تجلّيات المروءة في شخصية الإنسان
سئل الإمام الحسن عن المروءة؟ فقال: «شحّ الرجل على دينه، وإصلاحه ماله، وقيامه بالحقوق»[1] .
تتجسّد الأديان السماوية من حيث الجوهر في انبعاث الصفات والمعاني الإنسانية عند البشر، أكثر من تمثلها في حزمة من الطقوس والعقائد. ومن أبرز الصفات التي تدفع التعاليم الدينية نحو تمثلها معنويًّا وسلوكيًّا هي صفة «المروءة».
والمروءة عند الفرد تعني الحالة الإنسانية في أجلى صورها، حيث تتمثل المروءة في الصفات الأساسية التي ينبغي أن يتحلى بها الإنسان بما هو إنسان، من أمارات الخير، وصفات الكمال.
والمروءة كما هو واضح لا تبعد كثيرًا في اشتقاقها اللغوي عن معنى المرء، أي الإنسان، فقد استخدم القرآن الكريم مفردة المرء في معادل نوعي لمفردة الإنسان، قال تعالى: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ﴾، وجاء في آية أخرى قوله تعالى: ﴿يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ﴾، وجاءت مفردة المرء في الآيتين بمعنى الإنسان.
وتعني المروءة في جوهرها تلك الصفات التي يجب أن يتحلّى بها الإنسان بمقتضى إنسانيته. تلك الإنسانية التي جاءت الأديان من أجل بعثها عند البشر. لذلك ورد عن أمير المؤمنين أنه قال: «لا خير في دين ليس له مروءة»[2] ، وجاء عنه أنه قال: «المروءة اسم جامع لسائر الفضائل والمحاسن»[3] ، كما ورد عن الإمام الكاظم أنه قال: «لا دين لمن لا مروءة له»[4] ، ومضمون ذلك أن التديّن ليس مجرّد التزام أداء الطقوس والمعتقدات، وإنما هو بعث للمعاني الإنسانية في قلب الإنسان، وترجمتها إلى سلوك خارجي.
التمسّك بالدين
وهناك سلسلة من التجليات الواقعية للمروءة في حياة الأفراد، يشير الإمام الحسن بن علي عند سؤاله عن المروءة إلى جانب منها، بقوله في تعريف المروءة أنها: «شُحّ الرجل على دينه، وإصلاحه ماله، وقيامه بالحقوق»، ويتناول الشقّ الأول، أي شحّ الرجل على دينه، المدى الذي يذهب إليه الإنسان في التزام المبادئ الدينية الكبرى، باعتبارها سلوكًا أصيلًا في شخصيته، لا يمكن بأيِّ حالٍ أن يتخلى عنها تحت أيِّ ظرف، ترغيبًا أو ترهيبًا، والنأي عن المتاجرة بتلك المبادئ تبعًا لتقلب الظروف، وتغيّر اتجاه المصالح الخاصة.
ومن المعروف أنّ «الشح» في مجال المال هو انعدام الرغبة في إنفاقه، كذلك جاءت عبارة «شُحّ الرجل على دينه» في كلمة الإمام، بمعنى المحافظة على الدين بكلّ أبعاده وجوانبه، والحرص على عدم التفريط في الدين، على أي نحوٍ من الأنحاء، وهذا أهمّ تجلٍّ من تجلّيات المروءة.
إنّ بعض الناس لا يترددون في إبراز مظاهر التزامهم الديني، لكنهم في لحظة زمنيةٍ ما يظهرون الوجه الآخر من شخصياتهم. عندما تصطدم مبادئ الدين مع أهوائهم وشهواتهم ومصالحهم، فإنّهم سرعان ما يتنازلون عن مبادئهم الدينية.
