تجريم التحريض الطائفي.. متى يتحقق؟
قال تعالى: ﴿وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا﴾
تلعب الثقافة السائدة في أيِّ مجتمع دورًا أساسًا في رسم مسار العلاقات الاجتماعية. ذلك أنّ العلاقة بين مختلف المكونات والفئات في أيِّ مجتمع أمر خاضع إلى لون الثقافة السائدة في المجتمع، فمتى ما كانت تلك الثقافة تبشر بالمحبّة، وتدعو إلى الاحترام المتبادل، فسينعكس ذلك إيجابًا واستقرارًا في شكل العلاقة بين أبناء ومكونات ذلك المجتمع، ومتى ما جرى العكس، وصارت الثقافة السائدة قائمة على أساس إثارة الضغائن والأحقاد والتحقير للآخر، فإنها من الطبيعي أن تخلق أجواء العداوة المتبادلة، وتحفّز على الاحتراب والنزاع والفرقة.
وتنطلق الثقافة الموجهة لمسار العلاقات المجتمعية من أربعة مصادر أساسية، تبدأ من داخل العائلة والمدرسة والخطاب الديني، إضافة إلى وسائل الإعلام. فكيفما وجهت العائلة أبناءها في النظر إلى الآخرين والتعامل معهم كانت العائلة بذلك تساهم في تشكيل وصناعة الثقافة العامة في المجتمع. والحال نفسه يجري على مناهج التعليم، فأينما اتجهت المناهج الدراسية في أيِّ مجتمع، اتجهت معها بوصلة العلاقات المجتمعية، فإن كانت تلك المناهج تدفع الطلاب المختلفين في انتماءاتهم، إلى نمط إيجابي في العلاقة فيما بينهم، فستجعلهم يحترمون بعضهم بعضًا، أما إذا كانت المناهج تربّيهم باتجاه آخر فإنّ من الطبيعي أن تكون العلاقة بين الطلاب على نحو مختلف.
ثم يأتي دور الخطاب الديني، فلا يخفى على أحدٍ ما لهذا الخطاب من تأثير متعاظم، وهو المتمثل في سيل الفتاوى والخطب من على مختلف المنابر، فهل يبشر هذا الخطاب بالمحبة، ويدفع الناس إلى الاحترام المتبادل؟ أم أنّ هذا الخطاب يجهد في تعبئة الناس بعضهم ضدّ بعض؟
والحال نفسه مع وسائل الإعلام، التي يتأثر عامة الناس بما تنشر من توجّهات وآراء وتحليلات، فهل تخدم الوحدة والتآلف أم تدعو إلى العداوة والتنافر؟.
إنّ جميع ما سبق يمثل اللاعب الأساس في خلق الثقافة السائدة في كلّ مجتمع من المجتمعات.
ثقافة المحبة والاحترام المتبادل
إنّ التعاليم الإسلامية تؤكّد أشدّ التأكيد على ثقافة المحبة والاحترام بين مختلف أبناء مكونات وفئات المجتمع. وكم في القرآن الكريم من آيات تدعو الناس إلى النظر إلى بعضهم بعضًا، نظرة إنسانية صِرْف، قال تعالى: ﴿وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّـهِ أَتْقَاكُمْ﴾، وجاء في آية أخرى قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَىٰ أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ عَسَىٰ أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ ۖ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ﴾. هكذا يؤكّد القرآن الكريم الثقافة التي تنشر وتعزّز الاحترام المتبادل بين الناس.
ولعلّ الآية الأشدّ صراحة في هذا الصدّد ما ورد في قوله تعالى: ﴿وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا﴾، واللافت أنّ الخطاب في الآية الكريمة لم يكن موجّهًا للمسلمين وحدهم، ولا لأيِّ فئة بعينها، وإنما جاء موجّهًا لعامة الخلق بقوله تعالى: ﴿وَقُلْ لِعِبَادِي﴾، ذلك أنّ غرض الآية إرساء منهج في العلاقة بين المجتمعات الإنسانية، على أن يكون هذا المنهج والخطاب المتبادل بين البشر، ليس قائمًا على الكلام الحسن وحسب، وإنما يقوم على اعتماد الخطاب الأحسن، أي الأكثر حسنًا. وتعلل الآية سبب اعتماد هذا النهج في قوله تعالى: ﴿إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ﴾، ومضمون ذلك أنّ الشيطان يقف على أهبة الاستعداد دائمًا لإفساد العلاقة بين البشر، وإثارة العداوة والبغضاء والاحتراب بينهم، ولا شيء أسرع في إفساد العلاقة بين الناس من الخطاب العام فيما بينهم، فإن كان خطابًا تعبويًا تحريضيًّا، فإنه بذلك يفتح الباب واسعًا لإنجاح خطط ومآرب الشيطان، وفي مقابل ذلك إذا كان الخطاب خطاب تسامح ومحبّة واحترام، فإن ذلك أكثر ما يفشل خطط الشيطان في الإفساد وتخريب العلاقات الاجتماعية.
