الصراع على عقول الشباب
تحتدم معركة شرسة، من جهات مختلفة، على كسب عقول أبنائنا وشبابنا، والتأثير في سلوكهم، وتوجيه مستقبلهم.
الضياع الفكري والخواء الروحي
1. فهناك تيارات تثير الشكوك والشبهات حول الهوية والانتماء الديني، لكي يعيش الشباب حالة من الضياع والتشتت الفكري، وفقدان بوصلة القيم والمبادئ، بما يقود إلى الإلحاد والتنكّر للدين.
إنه لا مشكلة في طرح التساؤلات والنقد لأفكار وتشريعات دينية، فالدين يدعو إلى التفكير، وإثارة العقل في الإطار المنهجي الموضوعي، ليصل الإنسان إلى الاقتناع والاطمئنان بعقيدته عن معرفة ووعي، كما هو النموذج الذي قدّمه القرآن الكريم عن نبيّ الله إبراهيم في قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىٰ ۖ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن ۖ قَالَ بَلَىٰ وَلَـٰكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي﴾[سورة البقرة، الآية: 260].
كذلك لا غضاضة في الاعتراض على ممارسات المؤسسات الدينية، وواقع المتديّنين، فهي تعبّر عن حالتها البشرية، التي قد يشوبها النقص والخلل، ولا يمكن لها ادّعاء العصمة والكمال.
هذه الإشكالات والاعتراضات يجب أن تستقبل برحابة صدر، وأن ترتقي بالجهات الدينية إلى مستوى التحدّي، لكن المشكلة تكمن فيما تستهدفه هذه التيارات من خلق فراغ روحي، وخواء قيمي في أوساط الشباب، يجعلهم عرضة للشعور بالعبثية في وجودهم، والإحساس بانعدام المعنى في حياتهم.
فقدان التوازن السلوكي
2. وهناك جهات تلعب على إثارة وتحريض الغرائز والشهوات في نفوس الشباب، وهم يعيشون مرحلة المراهقة العاطفية، وقوة المشاعر والأحاسيس، مما يدفع بهم صوب الانحلال الأخلاقي، ويفقدهم التوازن في سلوكهم، ويترك تداعيات سيئة على الأمن الاجتماعي.
وتستغلّ هذه الجهات الإباحية تطور تقنية الاتصالات، لتخاطب أوسع شريحة من الشباب بل وحتى الأطفال.
ففي المملكة العربية السعودية يفيد تقرير بأنه تم خلال خمس سنوات حجب 2.65 مليون رابط إباحي عبر الإنترنت، وأنّ 23% من زوّار المواقع الإباحية من النساء، وأعمار زوّار هذه المواقع تبلغ دون 18 سنة، وأنّ 82 في المئة من الجرائم الجنسية على الإنترنت تستهدف الأطفال، وأنّ 75 في المئة من ضحايا الجرائم الإلكترونية من الأطفال والشباب بين 10 و16 سنة، وأنّ 18 في المئة من الأطفال المتعرضين للتحرش تعرضوا له عبر الإنترنت، و66 في المئة منهم تعرضوا له من دون قصد، بينما 44 في المئة منهم كانوا يشاهدون أفلامًا مخلّة عن قصد، و18 في المئة استخدموا الإنترنت للممارسة الجنسية، وأنّ 10 في المئة من الأطفال السعوديين الذين تراوح أعمارهم بين 12 و13 مدمنون على الأفلام الإباحية[1] .
من ناحية أخرى، ينشط تجار المخدرات، والشبكات المرتبطة بهم، في نشر هذه السموم القاتلة في أوساط الشباب، حيث يقدّر عدد المدمنين في السعودية بـ 200 ألف، يمثلون 0.7 في المئة من إجمالي عدد السكان البالغ 28 مليون نسمة [2] .
ومن أبرز أنواع المخدّرات المنتشرة في المملكة الكبتاغون، والكوكايين، والهيرويين. وقدّرت وزارة الداخلية أنّ حوالي 33 في المئة من الكبتاغون المُصنع في العالم يتم مصادرته في السعودية. فيما تصادر المملكة حوالي 60 طنًّا من الحشيش سنويًّا، وما بين 50 إلى 60 كيلوغرامًا من الهيرويين، تقدّر قيمته بحوالي 1.2 بليون يورو.
