الخادمات حقوق وملاحظات
روي عن سلمان الفارسي أنه قال: كانت فاطمة جالسة قدامها رحى تطحن بها الشعير، وعلى عمود الرحى دم سائل والحسين في ناحية الدار يتضور من الجوع، فقلت: يا بنت رسول الله، دبرت كفاك وهذه فضة، فقالت: أوصاني رسول الله أن تكون الخدمة لها يومًا، فكان أمس يوم خدمتها[1]
المحور الأساس في الولاء لأهل البيت والارتباط بهم، هو الاهتداء والاقتداء، الاهتداء بهديهم، والاقتداء بسيرتهم وسلوكهم، وذلك ما يؤكّده القرآن الكريم في العلاقة مع أنبياء الله وأوليائه، يقول تعالى: ﴿أُولَـٰئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّـهُ ۖ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ﴾[ سورة الأنعام، الآية: 90].
وحين يتحدث الإمام عليّ عن علاقة المأموم بإمامه يلخّصها في هذا البعد، يقول : "أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ مَأْمُومٍ إِمَاماً يَقْتَدِي بِهِ وَيَسْتَضِيءُ بِنُورِ عِلْمِهِ"[2] ، فالاقتداء بالإمام والاهتداء بنور علمه هو الهدف المنشود.
ولأنّ هناك من قد يتلاعب بعواطف المحبّين لأهل البيت ، أو يصرف توجه ولائهم إلى غير المسلك العملي، فإنّ الأئمة قد نبهوا شيعتهم حتى لا تضلّلهم مثل هذه التوجّهات، يقول الإمام محمد الباقر في وصبته لابن جندب: "يا ابن جندب، بلّغ معاشر شيعتنا وقل لهم: لا تذهبنّ بكم المذاهب، فوالله لا تنال ولايتنا إلا بالورع والاجتهاد في الدنيا، ومواساة الإخوان في الله، وليس من شيعتنا من يظلم الناس" [3].
فبناءً على هذه النصوص، وأمثالها، وهي كثيرة، فإنّ الاعتقاد والإيمان بإمامة أهل البيت وولايتهم، لا يكفي لإحراز النجاة والفوز، إن لم يقترن بالاهتداء والاقتداء، كما أنّ الإيمان بالله تعالى لا يكفي دون العمل الصالح، لذلك غالبًا ما يأتي في القرآن الكريم مقرونًا بعمل الصالحات، كقوله تعالى: ﴿إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾[سورة العصر، الآيتان: 2-3].
ومحبّة أهل البيت التي لا يتبعها اقتداء بهم، لا تجدي ولا تكفي، كما أنّ محبة الله دون اتباع أنبيائه لا تجدي، يقول تعالى: ﴿قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّـهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّـهُ﴾[سورة آل عمران، الآية: 31]
والتفاعل العاطفي مع أهل البيت ، كالتألم لمصائبهم، والفرح بمناسباتهم، لا يصلح بديلًا عن الاهتداء والاقتداء، الذي هو المحور الأساس في الولاء لهم، والارتباط بهم.
وحين تمرّ علينا ذكرى وفاة سيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء، فإنّها فرصة لتجديد عهد الاهتداء والاقتداء بها، لذلك سنقتطف من حقل سيرتها العطرة زهرة فوّاحة من مكارم أخلاقها، ترتبط بتعاملها مع خادمتها فضة النوبية.
واخترنا الحديث حول هذا الجانب من سيرة الزهراء ؛ لأنه يلامس مشكلة قائمة ذات بعد إنساني، وهي محلّ ابتلاء لكثير من العوائل التي تحتضن خادمات في منازلها.
الخادمة بين الحاجة والترف
الأفضل أن تعتمد العائلة على نفسها في إدارة شؤون المنزل، بالتعاون بين أعضائها، فتقوم الزوجة بأداء ما يمكنها من المهامّ، ويساعدها الزوج بالقيام بقسط من الوظائف المنزلية، ويربّون أبنائهم على المساهمة في تدبير الأمور.
إنّ تعاون أفراد الأسرة في إنجاز الخدمة المنزلية، يزيد في قوة الانتماء العائلي، ويثري مشاعرهم العاطفية، ويغنيهم عن استقدام خادمة للمنزل، تمثل عنصرًا غريبًا يقتحم أجواء الحياة الخاصة للعائلة، وقد تأتي من بيئة مختلفة ثقافيًّا وأخلاقيًّا.
وقد رأينا بروز بعض الظواهر السلبية الناتجة عن وجود الخادمات في المنازل، مما يتناقله الناس من حوادث، وتنشره وسائل الإعلام، وكما رصدته التقارير والدراسات الاجتماعية.
وتشير دراسات وأبحاث ميدانية، إلى أنّ بعض العوائل ربما استقدمت خادمة أو أكثر، ليس بسبب الحاجة إلى خدمتها، وإنما كجزء من (البرستيج) ومظاهر الرفاهية والتباهي الاجتماعي، وذلك ترف مذموم.