يقول المفسّرون إن الآية الكريمة جاءت في سياق العلاقة بين المكونات الاجتماعية المختلفة على تعدّد انتماءاتها وتوجّهاتها. فقد أورد العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي في "الميزان في تفسير القرآن" في تفسير الآية ﴿وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾: "يظهر أنّ المؤمنين قبل الهجرة ربما كانوا يحاورون المشركين فيغلظون لهم في القول ويخاشنونهم بالكلام وربما جبهوهم بأنهم أهل النار، وأنهم معشر المؤمنين أهل الجنة ببركة من النبي فكان ذلك يهيج المشركين عليهم ويزيد في عداوتهم ويبعثهم إلى المبالغة في فتنتهم وتعذيبهم وإيذاء النبي والعناد مع الحقّ. فأمر الله سبحانه نبيه أن يأمرهم بقول التي هي أحسن"[1] ، وبذلك جاء الأمر الإلهي، وهو سبيل التخاطب والدعوة إلى طريق الهدى.
إنّ الله سبحانه مع سابق علمه باختلاف المؤمنين عن المشركين، إلا أنه مع ذلك يدعو المؤمنين إلى النأي عن فتح المجال للشيطان، ليبث العداوة بين الفئتين. كما ينسحب ذات الأمر على الفئات المختلفة ذات الانتماء الديني الواحد، وذلك حينما يكون هنالك اختلاف في الفكر أو الموقف السياسي، عندها ينبغي أن يكون الخطاب إيجابيًّا، وفي هذا الصدد، يروى أنّ أمير المؤمنين علي بن أبي طالب سمع قومًا من أصحابه يسبّون أهل الشام، وذلك في ذروة الخلاف الفكري والسياسي والحربي بين المعسكرين، لكن عليًّا خاطب أصحابه قائلًا: "إِنِّي أَكْرَهُ لَكُمْ أَنْ تَكُونُوا سَبَّابِينَ وَلَكِنَّكُمْ لَوْ وَصَفْتُمْ أَعْمَالَهُمْ وَذَكَرْتُمْ حَالَهُمْ كَانَ أَصْوَبَ فِي الْقَوْلِ وَأَبْلَغَ فِي الْعُذْرِ وَقُلْتُمْ مَكَانَ سَبِّكُمْ إِيَّاهُمْ اللَّهُمَّ احْقِنْ دِمَاءَنَا وَدِمَاءَهُمْ وَأَصْلِحْ ذَاتَ بَيْنِنَا وَبَيْنِهِمْ وَاهْدِهِمْ مِنْ ضَلَالَتِهِمْ حَتَّى يَعْرِفَ الْحَقَّ مَنْ جَهِلَهُ وَيَرْعَوِيَ عَنِ الْغَيِّ وَالْعُدْوَانِ مَنْ لَهِجَ بِهِ" [2] . هكذا توكد التعاليم الدينية أنّ تكون الثقافة السائدة في المجتمع ثقافة محفزة على التسامح، وفي منأى عن تعبئة كلّ طرفٍ ضدّ الآخر.