فحسب التقارير المنشورة بلغت حصة السعودي الواحد من أقراص «الكبتاغون» حوالي 18 حبّة، وفق إحصاءات رسمية للمضبوطات خلال الأعوام الخمسة الماضية.
وسجلت الأجهزة الأمنية والجمركية السعودية خلال هذه الفترة أكثر من 188 ألف قضية مخدّرات، وتشهد أروقة القضاء السعودي محاكمة 245 ألف متّهم بتهريبها وترويجها، فيما ضبطت حوالي 368 مليون قرص «كبتاغون»، و199 مليون طنّ حشيش في الفترة نفسها، وفق تقرير وطني عن «ظاهرة المخدرات في المملكة»[3] .
توجّهات العنف والإرهاب
3. وهناك توجّهات العنف والإرهاب، التي تستثمر حالة الحماس الديني، والغضب السائد على سوء الواقع الذي تعيشه الأمة، والقلق في أوساط الشباب على مستقبلهم بسبب ما يواجهونه من الضغوط الاقتصادية والاجتماعية، تأتي هذه التوجّهات لتستقطب الشباب باسم الدفاع عن الدين وتطبيق شريعته، وبعنوان الانتصار لعزّة الأمة وكرامتها، فتزجّ بهم في متاهات العنف والإرهاب، وتوجّههم للبطش والتخريب، حتى أصبحت بلدان الأمة ومجتمعاتها ساحة رعب وحرب، يفقد الناس فيها الاستقرار والأمن، ويعيشون الفزع والاضطراب.
ولا يكاد يمرّ يوم لا تحدث فيه تفجيرات واعتداءات إرهابية، تستهدف الأبرياء والمصالح العامة والخاصّة.
آلاف من أبناء الأمة الشباب والشابات، من مختلف الدول والمجتمعات، انضموا تحت رايات الجماعات الإرهابية، وأصبحوا وقودًا لمعاركها العبثية، يفجّرون أنفسهم، ويقتلون أبناء مجتمعاتهم، ويدمّرون أوطانهم.
وقد غرّرت هذه الجماعات بأعداد كبيرة من أبناء مجتمعنا السعودي، لممارسة العنف والإرهاب داخل وطنهم، وللزجّ بهم في مناطق الحروب والصراعات في مختلف أرجاء العالم.
وفي تصريح لجريدة الحياة صرّح المتحدث الرسمي لوزارة الداخلية السعودي: أنّ أعداد السعوديين المتورطين بالقتال في الخارج بلغ نحو 2093 مقاتلًا ضمن عناصر التنظيمات الإرهابية في مناطق مختلفة[4] .
ويظهر من التصريح أنّ هذا العدد المذكور يختصّ بمن توفرت المعلومات عنهم للوزارة، وقد يكون هناك كثيرون غيرهم، كما تشير إلى ذلك تقارير وإحصائيات متعددة المصادر.
كما يفصح المتحدث الرسمي أنّ هذا الرقم هو للمنخرطين حاليًا في معارك الفتن والاحتراب، دون من سبق لهم المشاركة والانخراط في السنوات الماضية.
وقد رأينا في منطقتنا، ومجتمعنا الآمن المستقر، كيف انخرطت بعض العناصر من أبنائه لممارسة العنف والإجرام، حيث تكررت حوادث الاعتداء على رجال الأمن، وعلى مواطنين، واستهدفت بعض المصالح العامة، كمواقع للدفاع المدني، والصرافات الآلية، ومكاتب للتحويلات المالية وغيرها، وفي الأسبوع المنصرم كان هناك أكثر من حادث بشع.
فكيف انتزعت هذه التوجّهات العنفية هذا العدد الكبير من أبناء الوطن وشبابه، ليصبحوا معاول هدم وتخريب؟
التحصين الفكري والنفسي للشباب
إنّ الوقوف أمام هذه التوجّهات التدميرية، وحماية أبنائنا من تأثيراتها وأضاليلها يتم عبر مسارين:
المسار الأول: التحصين الفكري والنفسي للشباب، بتوعيتهم بمفاهيم دينهم الصحيحة، الداعية إلى المحبّة والتسامح، والمفعمة بروح الأمل والتفاؤل، والدافعة إلى التنمية والبناء.
هذا التثقيف والتوعية يجب أن يبدأ من أحضان الأسرة، ويتواصل عبر مناهج التعليم، ويترسّخ من خلال المنابر الدينية، ووسائل الإعلام.