وقد ورد عن أمير المؤمنين، في المقاربة بين التزام المبادئ والتفريط فيها تبعًا للمصلحة الدنيوية أنه قال: «وَاللَّهِ لَوْ أُعْطِيتُ الْأَقَالِيمَ السَّبْعَةَ بِمَا تَحْتَ أَفْلَاكِهَا عَلَى أَنْ أَعْصِيَ اللَّهَ فِي نَمْلَةٍ أَسْلُبُهَا جُلْبَ شَعِيرَةٍ مَا فَعَلْتُهُ»[5] ، وهذا عين التمسّك بالدين والنأي عن التفريط في المبادئ، أمام الاغراءات والشهوات، وقال في كلمة أخرى: «قَدْ يَرَى الْحُوَّلُ الْقُلَّبُ وَجْهَ الْحِيلَةِ وَدُونَهَا مَانِعٌ مِنْ أَمْرِ اللهِ وَنَهْيِهِ، فَيَدَعُهَا رَأْيَ عَيْنٍ بَعْدَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا، وَيَنْتَهِزُ فُرْصَتَهَا مَنْ لاَ حَرِيجَةَ لَهُ فِي الدِّينِ»[6] ، ومعنى ذلك أنّ صاحب الخبرة والحيلة قد يقف على ثغرات كثيرة، ربما يحقق من خلالها مصالح ذاتية، بتجاوز أوامر الله تعالى، أو الجرأة على نواهيه سبحانه، فيعرض عن تحصيل تلك المصالح وهو ليس بغافل عنها، بل عالم بها، ومدرك لقيمتها المادية التي يراها ماثلة أمامه رأي العين، لكنه في حقيقة الأمر لا يريد تجاوز أوامر الله من أجل تحقيق مصالح آنية، وهنا تحديدًا يتجلى الاختبار الحقيقي، فيما إذا كان المرء متمسكًا بمبادئه، شحيحًا على دينه، أم أنه من أولئك النهازين للمطامع، ولو على حساب دينهم ومبادئهم.
أين يتجلى الالتزام الديني؟
ومما يُذكر في هذا الشأن ما كتبه أحد المسلمين الملتزمين، بقوله إنّه تعلم الالتزام الديني من امرأة أجنبية غير ملتزمة أخلاقيًّا. ثم يشرح قائلًا إنه ارتبط بتلك السيدة في علاقة عاطفية، رغم كونه متزوجًا، وذات يوم وبينما هو معها إذ دخل وقت الصلاة، فاستأذنها مدة خمس دقائق حتى يؤدي الصلاة، فسألته تلك المرأة عما يفعل، فقال إنه رجل مسلم ملتزم، والإسلام يوجب عليه أداء الصلاة في وقتها، لذلك يريد تأدية الصلاة، يقول الرجل إنّ المرأة بادرته بالسؤال حينئذٍ، بقولها: وماذا يقول دينك في أمر خيانتك الزوجية التي أنت بصددها؟، فوقع عليه الكلام كالصاعقة، كمن كان نائمًا فاستيقظ فزعًا، فأخذ يحدّث نفسه بأن الله الذي أمر بالصلاة، هو جلّ شأنه الذي نهى عن الفاحشة، فبدأ عندها يُسائل نفسه، عما إذا كان التزامه الديني يمثل التزامًا حقيقيًّا أم أنه بخلاف ذلك.
وحقيقة الأمر أنَّ أكثر ما تظهر فيه قيمة شحّ الرجل على دينه، عندما تتراءى له مصلحة أو تلوح أمامه شهوة، أو يطمع في رغبة. فحين يراد من موظف أن يتواطأ على زميل بريء من زملائه، مقابل أن يحظى بترقية وظيفية ما، هنا يظهر حقيقة الالتزام الديني.
وقد نمى لعلمي في هذا السّياق أنّ أحد المؤمنين عُرض عليه الحصول على نصيب وافر من قطعة أرض شاسعة، في حال شارك في الاستحواذ على تلك الأرض من غير وجه حق، فأدركه الوازع الديني، ورفض المشاركة في ذلك، فسئل عن سبب تفويته لتلك الفرصة، وما إذا كان يجهل قيمة المكسب الذي ستدره عليه تلك الأرض، فأجاب بأنه يدرك ذلك جيّدًا، لكنه يأبى أن يدخل هذا المدخل غير الشرعي، وهذا هو المعنى الحقيقي لشحّ الرجل على دينه، وهذا أحد أكثر مظاهر المروءة جلاءً.
إدارة الشأن الاقتصادي
ويتمثل التجلّي الثاني للمروءة، في التوجه إلى إصلاح الوضع الاقتصادي الخاص. فإذا امتلك الإنسان الثروة والأموال، فسيكون بإزاء امتحان جادٍّ لمروءته، من خلال إظهار حسن التصرف والتدبير الجيّد، فليس من المروءة التراخي والتكاسل في إدارة الأموال الخاصة، بتركها عرضة للضياع والاختلاس على يد الآخرين. إن الإهمال في إدارة المال الخاص أمر مخالف للمروءة، فمن لا يهتم بإصلاح ماله فإنه مفتقد للمروءة، بحسب تعبير الإمام الحسن، ذلك أنّ الثروات الخاصة التي حباها الله الفرد، إنما هي أمانة ينبغي إظهار حسن التصرف بها، وتجنب هدرها وتبذيرها، بما يشمل ذلك سبل استثمارها، وطرق الإنفاق منها، مما يدخل في نطاق إصلاح المال.
