التنافس على الخدمة بين أفراد العائلة
ورد عن رسول الله أنه قال: "خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي" [1].
تنطوي نفس الإنسان على مختلف الميول والتوجّهات السلبية والإيجابية، كما يقول تعالى: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا﴾ [سورة الشمس، الآيتان: 7-8].
وللبيئة التي ينشأ ويعيش فيها الإنسان دور أساس في تنمية ميوله وتوجّهاته السلبية منها والإيجابية، فإذا كانت بيئة صالحة أظهرت وعزّزت في نفسه وسلوكه توجّهات الصلاح، أما إذا كانت البيئة غير صالحة فستنمو في شخصيته ميول الشّرّ والفساد.
والعائلة هي الدائرة الأقرب والأكثر تأثيرًا على توجّهات الإنسان وسلوكه، فقد تنمو عنده حالة الأنانية أو الغيرية، وحالة النظام أو الفوضى، وحالة المسؤولية أو اللامبالاة، وحالة التسامح أو التعصّب والتشدّد.
إنّ الأجواء السائدة في العائلة، وطريقة إدارة الحياة فيها، وأسلوب التعامل بين أفرادها، هو ما يؤثر بشكل كبير على صياغة نفسية الإنسان وتشكيل نمط سلوكه.
ويمكننا أن نرصد ثلاث منحنيات في أسلوب إدارة الشأن العائلي:
التسيب واللامبالاة
تعيش بعض العوائل حالة من التسيّب واللامبالاة في تصريف أمورها، فلا وقت محدّدًا لإعداد الطعام وتناوله، فقد يذهب الأطفال للمدرسة دون تناول وجبة الإفطار، وقد يعودون من المدرسة فلا يجدون وجبة الغداء حاضرة، وقد لا يرون أحدًا في البيت يستقبلهم عند عودتهم، وليس هناك تنظيم لوقت النوم، فبعضهم يسهر لوقت متأخر، وبعضهم ينام لمنتصف النهار، وقد يقضي بعض الأبناء ليلته خارج المنزل.
وحاجات المنزل قد لا تتوفر بسرعة، وإذا ما احتاج شيء في المنزل للصيانة فقد يمرّ وقت طويل قبل إنجاز إصلاحه.
وحين يصاب أحد افراد العائلة بعارض صحي، لا يجد اهتمامًا مناسبًا لعلاجه، وفي التعليم ليست هناك متابعة جادة لدراسة الأولاد، ولا تواصل مع مدارسهم.
فماذا يُتوقع من سلوك أفراد عائلة تعيش مثل هذا الوضع؟
لا شك أنهم سيتربون على هذا المسلك وتنطبع حياتهم بطابع التسيّب واللامبالاة.
الاتكالية والاعتمادية:
بعض الأسر والعوائل تسودها حالة من المركزية الشديدة، بأن يتحمل ربّ الأسرة كلّ الأمور، أو تقوم المرأة بكلّ المهام، بينما لا تكون لسائر أفراد العائلة أيّ مسؤولية أو دور، بل يتّكلون على الأب في توفير كلّ الاحتياجات، ولو حصل أيّ نقص لا يبادر أحد لتلافيه، ويعتمدون على المرأة في القيام بكلّ الخدمات، مهما تراكمت أو تعطلت، فلا أحد غيرها معنيٌ بالأمر.
وهذا الأسلوب ينتج الإرهاق والعناء لطرف، ويكرّس روح الاتكالية والاعتمادية على الغير في نفوس أعضاء الأسرة، كما يؤدي إلى تعطيل مصالحهم.
التعاون والمشاركة:
يُفترض أن علاقة الفرد بأسرته هي أعمق وأوثق علاقة، فهي أصله ومحضنه، وبها ترتبط عواطفه ومصالحه، إنه جزء منها وعضو فيها، وينعكس عليه واقعها، وتتأثر حياته بأوضاعها، فهو إذًا معنيٌّ بأمورها، وهذا ما يوجب أن يفكر أفراد الأسرة في شؤونها، وأن يتعاونوا معًا لإنجاح حياتهم العائلية، وإدارة منزلهم على أفضل وجه.
فالمرأة ينبغي أن تشعر الرجل بعونها له في تأمين النفقات الاقتصادية، حسب إمكانها، وخاصة إذا كان مضغوطًا من الناحية الاقتصادية، وأن تُحسن تدبير أمور المنزل لخفض المصروفات.
والرجل ينبغي له أن يساعد زوجته في أداء خدمات المنزل المتعارفة، وفي تحمّل مسؤولية التربية والرعاية للأبناء.
الخدمة المنزلية بين أعضاء الأسرة
وما يمارسه أكثر الرجال من إلقاء كلّ أعباء شؤون المنزل على المرأة، إضافة إلى تحمّلها دور الأمومة وتربية الأبناء، وحتى متابعة تعليمهم، يمثّل تخلّيًا وتهرّبًا من المسؤولية، قد ينعكس سلبيًّا على واقع حياة الأسرة، ومستوى تلاحمها الداخلي، وحسن مستقبل أبنائها.