قوانين رادعة للتحريض
إلى ذلك، شرّع الإسلام قوانين ووضع عقوبات لردع المتجاوزين على الآخرين في خطابهم. فإلى جانب التوجيه والوعظ الأخلاقي إزاء النأي عن بثّ العداوة والبغضاء تجاه الآخرين، جاء الإسلام بتشريعات تردع المتجاوزين في كلامهم ضد الآخرين، فقد شرع الإسلام قانونًا لتجريم ومعاقبة من يسيء إلى غيره، ومن أمثلة ذلك؛ ما ورد من حدّ القذف، فأيّما أحد اتّهم آخر بالانحراف الأخلاقي الجنسي ولم يأتِ بأربعة شهداء على صدق مزاعمه، فإن للحاكم الشرعي أن يقيم عليه الحدّ. قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً﴾، فقذف الآخرين بالانحراف الأخلاقي، لا يمكن شرعًا أن يمرّ مرور الكرام، ولا يكفي لمواجهة هذا الأمر إسداء النصيحة للمسيء، وإنما توقع عليه العقوبة الرادعة المتمثلة بالجلد، وسيّان كان الأمر باتهام فردٍ واحد بالانحراف أم اتّهام جماعة من الناس بذات الفعل. فقد روي عن جميل بن دراج، قال سألت أبا عبد الله عن رجل افترى على قوم جماعة فقال: إن أتوا به مجتمعين ضرب حدًّا واحدًا، وإن أتوا به متفرقين ضرب لكلّ واحد منهم حدًّا"[3] ، وبذلك يشير الإمام إلى أنّ المفتري على الجماعة زورًا وبهتانًا، يمكن أن تقيم عليه الجماعة دعوى واحدة فينال جزاءه مرة واحدة، أما حينما يقيم عليه كلّ فرد منهم دعوى منفصلة، فإنّ للحاكم الشرعي أن يقيم عليه الحدّ في كلّ دعوى بمفردها، بمعزل عن الدعاوى الأخرى. ويقول الفقهاء إنّ عقوبة القذف لا بُدّ وأن تأخذ طريقها للتنفيذ سواء كان محلّ القذف مسلمًا أم غير مسلم.
وفي مناسبة أخرى، سئل الإمام الصادق "عن رجل سبّ رجلًا بغير قذف يعرض به، هل يُجلد؟ قال: عليه تعزير"[4] . والتعزير كما هو معلوم، هي العقوبة غير المنصوص عليها في الشريعة، وللقاضي أن يرى العقوبة المناسبة لردع المسيء، من سجن أو جلد أو غرامة مالية. كلّ ذلك حتى لا تكون كرامة الناس مستباحة، ولا تكون حقوقهم المعنوية مهدورة.
كما روي عن الإمام الصادق أنه قال: قضى أمير المؤمنين في رجل دعا آخر: ابن المجنون، فقال له الآخر: أنت ابن المجنون، فأمر الأول أن يجلد صاحبه عشرين جلدة، وقال: اعلم أنه مستعقب (مستحق) مثلها عشرين، فلما جلده أعطى المجلود السوط فجلده عشرين"[5] . وعن أبي حنيفة قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن رجل قال لآخر: يا فاسق، فقال: لا حدّ عليه ويُعزّر"[6] . وعن الباقر أنه قال: "قضى أمير المؤمنين في الهجاء التعزير"[7] .
استقرار المجتمعات المتحضرة
إنّ المجتمعات المتحضرّة تحترم فيها كرامة الناس. فلا يفسح المجال ولا يترك أيّ أحدٍ يتهم الآخرين في أخلاقهم ودينهم ويمضي في تعبئة الناس ضدّ بعضهم بعضًا. كما لا ينبغي أن تقف المسألة عند حدود التوجيه والتحذير، وإنما ينبغي أن تكون هناك عقوبة رادعة ضد من يعتدي على الحقوق المعنوية للآخرين، فهذا هو فحوى التشريعات الإسلامية الواردة في شأن الحدود وأحكام التعزير، ضمن جميع المذاهب الإسلامية.
لقد اتّجهت المجتمعات الحديثة نحو سنّ القوانين القاضية بتجريم الحضّ على الكراهية وإثارة العنصرية. فأيّما بلد من البلدان التي تزخر بالتنوع السياسي، القومي، العرقي، الديني، لا تسمح بأيِّ حالٍ بأن تهدر كرامة أيّ مكوّن من مكوناتها، بالتحريض أو اتّهام هذا المكون بمختلف ألوان التهم، ذلك أنّ القانون يجرم على نحو قاطع التحريض على الكراهية، وهذا أمر مرتبط بصميم المصلحة الوطنية للدول، واستقرار المجتمعات. ومردّ ذلك، إلى أن فسح المجال أمام التحريض والتعبئة، سيقود إلى العنف والاحتراب والنزاع.
