد قال: قلت لأبي عبد الله : تكون لي القرابة على غير أمري، ألهم عليّ حقّ؟ قال: نعم، حقّ الرّحم لا يقطعه شيء وإذا كانوا على أمرك كان لهم حقّان: حقّ الرحم وحقّ الإسلام[7] .
وكذلك الحال في مجال العلاقة مع الأصدقاء، فليس التطابق في الرأي والمسلك شرطًا لاستمرار الصداقة، إذا كان الإنسان واثقًا من نفسه ودينه، فقد ورد عن عليّ أنه قال: (لا تقطع صديقًا وإن كفر) [8] .
وعنه : (من جانب الإخوان على كلّ ذنب قلّ أصدقاؤه) [9] .
وعن الإمام الصادق: (من لم يؤاخِ إلّا من لا عيب فيه قلّ صديقه)[10] .
إنّ الله سبحانه وتعالى يريد لعباده أن يعيشوا الأمن والاستقرار فيما بينهم، وأن يتعاونوا في إدارة حياتهم ومعيشتهم، بعيدًا عن اختلافاتهم الدينية، دون أن يعتديَ أحدٌ على آخر.
يقول تعالى: ﴿لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّـهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللَّـهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾[سورة الممتحنة، الآية: 8].
إنّ ما نشهده من حالات تشنّج وخصومة في بعض الأوساط الدينية، نتيجة الاختلاف الفكري والسياسي، لا يمثل خلقًا دينيًّا، وإن حاول البعض أن يعطيه هذه الصفة بعنوان مواجهة البدع والضلال، مما يكشف عن سوء فهم للتعاليم الدينية، أو سوء توظيف لها خدمة لأغراض مصلحية، وعقد نفسية.