لقد ورد عن رسول الله أنه قال: "خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي".
كما تحكي السيرة النبوية عن مشاركته لزوجاته في تدبير شؤون المنزل، فقد سئلت السيدة عائشة: (ما كان رسول الله يعمل في بيته؟ فقالت: كان بشرًا من البشرِ، يَفْلِي ثوبَه، ويحلبُ شاتَه، ويخدم نفسَه) [2]، وروى البخاري عنها أنها قالت: "كان يكونُ في مهنةِ أهلِه، تعني خدمةَ أهلِه، فإذا حضرتِ الصلاةُ خرجَ إلى الصلاةِ"[3] .
وفي حياة الزهراء ينقل لنا التاريخ صورًا من مشاركة عليّ لفاطمة في أداء مهام الخدمة المنزلية، فقد جاء عن ابن شاذان: "أنه دخل رسول الله على عليّ فوجده هو وفاطمة يطحنان في الجاروش، فقال النبي : أيّكما أعيى. فقال عليٌّ: فاطمة، يا رسول الله، فقال لها: قومي يا بنيّة، فقامت وجلس النبي موضعها مع عليّ فواساه في طحن الحبِّ"[4] .
وعن الباقر : "إنّ فاطمة ضمنت لعليّ عمل البيت والعجين والخبز وقمّ البيت، وضمن لها عليّ ما كان خلف الباب نقل الحطب وأن يجيء بالطعام"[5] .
وعن أبي عبد الله الصادق قال: كان أمير المؤمنين يحتطب ويستقي ويكنس وكانت فاطمة تطحن وتعجن وتخبز"[6] .
من جانب آخر، ينبغي إشراك الأبناء في إدارة البيت، ليتربوا على تحمّل المسؤولية، ويكتسبوا تجارب الحياة، كما كان متعارفًا في مجتمعاتنا إلى وقت قريب، حيث كانت البنت تساعد أمها وتكتسب الخبرة منها، وكان الولد يشارك في قضاء حاجات العائلة، أما التعامل مع الأبناء وكأنهم ضيوف شرف، لا يرتّبون حتى غرف نومهم، ولا يغسلون الكأس الذي يشربون منه الماء، فهذا ما قد يربيهم على الكسل، وضعف الجدّية والاهتمام.
ونسمع الآن عن بعض الفتيان والفتيات ممن يدخلون الحياة الزوجية، ولكن تنقصهم الخبرة في إنجاز أدنى الخدمات المنزلية، مما يؤثر في بعض الأحيان على نجاح التجربة العائلية.
إن حالة التعاون والمشاركة بين أفراد العائلة في إدارة شؤونها، تصب في مصلحتهم جميعاً، وتحقق للأسرة مكاسب كبيرة:
أولًا: تنمي المشاعر الإيجابية، وتكرّس روح الشعور بالمسؤولية في نفوسهم، وهذا ينعكس على سلوكهم خارج المنزل، فيكونون أكثر تهيؤًا واستعدادًا للتعاون مع زملائهم في العمل، وأصدقائهم في الحياة، ويخلق لديهم توجهات العمل الخيري والتطوعي. وبعبارة أخرى تنمو عند أفراد هذه الأسرة الروح الغيرية، وحب مساعدة الآخرين، ومهارة التعاون والمشاركة.
ثانيًا: تشدّ أفراد الأسرة إلى بعضهم، وتقوّي انتمائهم العائلي، حيث يشعر كلّ واحد منهم بدوره وبحضوره، وأنه شريك في إنجازات العائلة، كما يتحمل نصيبه من كلّ فشل أو انتكاسة تمرّ بها، فوجوده أساس وفاعل داخل أسرته، وليس هامشيًّا لا يختلف حضوره عن غيابه.
ثالثًا: تصبح أمور العائلة أكثر انتظامًا، وتكون مهمّاتها أقرب إلى النجاح، كما ترتفع فيها درجة الحصانة والمناعة تجاه المشاكل والسلبيات التي قد تحدث في الحياة العائلية، لأسباب داخلية وخارجية.
نظام للحياة العائلية
من أجل أن تتحقق حالة التعاون والمشاركة بين أعضاء الأسرة، لا بدّ من تكريس نظام للحياة العائلية، وعدم ترك أمور المنزل للتقلبات المزاجية أو الممارسات العفوية والارتجالية.
وليس المقصود أن يكون هناك قانون مكتوب ونظام مفروض، وإنّما المطلوب تكريس واقع إيجابي في تسيير أمور العائلة ينبثق في الأصل من وعي الزوجين وإرادتهما، ليتربى عليه الأولاد، ويتشكّل من خلاله سلوكهم في الحياة المنزلية.