إنّ التعاليم الدينية التي تلزم الانسان العقيدة الصحيحة، وتدعوه إلى العبادة المخلصة، هي التعاليم نفسها التي تطالبه بإظهار السلوك الحياتي الرشيد. إنّ تضييع الأموال نتيجة الإهمال أمر لا يدعو للفخر مطلقًا، ولن يفيد المهمل لثروته التبجح في المجالس مفتخرًا بأن المال المهدر عبثًا لا يعني له شيئًا، فذلك خلاف المروءة.
أداء حقوق الآخرين
أمّا التجلّي الثالث للمروءة، فهو قيام الإنسان بأداء حقوق الآخرين عليه. ومن ذلك حقوق الوالدين والزوج والأبناء والجيران والعاملين المستأجرين، وحقوق سائر الناس، هذا ما يؤكّده الإمام الحسن كمظهر أبرز لمروءة الانسان.
وجاء في هذا المورد عن أمير المؤمنين أنه قال: «جَعَلَ سُبْحَانَهُ مِنْ حُقُوقِهِ حُقُوقاً افْتَرَضَهَا لِبَعْضِ النَّاسِ عَلَى بَعْضٍ فَجَعَلَهَا تَتَكَافَأُ فِي وُجُوهِهَا وَ يُوجِبُ بَعْضُهَا بَعْضاً وَ لَا يُسْتَوْجَبُ بَعْضُهَا إِلَّا بِبَعْضٍ»[7] ، ومما ورد في هذا الشأن تحت عنوان: (من لم يشكر المخلوق لم يشكر الخالق) ما روي عن الإمام زين العابدين: «يقول الله تبارك وتعالى لعبدٍ من عبيده يوم القيامة: أشكرت فلانًا؟ فيقول: بل شكرتك يا ربّ، فيقول: لم تشكرني إذ لم تشكره، ثم قال: أشكركم لله أشكركم للناس»[8] . وعن الإمام الرضا: «من لم يشكر المنعم من المخلوقين لم يشكر الله عزّ وجلّ» [9] ؛ لأن المطلوب أداء حقوق الناس في كلّ مجالٍ من المجالات المادية والمعنوية.
الخطبة الثانية: كيف نواجه العنف ضدّ المرأة؟
أورد ابن عساكر عن عليّ عنه: «خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي، ما أكرم النساء إلا كريم، وما أهانهنّ إلا لئيم»[10] .
شاءت الحكمة الإلهية أن يتصف كلٌّ من الرجل والمرأة بصفات متفاوتة، وأن يضطلعا بأدوار مختلفة في هذه الحياة. ومن ذلك أن تظهر سمات القوة والخشونة في شخصية الرجل، وأن يتجلّى العطف والحنان في شخصية المرأة. ذلك لأن طبيعة دور الرجل في الحياة تتطلب جانبًا من القوة الجسدية، وطباعًا أقرب إلى الصلابة والخشونة.
أمّا طبيعة الدور الإنساني العظيم الذي تقوم به الأنثى في الحياة، فيقتضى أن تكون شخصيتها ممتلئة بالعطف والحنان والنعومة، وهذا الجانب العاطفي تحديدًا هو ما يحتاجه الذكر من شقّه الآخر، أي الأنثى، بدءًا من اللحظة التي يتكون جنينًا في رحمها، لتتحمل عندها آلام الحمل، ثم مخاض الولادة الخطير، ذلك المخاض الذي لو خيرت أيّ امرأة تكابده بين حياتها وحياة مولودها، لآثرت معظم الأمّهات حياة وليدها على نفسها.
إنّ الحنان الذي يتغذّى منه الإنسان مع حليب أمه، حين تحوطه بأحضانها، وتفديه بنفسها، وتغمره برعايتها، ليلًا ونهارًا، هو ذات الحنان والعطف الذي يحتاجه الرجل من المرأة، حتى يبنيا معًا حياة زوجية سعيدة، حيث تجتذبه بنعومتها وعطفها وحبها، وذلك بأجمعه ما ينبغي أن يكون محلّ تقدير الرجل.