وناهيك عن الدول المتقدمة، فقد اتجهت دول عربية نحو سنّ قوانين لتجريم التحريض وإثارة الكراهية والعنصرية. ومن ذلك دولة الكويت التي أصدر أميرها مرسومًا برقم 19 لسنة 2012 في شأن حماية الوحدة الوطنية، ونصّت المادة الأولى من المرسوم على التالي: "يحظر القيام أو الدعوة أو الحضّ بأيِّ وسيلة من وسائل التعبير.. على كراهية أو ازدراء أيّ فئة من فئات المجتمع أو إثارة الفتن الطائفية أو القبلية أو نشر الأفكار الداعية إلى تفوق أيِّ عرق أو جماعة أو لون أو أصل أو مذهب ديني أو جنس أو نسب أو التحريض على عمل من أعمال العنف لهذا الغرض .." [8] . كما أصدر الأردن قانونًا للعقوبات، جاء في المادة 150 منه، بشأن "الجرائم التي تنال من الوحدة الوطنية، أو تعكّر الصفاء بين عناصر الأمة"، وتعتبر المادة نفسها أنّ "كلّ كتابة أو خطاب أو عمل يقصد منه أو ينتج عنه إثارة النعرات المذهبية أو العنصرية أو الحضّ على النزاع بين الطوائف ومختلف عناصر الأمة، يعاقب عليه بالحبس مدة ستة أشهر إلى ثلاث سنوات وبغرامة لا تزيد على خمسين دينار"[9] .
إنّ بلدان المنطقة أحوج ما تكون لقوانين تجرّم الحضّ على الكراهية وإثارة العنصرية. وتتضاعف أهمية هذا الأمر في هذا الوقت الذي يشهد تفجّرًا في الغرائز العنصرية والطائفية، التي باتت تتوسل كلّ الوسائل والأساليب التي تزيد من أوار التعبئة وتقاذف التهم بين هذه الجهة وتلك. لا يصحّ أبدًا أن تترك الساحة مسرحًا للمحرضين والمعبئين ضدّ مكونات أساسية في المجتمع والوطن، لأنّ هذا يساهم في خلق الأرضية للاحتراب والعنف. إنّ جميع بلداننا في حاجة لمثل هذه القوانين الرادعة. وبعد أنْ حدث الاعتداء الإرهابي الآثم على حسينية المصطفى في قرية الدالوة ليلة العاشر من المحرم، تعالت الأصوات مرة أخرى من مختلف أرجاء الوطن ومن مختلف الاتجاهات، داعية إلى الإسراع في سنّ قانون يجرّم التحريض على الكراهية، فلقد تأخرت بلادنا كثيرًا على هذا الصعيد، وهذا التأخير كان بلا شك من العوامل التي ساعدت وهيأت الأرضية لمثل هذا الحادث الأليم. إنّنا نأمل أن يتجاوز وطننا هذه المشكلة، وأنْ يشرّع القوانين التي تحمي وتحفظ الوحدة الوطنية.
الخطبة الثانية حتى نقف صفًّا واحدًا أمام الإرهاب
ورد عن الإمام الباقر : «قال رسول الله : عجبًا للمؤمن، لا يقضي الله عليه قضاءً إلّا كان خيرًا له، سرّه أو ساءه»[10] .
يتطلع جميع البشر أفرادًا وجماعات إلى العيش في ظلّ الأمن والطمأنينة والرفاه. وهذا تطلّع مشروع، غير أنّ للحياة طبيعتها ومعادلاتها التي شاءتها الإرادة الإلهية، حيث يكون الإنسان فيها معرّضًا لشتّى أنواع الابتلاءات، مما يعيق تحقيق بعض أمنياته وتطلعاته. من هنا يأتي السؤال، عن الكيفية التي ينبغي أن يتصرف فيها الفرد أو المجتمع، حينما يجري تعويق تطلّعه نحو الأمن والطمأنينة والرفاه، وتعريضه للاعتداءات المؤلمة والحوادث الخطيرة.
