عادات الصرف وضرورة الترشيد
تمرّ بلادنا والمنطقة كلها بمرحلة من الصعوبات الاقتصادية، بسبب انخفاض أسعار النفط، وكلفة الحروب التي تعاني منها المنطقة، وسياسات التقشف والتحول الاقتصادي.
فهناك عجز في ميزانيات دول المنطقة، قلّص اعتماد أيّ مشاريع جديدة، وأدّى إلى تأخير سداد مديونيات المشاريع السابقة، مما دفع عددًا من الشركات والمؤسسات الإنشائية الكبرى إلى الانكماش، وتحمل الخسائر، وتسريح قسم من عمالها وموظفيها. وبعضها أصبح على وشك الانهيار.
ومن الطبيعي أن ينعكس ذلك على دخل الأفراد، وأوضاع العوائل، خاصة في الطبقة الوسطى فضلاً عن الطبقة الفقيرة.
فقد تضاءلت فرص العمل والتوظيف، وتوقفت العلاوات والامتيازات التي كان يستفيد منها عدد كبير من الموظفين لتسيير أمور حياتهم.
وحديثنا ليس باتجاه البحث والتحليل لهذا الواقع الاقتصادي الصعب، الذي نأمل أن تتجاوزه المنطقة سريعاً إن شاء الله، لكن ما نريد معالجته هو كيفية تعامل الأفراد والأسر مع هذه الظروف الاقتصادية الصعبة.
إنه لا مناص من التوجه لإعادة النظر في جدولة الصرف، وطريقة الإنفاق، فكما اضطرتْ الحكومات والشركات إلى الترشيد وتقليل الإنفاق، لتغطية العجز، كذلك على الأفراد أن يسلكوا نفس السبيل، بل هم الأحوج إلى ذلك.
مشكلتنا أنا تعودنا على طريقة في الصرف والإنفاق، تعتمد على الوفرة المالية، لكن الظروف اليوم قد تغيّرت، فعلينا أن نغيّر عاداتنا، لنكيّف حياتنا مع الوضع الجديد، وإلا فسنعاني من الأزمات النفسية، والمشاكل العائلية، والوقوع في فخّ الديون والقروض، وقد يندفع البعض لطرق ملتوية منحرفة من أجل الحصول على ما يغطي مصروفاته.
قرار التغيير في العادات
يسيّر الانسان مختلف شؤون حياته عبر طرق وأساليب يتعود عليها، من وحي قناعاته أو رغباته، أو استجابة لما تلقاه في نشأته، أو من خلال تكّيفه مع ما هو سائد في بيئته الاجتماعية.
هذه العادات التي تترسخ في حياة الانسان بفعل استمراريته في ممارستها، قد يحتاج إلى مراجعة قسم منها ليتأكد من صلاحيتها، خاصة حينما تطرأ على حياته الشخصية أو الاجتماعية ظروف جديدة، تصبح فيها تلك العادات مكلفة مرهقة.
لكن معظم الناس يصبحون أسرى لعاداتهم التي رسخها مرور الزمن في سلوكهم، فيكون صعباً عليهم التغيير والتخلي عن بعض العادات، وإن اتضح لهم خطؤها وسوؤها.
وإذا كان تغيير العادة أمراً صعباً، كما يقول الامام علي : " لِلعادَةِ عَلى كُلِّ إنسانٍ سُلطان"[2] لكن هذه الصعوبة لا تصمد أمام إرادة الإنسان حينما يقرر ويريد. نعم سيعاني في البداية عند تحوله من عادة إلى أخرى، لكنه إذا تمسك بعزمه، فستحلّ العادة الجديدة تدريجياً مكان السابقة، وتنتظم حياته على أساسها.
وجدير بالإنسان أن يتحكم بعاداته، ويكون قادرًا على تجاوز ما يشاء منها، حين يجد المصلحة في ذلك، وإلا فستكون هيمنة العادة عائقاً أمام تقدمه المادي والمعنوي.
ورد عن عليّ أنه قال: "غَيِّروا العاداتِ تَسهُلْ عَلَيكُمُ الطّاعاتُ"[3] .