إلا أنه وعلى العكس من ذلك، كانت هذه الرقة والحالة العاطفية عند المرأة في الكثير من الأحيان دافعًا لاستقواء الرجل عليها، ولعلّ ذلك انعكاسًا لطبيعة الإنسان عند الشعور بالقوة تجاه من هم أضعف منه، حيث يجد في ذلك إغراءً وتشجيعًا على الاعتداء والتجاوز على حقوق الآخرين، وهذا عين ما نجده من تعسّف السلطات بحقّ الشعوب، وتجبّر الأغنياء على الفقراء، وتعنّت أرباب العمل على العاملين، في مصداق للآية الكريمة: ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآَهُ اسْتَغْنَى﴾.
لا زالت المرأة تعاني العنف
ورغم التقدم الهائل الذي شهدته البشرية، إلا أنّ المرأة لا تزال محلًّا للعنف والعدوان الصادر عن الرجل. مع تطور أوضاع المرأة في العصر الراهن، على نحو مغاير لمعظم فترات التاريخ، بحيث لم تعد المرأة اليوم كما كانت بالأمس، سيما وقد امتلكت كثيرًا من مقومات القوة التي كان ينفرد بها الرجل، على مرّ العصور، فقد أصبح بيدها المال والعلم والمكانة الاجتماعية والوظيفية، وبالرغم من كلّ ذلك لم تتجاوز المرأة بعد حالة المعاناة من العنف والعدوان الصادر عن الرجل.
ولعلّ أبرز دليل على ذلك هو إعلان منظمة الأمم المتحدة يوم 25 نوفمبر من كل عام، باعتباره يومًا دوليًّا للقضاء على العنف ضد المرأة، حيث لا تزال تعتبر المرأة ضحية العنف والعدوان على شخصيتها وحقوقها في معظم دول العالم.
واللافت أنّ الإحصاءات الأممية، بحسب شعبة السكان في الأمم المتحدة، تشير إلى أنّ النساء يمثلن 49.7 بالمئة من تعداد السكان العالمي، أي إنهنّ يمثلن أقلّ من نصف البشرية بنسبة ضئيلة، لكنهن مع ذلك كنّ ولا زلن يمثلن النسبة العظمى من ضحايا العنف، في الدول النامية والدول المتقدمة على حدٍّ سواء.
فقد أشارت الإحصاءات الصادرة عن الأمم المتحدة بمناسبة اليوم العالمي للقضاء على العنف ضد المرأة، إلى أرقام مزعجة، ففي الولايات المتحدة الأمريكية وحدها، تتعرض امرأة للضرب على يد زوجها أو شريكها كلّ 15 ثانية، وفي روسيا تتعرض 3600 امرأة للضرب يوميًّا على أيدي أزواجهنّ.
لماذا تضطهد المرأة؟
هناك جملة من الأسباب تقف خلف تزايد حالات الاعتداء والعنف ضد المرأة. فبالإضافة إلى تفشّي حالة الاستقواء الجسدي على المرأة عند الرجال عامة، هناك أيضًا ثقافة شائعة عند كثير من المجتمعات تبرّر هيمنة الرجل على المرأة، لمجرّد كونها امرأة وحسب.
والأنكى من ذلك حين تسبغ الصبغة الدينية لحالة الهيمنة الذكورية على المرأة في المجتمعات المحافظة، مع أنّ الدين لا يقبل بالظلم على أيِّ نحوٍ كان، بل العكس هو الصحيح، فالدين يدعو لتقدير المرأة واحترامها.
فقد أورد ابن عساكر عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عن رسول الله أنه قال: «خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي، ما أكرم النساء إلا كريم وما أهانهنّ إلا لئيم»[11] . واللافت أنّ القناعات السائدة وسط النساء أنفسهن قد تشكل عاملًا آخر من عوامل انتشار العنف ضد المرأة، فقد أشارت الإحصاءات إلى أن 50 بالمئة من النساء في العالم يعتقدن أنّ العنف المرتكب ضدهنّ من قبل الرجل هو عنف مبرّر، ما يعني القبول ضمنًا بالوقوع ضحية للعنف المرتكب بحقهن، وذلك بالنظر إلى نمط التربية النفسية والمجتمعية اللائي درجن عليها.