ويمكننا الإشارة إلى بعض الجوانب كمعالم للنظام العائلي:
أولًا: التفكير المشترك في قضايا المنزل وأمور العائلة، ليشعر الجميع بالمسؤولية، ويشتركوا في اتخاذ القرارات، فحين يجلس الوالدان مع الأولاد ويتبادلون الرأي حول أيّ موضوع يرتبط بالشأن العائلي، كإعادة ترتيب المنزل، أو تنظيم المصروفات، أو الإعداد لرحلة سياحية، أو وضع برنامج غذائي، أو ما شابه، فإن ذلك يعزّز اهتمامهم بالأمر، ويستثير أفكارهم لتقديم مقترحات تنضج من خلال النقاش، وربما التفت أحد الأولاد لزاوية كانت غائبة عن نظر الوالدين.
كما أنّ المشاركة في صنع القرار يدفع الجميع للعمل على تطبيقه وإنجاحه، حيث يرى كلّ واحد منهم أنه قراره.
لذلك أكّد القرآن الكريم على المشاورة بين الزوجين في موضوع إنهاء فترة رضاع الولد يقول تعالى: ﴿... فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا...﴾ [سورة البقرة، الآية:233].
ثانيًا: الحضور المنتظم: البيت هو مأوى أفراد العائلة، والمكان الذي يجمعهم، فمن الطبيعي أن تكون لكل فرد من العائلة التزامات ومهام خارج المنزل، لكن البيت هو قاعدة الانطلاق، وتكون الأوبة إليه، بحيث يجتمع أفراد الأسرة ويلتقون ويتفقد بعضهم بعضًا، عند أوقات الوجبات وقبيل النوم، وفي سائر الأوقات المناسبة لهم.
وهكذا كانت سيرة العائلة التقليدية في مجتمعنا، حيث يجتمع أفراد العائلة على سفرة الطعام، ولا يتغيّب أحدهم إلا لعذر معروف، كما لا يأوي الوالدان إلى فراشهما إلا بعد الاطمئنان على عودة الأبناء.
وإذا كان اختلاف طبيعة الحياة يفرض شيئًا من المرونة والتغيير، لكنه يجب أن يكون ضمن حدود متفق عليها، فقد تسللت بعض العادات السلبية إلى كثير من العوائل، كتأخر أفراد العائلة ليلًا خارج المنزل، حيث يسهر الأب مع أصدقائه إلى ساعة متأخرة، وتشارك الأم في بعض المناسبات الاجتماعية كأفراح الزواج إلى قرب الفجر، ويقضي الأولاد معظم الليالي وخاصة ليالي العطل مع شلتهم وأصدقائهم.
كما اختلّ نظام الوجبات التقليدية عند بعض العوائل، فلا تكاد العائلة تجتمع على وجبة طعام في اليوم، فهذا يذهب للمطعم، وذاك يتغدى مع شلته، والآخر يأتي متأخرًا ليأكل وحده.
إنّ ضعف الانتظام في الحضور للمنزل له آثار وانعكاسات سلبية يشير إليها الباحثون، وتتناولها الدراسات الميدانية عن جنوح الأحداث، وانحدار المستوى التعليمي، ومن يقعون في الانحرافات السلوكية.
ثالثًا: التزام النظام والترتيب لأشياء المنزل: فلكلّ شيء مكانه، وكلّ شيء يجب أن يكون في مكانه، ولا بدّ أن يتعلم ويتدرب كلّ فرد على إعادة ترتيب كلّ شيء يستخدمه في المنزل، بدءًا من سرير نومه، ووضع ما يحتاج للغسيل في المكان المخصص له، وترتيب أغراضه الشخصية.
إنّ ذلك هو ما يربي الفرد على التعامل المنظم مع الأشياء، ويبعده عن سلوك التسيّب والفوضى، وألّا يكون اتّكاليًّا على الآخرين في شؤونه الخاصة به، كوالدته أو زوجته.
رابعًا: توزيع المهام وتقاسمها، بأن يتحمّل كلّ فرد إنجاز مهمة من المهام، ولو مرة في الأسبوع، كسقي الحديقة، أو تنظيف واجهة المنزل، أو تفقد الكراج.
إنّ النصوص الدينية توجّه الإنسان لبذل الجهد في خدمة عائلته، وأنّ ذلك مدعاة لرضا الله تعالى وثوابه، إضافة إلى نتائجه الإيجابية على الحياة.
ورد عن رسول الله أنه قال: "خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي".
وعنه : "أكملُ المؤمنين إيمانًا أحسنُهم خُلقًا. وخيارُكم خيارُكم لنسائهم"[7].
وعن حصين بن محصن الأنصاري أنّ عمته أتت رسول الله فقال لها: أذات زوج أنتِ؟ قالت: نعم، قال: "انظري أين أنتِ منه، فإنما هو جنّتك ونارك"[8] .
وعن الإمام الصادق: "رحم الله عبدًا أحسن فيما بينه وبين زوجته"[9] .