وعنه : " أَيُّهَا النَّاسُ، تَوَلَّوْا مِنْ أَنْفُسِكُمْ تَأْدِيبَهَا، وَاعْدِلُوا بِهَا عَنْ ضَرَاوَةِ عَادَاتِهَا"[4] .
وفي مجال الصرف والإنفاق تتكون للإنسان عادات كما في سائر المجالات، لكن هذه العادات يجب أن تخضع للمراجعة، وخاصة حينما تتغيّر الظروف الاقتصادية، وبعض العادات هي خطأ في ذاتها، بغض النظر عن حصول الوفرة المالية، أو عروض الصعوبات الاقتصادية، ومن أبرزها العادات التي يتجلى فيها الإسراف والتبذير والمبالغة في الاستهلاك.
هدر الماء
يتعامل الناس مع الماء على أساس أنه متوفر مبذول وكلفة استهلاكه قليلة، لذلك لا يحسبون أيّ حساب في استخداماته، وحينما رفعت وزارة المياه والكهرباء سعر تعرفة الماء مؤخراً، وجاءت الفواتير بأرقام عالية، ضجّ الناس جميعاً، وتعالت الأصوات للمطالبة بإعادة النظر في هذه التعرفة الباهظة.
وبمعزل عن هذا القرار، لا بُدّ من إعادة النظر في طريقة استهلاكنا للمياه في حياتنا، حيث يقدر استهلاك الفرد في المملكة من الماء نحو 256 لتراً في اليوم، ويعادل ثلاثة أضعاف ما حددته منظمة الصحة العالمية للاستهلاك المريح والصحي للفرد وهو نحو 83 لتراً. مما جعل المملكة من أعلى الدول استهلاكا للمياه، مع أنها من أكثر الدول شحاً للمياه في العالم.
إنّ إنتاج الماء الصالح للاستخدام يكلف مبالغ ضخمة، خاصة في المناطق الصحراوية كبلادنا، التي تنتج من المياه المحلاة يومياً تسعة ملايين متر مكعب، وتشير الدراسات إلى أنّ معدل استهلاك الفرد من المياه في السباحة يقدر بين (115) إلى (150) لتراً.
وفي كلّ مرة يسحب فيها (السيفون) في دورة المياه يتم استهلاك (11) لتراً، وكلّ دقيقة يقف فيها الإنسان تحت دش الماء، يستخدم (19) لتراً، والاستخدام الواحد لغسالة الملابس يستهلك (115) لتراً.
إنّ هناك نسبة كبيرة من الهدر للمياه بسبب عدم الاهتمام بصيانة شبكة المياه في المنازل، وحصول تسريبات، وترك الصنبور يجري لمدة طويلة عند الغسل، كما يحصل عند تفريش الأسنان مثلاً، حيث يترك الإنسان حنفية الماء مفتوحة حتى ينتهي من تنظيف أسنانه. وتوجد في الأسواق حنفيات حساسة تتوقف عند ابتعاد اليد عنها أوتوماتيكياً.
مَرَّ النَّبِيَّ بِسَعْدٍ وَهُوَ يَتَوَضَّأُ فَقَالَ: مَا هَذَا السَّرَفُ يَا سَعْدُ؟ قَالَ: أَفِي الْوُضُوءِ سَرَفٌ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَإِنْ كُنْتَ عَلَى نَهْرٍ جَارٍ[5] .
عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ قَالَ: «أدنَى الإِسرافِ: هِراقَةُ فَضلِ الإِناءِ»[6] .
وفي سيرة النبي أنه كان يتوضأ بمدّ، ويغتسل بصاع، والصاع يعني أكثر بقليل من قنينة ماء بسعة لتر ونصف، والمدّ هو ربع هذه القنينة.
استهلاك الطاقة الكهربائية
وفي مجال استهلاك الطاقة الكهربائية، نلحظ إسرافاً واضحاً تحول إلى عادة يمارسها مختلف الأفراد، مما يرفع أرقام فاتورة الكهرباء شهرياً، فاستخدام الإنارة مبالغ فيه، وكذلك ترك أجهزة التكييف تعمل لفترة طويلة نسياناً أو إهمالاً، وعدم الاهتمام بصيانتها.