ويجب التنبيه والحذر من تسلل الأفكار المتطرفة، والآراء التعصبية، التي تصوّر للشباب أنّ العالم كلّه ضد دينهم وأمتهم، فأتباع الديانات الأخرى كفار أعداء، وأصحاب المذاهب الأخرى أهل بدع متآمرون، والمثقفون علمانيون ملحدون، وهكذا تصبح الدنيا قاتمة أمام أعين الشباب، ويصبح استهداف الآخرين مشروعًا، وتلك هي الأرضية الخصبة التي تنمو فيها بذور العنف والإرهاب.
احتواء الشباب وتنمية كفاءتهم
المسار الثاني: احتواء الشباب واستيعابهم ضمن الأُطر التي تنمّي كفاءاتهم وطاقاتهم، من أجل بناء شخصياتهم، وصناعة مستقبلهم.
ويمثل أبناؤنا كنوزًا من القدرات والمواهب، التي تحتاج إلى اكتشاف وتنمية وتطوير، ومما يشهد لذلك ما نراه من بروز كفاءات مبدعة من أبناء الوطن، يتم الإعلان عن تكريمها على الصعيد الوطني، وعلى المستوى الدولي.
إنّ المؤسسات الرسمية والأهلية التي انبثقت للاهتمام بالموهوبين والمبدعين والمتميزين من الشباب، هي معقد الأمل بعد الله تعالى، في احتواء واستيعاب أبناء الوطن الطامحين لمستقبل أفضل، ويجب أن تكون خيارًا مفتوحًا ومتاحًا لكلّ الشباب والشابات، يصرفهم عن أيّ خيارات أخرى.
جائزة القطيف للإنجاز
وتمثل جائزة القطيف للإنجاز أنموذجًا مشرقًا على هذا الصعيد.
فقد انطلق هذا المشروع الأهلي الحضاري سنة 2008م في محافظة القطيف، ورسالته "تكريم وتحفيز الشباب المنجز للمساهمة في بناء جيل مبدع"
وتمنح الجائزة لكلّ من قدّم إنجازًا متميّزًا في مجال الدراسات والبحوث، ومجال التقنية والاختراع، ومجال الأدب والفنّ، إلى جانب جائزة للمنجز الناشئ، وأخرى للمنجز الواعد حيث تصل في نسختها السادسة هذا العام عشرين جائزة.
وقد ترشّح للجائزة منذ تأسيسها أكثر من (700) شابٍّ وشابة، فاز بها منهم (93) من الجنسين، حيث يعقد مهرجان تكريمي حاشد لكلّ نسخة من الجائزة.
وقطعت الجائزة شوطًا متقدّمًا على صعيد المأسسة والتنظيم، فهي تابعة للجنة التنمية الاجتماعية بالقطيف، ولها جمعية عمومية، وأمانة عامة، وتعتمد أخصائيين أكاديميين في التحكيم والتقويم لكلّ مجالٍ من مجالاتها.
وقد انعقد هذا الأسبوع مساء يوم الاثنين 18 ربيع الآخر 1438هـ الموافق 16/1/2017م لقاء لشركاء الجائزة، من رجال الأعمال، ووجهاء المجتمع، للإعداد لانطلاق النسخة السادسة من الجائزة، وكان تفاعل الحاضرين المشاركين لائقًا، من حيث تقديم المقترحات، والدعم المالي، فقد كانت الأمانة العامة تستهدف جمع مبلغ (325.000) ريال، لكن التبرعات وصلت إلى مبلغ (485.000) ريال.
والمطلوب مزيد من الدعم لهذا المشروع وأمثاله من المشاريع التي تستهدف رعاية الشباب واحتوائهم، ولا بدّ من توفير مصادر دخل ثابتة لهذا المشروع التنموي الحضاري، وهو ما تسعى إليه أمانة الجائزة، بإنشاء وقف خيري استثماري يؤسّس بمشاركة أبناء المجتمع أفرادًا ومؤسسات من خلال طرح سندات وقفية.
إنّ الله سبحانه وتعالى يدعونا للمبادرة والسبق في أعمال الخير ﴿فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ﴾، وعلينا أن نهتمّ بفتح وجهات الاستقامة والصلاح، أمام شبابنا، ليتجهوا إليها، كما تقول الآية الكريمة: ﴿وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا﴾.