هنا قد يستولي اليأس والقلق على النفوس فتصبح الدنيا سوداء قاتمة في أنظارهم. ربما قادت هذه الحالة إلى تصرفات وردود فعل غير سوية، وهذا أشدّ ما يضرّ بهؤلاء الناس ويعين غيرهم عليهم، فلا يعودون قادرين على ابتداع المعالجات الصحيحة، والمخارج السليمة من المآزق والمشاكل التي تعترضهم.
العقلانية لمواجهة المشكلات
إنّ من أهمّ معطيات الدين أنه يمنح الإنسان الثقة بالنفس والطمأنينة والأمل انطلاقًا من الإيمان بالله تعالى واعتماد مرجعية التعقل حيال التعامل مع المشاكل والحوادث، واعتبار ذلك من صميم طبيعة الحياة، التي ينبغي مواجهة تحدّياتها، عن طريق إثارة العقل وإعمال التفكير، لا من خلال تحفيز الغرائز وإثارة الانفعالات، التي لن تزيد سوى في إذكاء المشاكل وتأجيج أوارها، عوضًا عن التبصير بطرق المعالجة وسبل الخروج. يقول تعالى في هذا الصدد: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّـهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّـهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾، وبذلك يواجه الإنسان المؤمن المشاكل بقلب مطمئن، فيمضي في البحث عن ضوء الأمل حتى في نفق المصائب والمشاكل.
لقد مثلت واقعة عاشوراء معينًا لا ينضب إزاء سبل التعامل مع أسوأ المصائب وأمضّها. ولعلّ نظرة عابرة لبعض مواقف الإمام الحسين وأهل بيته ، نجد فيها أشدّ ما يثير الإعجاب والدهشة من المثالية العالية التي واجهوا بها المصائب التي حلّت عليهم في ذلك اليوم المؤلم. ومن ذلك، حين سأل والي الكوفة عبيدالله بن زياد العقيلة زينب بُعَيْدَ حادثة الطفّ مباشرة واستشهاد الإمام الحسين والعشرات من أبنائه وأنصاره، يسألها متهكّمًا: كيف رأيت صنع الله بأخيك؟، لتجيبه على نحو أبعد ما يكون عن اليأس والإحباط والهزيمة، وإنما بلغة الواثق المطمئنّ، بقولها: "ما رأيتُ إلّا جميلا"[11] . هذا هو منطق الإيمان والثقة والأمل والتفكير العقلاني في مواجهة المشكلة، وهي العوامل التي تقود المؤمن إلى الطريق السّواء.
إنّ الله تعالى يدعو الإنسان إلى البحث عن المردودات الإيجابية حتى من بين ركام الأزمات والشدائد، يقول سبحانه: ﴿وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ﴾، ويقول تعالى: ﴿فَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّـهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا﴾. إنّ ذلك لا يعني بأيِّ حالٍ ألّا يتألم الإنسان وألّا ينزعج من المشاكل، فهذا خلاف الطبيعة البشرية، إلّا أنّ السؤال هنا، هو عن كيفية مواجهة الحوادث وطبيعة ردّ الفعل عليها، فالمؤمن في أوقات الشدائد لا ينبغي أن يخرج في ردود أفعاله عن إطار العقل والحكمة. ولقد تناول هذه الصفة أمير المؤمنين في إحدى كلماته الخالدة في توصيفه للمؤمنين المتقين، بقوله: إن المؤمن "في الهزاهز وقور"، فالمؤمن وفقًا للإمام يبقى وقورًا متزنًا منضبطًا في مواقفه حتى في غمرة الاضطرابات والهزّات، فلا يندفع أبدًا خلف غرائزه وانفعالاته.
الاعتداء الإرهابي في الدالوة
إنّ الاعتداء الارهابي الآثم الذي وقع في قرية الدالوة بالأحساء ليلة العاشر من المحرم وراح ضحيته ثمانية شهداء يقدّم مصداقًا من مصاديق مواقف الوقار التي يتميز بها المؤمنون المتقون. فلا شك أنّ هذه الحادثة مثلت فاجعة مؤلمة، ذلك أنها المرة الأولى التي تشهد فيها المنطقة مثل هذا الاعتداء البشع، الذي طال ثلة من المؤمنين الأبرياء ممن كانوا يمارسون شعائرهم الدينية، ويتقربون إلى الله بإحياء ذكرى سبط رسول الله أبي عبدالله الحسين . ومع فقد المنطقة ثمانية شهداء أعزّاء، التحقت أرواحهم بالرفيق الأعلى، وجرح العديدين غيرهم، ناهيك عن حالة الرعب التي انتشرت جرّاء الحادثة المفاجئة، أدرك الجميع مع ذلك طمأنينة الإيمان، فجاءت ردود الفعل في غاية الحكمة والعقلانية والاعتدال، ليضربوا بذلك أروع الأمثلة في الصفاء والوعي الوطني حتى نال أهلنا المؤمنون في الأحساء بذلك إعجاب وتقدير نظرائهم في الوطن والعالم؛ لما أظهروا من التعاطي الإيجابي مع هذه الفاجعة المروعة الأليمة. لقد أثبت أهلنا في الأحساء ما كان معروفًا عن تاريخهم وسيرة أتباع أهل البيت .