لكنّ ظروف بعض العوائل قد تستدعي وجود الخادمة؛ لكثرة أعباء الخدمة المنزلية، أو لتعدّد الأطفال، أو لوجود حالات مرض وإعاقة، أو لانشغال المرأة بوظيفة خارجية، في مثل هذه الحالات تضطر العائلة إلى وجود الخادمة، كما نقرأ ذلك في سيرة الزهراء ، فقد أنجبت أربعة من الأولاد في زمن متقارب، حيث ولدت بالحسن في السنة الثالثة للهجرة، وبالحسين في السنة الرابعة، وبزينب في السنة الخامسة، وبأمّ كلثوم في السنة السادسة أو السابعة.
فكانت أعباء الخدمة المنزلية تزاحم اهتمامها بتربية وتنشئة أبنائها، إلى جانب أعبائها الأخرى في خدمة الدعوة الإسلامية، لذلك أشار عليها الإمام علي أن تطلب من أبيها رسول الله خادمة، بعد أن توفرت لرسول الله بعض غنائم الحروب، لكن رسول الله لم يجب طلبها في البدء؛ لوجود أولويات أخرى وحاجات في صفوف أصحابه تقتضي الإنفاق.
جاء في سنن أبي داود أنه قال لها: "اتّقي الله يا فاطمة، وأدّي فريضة ربك، واعملي عمل أهلك، فإذا أخذت مضجعك فسبّحي ثلاثًا وثلاثين، واحمدي ثلاثًا وثلاثين، وكبّري أربعًا وثلاثين، فتلك مئة، فهي خير لك من خادم" [4].
وفي بحار الأنوار، أنّها لما ذكرت حالها وسألت جارية بكى رسول الله فقال: يا فاطمة، والذي بعثني بالحقّ إنّ في المسجد أربعمئة رجل ما لهم طعام ولا ثياب" [5].
واستجاب لها رسول الله في مرحلة لاحقة حينما توفرت لديه إمكانات إضافية، فقدّم لها خادمة اسمها فضة النوبية.
روى عليّ بن أعبد، قال: قال لي عليّ : "ألا أحدّثك عنّي وعن فاطمة الزهراء أنّها كانت عندي فاستقت بالقربة حتى أثر في صدرها، وطحنت بالرحى حتى مجلت يداها، وكسحت البيت حتى اغبرت ثيابها، وأوقدت تحت القدر حتى دكنت ثيابها فأصابها من ذلك ضرٌّ شديد، فقلت لها: لو أتيت أباك فسألته خادمًا يكفيك حرّ ما أنت فيه من هذا العمل، فأتت النبي صلى الله عليه وآله فوجدت عنده حداثًا فاستحيت فانصرفت، فعلم صلى الله عليه وآله أنها قد جاءت لحاجة فغدا علينا ... قال: يا فاطمة ما كانت حاجتك أمس... فخشيت إن لم نجبه أن يقوم، فقلت: أنا والله أخبرك يا رسول الله، إنّها استقت بالقربة حتى أثر في صدرها، وجرت بالرحى حتى مجلت يداها، وكسحت البيت حتى اغبرت ثيابها، وأوقدت تحت القدر حتى دكنت ثيابها، فقلت لها: لو أتيت أباك فسألتيه خادمًا يكفيك حرّ ما أنت فيه من هذا العمل، قال: أفلا أعلمكما ما هو خير لكما من الخادم؟ إذا أخذتما منامكما فكبّرا أربعًا وثلاثين تكبيرة، وسبحا ثلاثًا وثلاثين تسبيحة، واحمدا ثلاثًا وثلاثين تحميدة، فأخرجت فاطمة رأسها وقالت: "رضيت عن الله وعن رسوله رضيت عن الله وعن رسوله" [6].
الخادمة وحقوقها الإنسانية
تأتي الخادمة عادة من واقع الاضطرار لممارسة هذا الدور، فتفارق عائلتها، وقد تترك زوجها وأطفالها، وتعيش حال الغربة في بيئة تختلف عن بيئتها، وكلّ ذلك يدعو للشفقة عليها، ومراعاة ظروفها النفسية، وخاصة في بداية عملها، حتى تتكيف مع واقعها الجديد، وتعرف طبيعة الأعمال المطلوبة منها.
إنّها إنسان لها مشاعرها وأحاسيسها، ولها حقوقها الإنسانية التي يجب أن تُراعى وتُحترم، فلا يجوز النظر عليها بدونية واحتقار، ولا إهانتها وإذلالها، ولا رفع الصوت عليها بدون مبرر، فضلًا عن شتمها أو الدعاء عليها بسوء، كما قد يصدر من بعض ربّات البيوت وأفراد العائلة تجاه خادمتهم.