وتشير التقارير إلى أنه بلغ نصيب الفرد السعودي من استهلاك الطاقة الكهربائية خلال عام 2015م إلى 779 كيلو وات/ ساعة[7] .
الإسراف في الطعام
ومن أبرز مظاهر الصرف التي يجب إعادة النظر فيها وخاصة مع الظروف الحاضرة، هي الإسراف في اقتناء الموادّ الغذائية المعرضة للتلف، حيث تعوّد أكثرنا أن يشتري منها بالكميات كاللحوم والأسماك والفواكه والخضار والخبز، مما يؤدي إلى ذهاب قسم منها إلى التلف والخراب، وقد يبرر البعض بأنّ الشراء بالكمية أرخص وأقلّ ثمناً، وهذا وإن يصدق على بعض المشتريات، لكن النتيجة ستكون مكلفة أكثر مما لو اشتراها بكميات أقلّ، إذا احتسب قيمة التالف منها، إضافة إلى أنه نوع من ابتذال النعمة وعدم احترامها.
ويبرر آخرون بأنّ ذلك يوفّر عليهم الوقت فلا يحتاجون للذهاب للشراء مرات عديدة، لكن توفر الأسواق ومحلات البيع الكبيرة في مختلف المناطق، جعل الشراء مهمة سهلة سريعة، وكما نهتم بتوفير الوقت، يفترض الاهتمام بتوفير المال، فنحن نصرف الوقت في العمل لتحصيل المال. وقد يصلح هذا المبرر لمن يكون وقته مضغوطاً جدًّا وليس الأمر كذلك بالنسبة لكثيرين.
ويبدو أنّ الدافع الأساس لشراء كميات من المواد الغذائية، هو العادة والعرف الاجتماعي، فقد تعودنا هذه الطريقة، بحيث نستعيب شراء الكميات المحدودة، ونتفاخر بكثرة ما نشتري، بينما نجد الناس في البلدان المتقدمة يشترون الفواكه مثلاً بالعدد الذي يستهلكونه في اليوم أو اليومين، فيشتري تفاحتين أو ثلاث مثلاً، ويشتري جزءاً من البطيخ وهكذا، كما يلحظ من يسافر إلى أمريكا وأوروبا وأمثالها.
والجانب الأسوأ يتمثل في زيادة كمية ما يطبخ من الطعام في المنازل، وفي المناسبات العامة كحفلات الزواج ومجالس العزاء، ومختلف الضيافات الاجتماعية، حيث لا يستهلك من الطعام إلا الجزء الأقلّ، بينما يكون مصير أكثره إلى القمامة.
وحسب بعض الإحصائيات فإنّ ذلك يشكل نسبة 45% من الطعام في المناسبات. كما تشكل الأطعمة من نفايات محافظة جدة مثلاً 60% من إجمالي نفاياتها التي تبلغ ستة آلاف طن يومياً[8] .
وقد أشارت بعض الدراسات إلى أنّ دول الخليج (حوالي 51 مليون نسمة) في مقدمة الدول المستهلكة للطعام بمعدل 8.2% من إجمالي استهلاك الغذاء العالمي[9] ، لـ 7.4 مليار نسمة.
واستدعت هذه الظاهرة قيام جمعيات تهتم بجمع الفائض من الطعام في المناسبات لتوزيعه على الفقراء والمحتاجين.
إنّ كثيراً من البلدان المتقدمة تخصص فيها البلديات يوماً واحداً أو يومين في الأسبوع لجمع النفايات المنزلية، بينما يتم إخراج القمامة والنفايات من منازلنا كلّ يوم، وقد تفيض الحاويات أمام المنازل بما يلقى فيها، لكثرة النفايات المنزلية، حيث تشير الإحصائيات إلى أنّ معدل النفايات المنزلية الصلبة في اليوم للشخص الواحد في المملكة تبلغ 1.5 كيلوجرام[10] . فإذا كان في المنزل ستة أشخاص فسيكون وزن كيس الزبالة كلّ يوم 9 كيلوجرام من النفايات الصلبة.