كان ردّ فعل أهلنا في الأحساء على فاجعة الدالوة انعكاسًا لتربية أهل البيت ومدرسة عاشوراء. وقد برزت تجليات ذلك من خلال الإصرار على وحدة الصف، وإدانة المعتدي الظالم دون تعميم ولا انجرار خلف الفتنة، لقد جاءت هذه الحادثة لتوقظ الضمير الوطني، وتثير الوجدان الإنساني، ولتنبه إلى خطورة ما تقوم به بعض الجهات والقوى في بلادنا من إمعان في التجييش والتعبئة الطائفية، وممارسة التمييز والاقصاء. إنّ هذه الحادثة رغم فظاعتها، نأمل أن يجعل الله فيها للمجتمع وللوطن بأجمعه خيرًا كثيرًا، ذلك أنّ الحالة الطائفية، لا تنعكس أضرارها على من يقع عليهم الحيف فحسب، بقدر ما تضرّ الوطن برمّته، حكومة وشعبًا، فهذه الممارسات العدوانية هي ما يخلق أرضية النزاع والاحتراب، وتقويض الوحدة الوطنية، وهذا تحديدًا ما يريده أعداء الدين والوطن.
معالجة ملف الطائفية في البلاد
لذلك يحذونا الأمل أن يكون الاعتداء الإرهابي في الدالوة مفتاحًا لمعالجة ملف الحالة الطائفية في البلاد. وبحمد الله جاء تعامل الدولة مع الحادثة تعاملا جيّدًا ومشكورًا، وعلى غرار ذلك جاءت ردود الفعل متضامنة من جميع أرجاء الوطن، فقد هبّ الوطن كلّه من شماله إلى جنوبه ومن غربه إلى شرقه، ومن جميع المشارب والانتماءات والتوجهات، ليعلنوا عن تضامنهم ومواساتهم وتعاطفهم مع ضحايا الاعتداء الآثم. كما كان للمؤسسة الدينية موقف مشكور، عبر عنه مفتي المملكة وهيئة كبار العلماء ومختلف الكتّاب، وقد قدّر الجميع الموقف الرائع الذي ظهر به أهالي الأحساء بُعَيْدَ الحادثة، وهذا ما ينمّ عن انتباهة أدركت الجميع حول مدى خطورة المسألة الطائفية. وبهذا يبدو أنّ الأجواء باتت مهيئة، والفرصة سانحة، لشروع الدولة وأخذ زمام المبادرة، في معالجة الملف الطائفي الذي تأخرت معالجة الكثير من الجوانب فيه، حتى يتجاوز وطننا حالات التجييش والتعبئة الطائفية وممارسات التمييز والإقصاء.
إنّ تعرض بلادنا للاستهداف والهجمات المتكررة من الجماعات الإرهابية في الآونة الأخيرة، يجعل من المسارعة في معالجة الملف الطائفي في البلاد مسألة جوهرية؛ لأنّ الوطن أحوج ما يكون للوقوف صفًّا واحدًا في مواجهة الإرهاب، من خلال التعامل مع جميع المواطنين على قدم المساواة في الحقوق والواجبات وتكافؤ الفرص، فلا يتمتع بعضهم بالامتيازات فيما يشتكي الآخر الغبن الواقع عليه، يجب أن يقف الجميع صفًّا واحدًا في مواجهة الإرهاب وصدّ العدوان، وبذلك نجعل من هذا الاعتداء الوحشي منعطفًا إيجابيًّا في تاريخ البلاد.