ولا يصحّ إرهاقها بالعمل فوق طاقتها، من دون سقف زمني، فلا بُدّ من تحديد ساعات لراحتها، وأن تكون لها عطلة أو إجازة أسبوعية، وتعطى أجرها في الموعد المحدد دون تأخير؛ لأنّ عوائلهنّ يعتمدن على رواتبهنّ.
إننا نقرأ في سيرة الزهراء كيف كانت تتعامل مع خادمتها فضة بكلّ رعاية واحترام، فقد أوصاها رسول الله أن تقاسمها الخدمة، فتقوم الزهراء بشؤون المنزل يومًا، وتقوم فضة بذلك في اليوم التالي.
روي أنّ سلمان الفارسي قال: كانت فاطمة جالسة قدّامها رحى تطحن بها الشعير، وعلى عمود الرحى دم سائل والحسين في ناحية الدار يتضوّر من الجوع، فقلت: يا بنت رسول الله، دبرت كفاك وهذه فضة، فقالت أوصاني رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن تكون الخدمة لها يومًا، فكان أمس يوم خدمتها [7].
إنّ على النساء المؤمنات المحبّات للزهراء، والمواليات لها، أن يستحضرن هذا النموذج في سيرتها، ليقتدين بها، فيحترمن إنسانية الخادمات لهنّ، ويراعين حقوقهنّ.
تقارير وقصص مرعبة
تتناقل وسائل الإعلام بين الفينة والأخرى، تقارير مؤسفة عن صور المعاناة لبعض خادمات المنازل في المملكة، وبعضهن يقدمن على الانتحار، وعدد كبير منهن يلجأن إلى الهرب من منازل مخدوميهم، وهناك من يرفعن الشكاوى إلى سفارات بلادهنّ، كلّ ذلك بسبب سوء المعاملة التي يتعرضن لها، من الإهانة والتعنيف والإرهاق، وتأجيل الرواتب.
نُذكّر هنا بالحديث المروي عن أبي مسعود البدري أنه قال: كنتُ أضرب غلامًا لي. فسمعتُ من خلفي صوتًا: (اعلمْ، أبا مسعودٍ! الله أقدرُ عليك منك عليه)، فالتفتُّ فإذا هو رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ. فقلتُ: يا رسولَ اللهِ! هو حُرٌّ لوجه اللهِ. فقال: (أما لو لم تفعلْ، للفحتْك النارُ) [8].
إنّ سوء المعاملة قد يدفع بعض الخادمات نحو الإجرام، والاعتداء على حياة مخدوميها وأطفالهم، كما يحدث كثيرًا، وتنقله وسائل الإعلام.
شهدت السعودية في العامين الأخيرين سلسة حوادث راح ضحيتها أطفال ونساء على يد عاملات منزليات، حيث تم تسجيل أكثر من 9460 جريمة قامت بها عاملات منزليات في الأشهر التسعة الماضية، كان أخطرها ثلاث جرائم قتل، ونحو 34 جريمة اعتداء عنيف [9].
وتم تسجيل 11 تصنيفًا لجرائم العاملات المنزليات في السعودية، من هرب، واعتداء على الأطفال، وإقامة علاقات غير مشروعة مع غرباء، وتسهيل دخول لصوص إلى المنزل، وإقامة علاقات مع أحد من العمالة في المنزل، والسرقة، والسحر، والشعوذة، والاعتداء على الزوجة، والسبّ والشتم، وإقامة علاقة غير مشروعة مع أحد أفراد الأسرة [10].
كما أظهرت دراسة سعودية أنّ فئة الخدم هي الأكثر ممارسة للعنف ضدّ الأطفال داخل المنازل بنسبة 38.3% [11].
ضوابط وملاحظات
إنّ على ربة البيت، وسيدة المنزل، ألّا تسمح للخادمة أن تكون بديلًا عنها في إدارة شؤون المنزل، وتربية الأولاد ورعايتهم، كما يحدث في واقع بعض العوائل، حيث تلقي الأم معظم الأعباء على الخادمة، فهي التي تقوم بمختلف الأمور المرتبطة بالأطفال، من تنظيفهم، وقضاء احتياجاتهم، وحملهم، حتى إنّ تعلّقهم بالخادمة قد يصبح أكثر من تعلقهم بالأمّ.
وفي ذلك سلبيات تربوية خطيرة، ويتحدث بعض الأزواج أنّ الزوجة قد لا تعرف عن متطلبات المنزل، اعتمادًا على الخادمة، التي تصبح وكأنّها كلّ شيء في البيت، أما الزوجة فكأنها ضيف شرف.
من ناحية أخرى، يجب الالتفات إلى أنّ الخادمة امرأة أجنبية، فلا بُدّ من مراعاة مسائل العفّة والحجاب، فلا تبدي من جسمها أمام البالغين من الذكور في العائلة ما يجب على المرأة ستره، ولا يتعامل معها الرجل وكأنّها محرم عليه، بل هي أجنبية تنطبق عليها كلّ أحكام المرأة الأجنبية في الستر والنظر والملامسة.