هواية التسوق
وقد أصبح التسوق في مجتمعاتنا هواية، وليس حسب الحاجة، حيث يذهب الفرد أو العائلة للسوق للتفرج والتمشية، وبالتالي تنفتح الرغبة على الشراء، ومن الطبيعي أنّ تتفنن الشركات والمصانع والمحلات، في إثارة رغبات الزبائن لشراء منتجاتها ومعروضاتها، والبعض في مجتمعاتنا يشتري الأجهزة أو الآليات على أساس الموضة، فحتى لو كانت سيارته صالحة ومناسبة لاستخداماته فإنه قد يشتري سيارة جديدة، تماشياً مع الموديل والموضة.
ويتحدث الباحثون في الدراسات الاجتماعية والاقتصادية عن ظاهرة إدمان التسوق (إنيومانيا) وهو مصطلح تقني يصف الرغبة الجامحة للتسوق. وقد وصف حوالي 30% من المدمنين على التسوق أنّ فعل الشراء نفسه يعطي نشوة تماماً مثل المخدرات، بغضّ النظر عن السلع التي يتم شراؤها وملكيتهم لها.
ويعتقد الأطباء النفسيون أنّ هذا السلوك قد يكون بسبب الحاجة للشعور بالتميز.
وأظهرت نتائج دراسة ميدانية: أنّ السعوديات يفضلن التسوق التقليدي على الإلكتروني؛ لكون التسوق بالنسبة للمرأة السعودية هو أحد أشكال الترفيه والترويح النفسي.
كما نلحظ بعض عادات الصرف المرهقة لدى النساء تتمثل في موضات الأزياء، وفساتين الزواج، التي تبلغ قيمتها ما بين عشرة إلى عشرين ألف ريال في المتعارف، وقد تصل إلى أضعاف ذلك من قبل بعض العوائل الثرية. وفساتين حضور حفلات الزواج، التي تلبس لمرة واحدة، ولا تكرر المرأة لبس فستان سبق أن لبسته في حفلة زواج سابقة، واستئجار الفستان لليلة واحدة يكلف ما بين 1500 إلى 3500 ريال.
نحو عادات رشيدة
إنّ مثل هذه العادات لا بُدّ من إعادة النظر فيها، وتجاوزها لخلق عادات جديدة هي أقرب للتعاليم الدينية وأنسب لتنظيم الشأن الاقتصادي.
فقد ورد عن رسول الله أنه قال: "الاقتصاد في النفقة نصف المعيشة"[11] .
وجاء عن عليّ أنه قال: "مَن تَحَرّى القصدَ خَفَّت عليه المُؤَن"[12] .
وعنه : "الاقتِصادُ يُنمّي القليلَ"[13] ، و "الإسرافُ يُفني الجَزيلَ"[14] .
ولكي ينجح الإنسان في تنفيذ قرارات ترشيد الصرف والإنفاق لا بُدّ أن يبذل جهداً لتهيئة عائلته وتوعية أبنائه بضرورة هذا التوجه، ليتفهموا التغيير ولا يتعاملون معه سلبياً.
ومما يساعد على توجهات الترشيد صنع الأجواء العامة الدافعة إليه عبر التوعية، ونشر المبادرات الإيجابية في الترشيد.
ففي مقابل حالات التباهي والتفاخر بالصرف، علينا أن نبشر بالقيم الصحيحة والتعاليم الراشدة، لتوجيه المجتمع إلى ما يساعده على مواجهة الظروف الاقتصادية الصعبة.
إنّ الله تعالى يقول: ﴿وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ ۖ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا (27) سورة الاسراء﴾
وروي عن رسول الله أنه قال: إِنَّ مِنْ السَّرَفِ أَنْ تَأْكُلَ كُلَّ مَا اشْتَهَيْتَ[15] .
وورد عن عليّ أنه قال: مَنِ افتَخَرَ بِالتَّبذيرِ احتُقِرَ بِالإِفلاس[16] ِ .