لا بُدّ من تغيير ثقافي
لقد آن الأوان لأنْ تتغيّر ثقافة القبول بوقوع المرأة ضحية العنف، تحت غطاء أو آخر، في مختلف المجتمعات. ولعلّ من وسائل التغيير على هذا الصعيد، أن يجري تصحيح الثقافة الدينية الشائعة، من خلال إثارة النصوص الدينية الصحيحة التي تحترم كيان المرأة، وتوصي بها خيرًا، وكم في القرآن الكريم وفي السنة الشريفة من النصوص التي تشيد بمكانة المرأة، طفلة وأختًا وزوجة وأمًّا؟ لكنّ النصوص الأكثر انتشارًا هي التي تدعم المزيد من هيمنة الرجل على المرأة، مع ما يصاحب تلك النصوص من ترجمة متعسفة، وعلى النحو الذي يخدم حالة الاستقواء على المرأة، ومن ذلك الآية الكريمة ﴿الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ﴾، إلى جانب الروايات الواردة في هذا السياق، من قبيل «لو كنت آمر أحدًا بالسجود لأحدٍ، لأمرت المرأة بالسجود لزوجها».
في مقابل ذلك يجري تجاهل كثير من النصوص الأخرى التي تؤكّد مكانة المرأة، ومن ذلك النص الوارد عن النبي: «الجنة تحت أقدام الأمّهات»[12] ، و: «تحت أقدام الأمهات، روضة من رياض الجنة»[13] ، وفي رواية أخرى: «جاء رجل إلى النبي فقال: يا رسول الله، مَنْ أبرّ؟ قال: أمّك، قال: ثم مَنْ؟ قال: أمّك، قال: ثم مَنْ؟ قال: أمّك، قال: ثم مّنْ؟ قال: أباك»[14] ، وفي صحيح مسلم: «قَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ أَحَقُّ النَّاسِ بِحُسْنِ الصُّحْبَةِ قَالَ أُمُّكَ ثُمَّ أُمُّكَ ثُمَّ أُمُّكَ»[15] أوَليست هذه الأمّ هي نفسها المرأة التي يجري تبرير الهيمنة عليها بكلّ السُّبل.
وقد ورد في السّياق نصوص كثيرة تحضّ على حسن التعامل مع الزوجة، والنهي عن إيذائها، فقد ورد عن رسول الله أنه قال: «ألا وإن الله عزّ وجلّ ورسوله بريئان ممن أضرّ بامرأة حتى تختلع منه»[16] ، أي إنّ الله سبحانه ورسوله بريئان ممن يضرّ بامرأته حتى يلجئها إلى طلب الطلاق منه، كما ورد عن النبي أنه قال: «إني لأعجب ممن يضرب امرأته وهو بالضرب أولى منها»[17] ، وقال أمير المؤمنين: «إنّ النساء عند الرجال لا يملكن لأنفسهنَّ خيرًا ولا نفعًا، وإنهنَّ أمانة اللّه عندكم فلا تضارّوهنَّ ولا تعضلوهنَّ»[18] .
هنا يمكن القول إنّه لا عبرة للحالات القليلة الشاذة التي تكون فيها المرأة هي المعتدية على الزوج، فلا يمكن تبرير حالات الاعتداء على المرأة بوجود نسبة من حالات الاعتداء الصادرة عن بعض النساء ضدّ أزواجهن. إنّ مجتمعاتنا الإسلامية في أمسّ الحاجة للثقافة التي تعيد للمرأة كرامتها. سيّما وقد أصبحت مظاهر إيذاء المرأة، والعنف الأسري في مجتمعاتنا، تنال من سمعة ديننا الحنيف، وتشوّه صورته على مستوى العالم.
حتى نعرف قدرها
ولغرض إدراك قيمة المرأة واحترام مكانتها، ينبغي فهم أدوارها العظيمة في الحياة. ويذكر في هذا السياق أنّ مستشفى صينيًّا عرض القيام بتجربة مصطنعة، على رجال متطوعين، توضح مدى المعاناة والآلام التي تنتاب المرأة، أثناء المخاض والولادة، وقد استجاب للتجربة نحو 100 رجل، وتم وضع أجهزة فوق منطقة البطن عندهم، بحيث تحدث الأجهزة صدمات كهربائية مشابهة لآلام الولادة، لمدة تتراوح بين خمس وعشر دقائق، وكانت تلك كافية للتسبب بأوجاع مبرحة، تجعل المتطوع يتلوى ألمًا، حتى إنّ أحد المتطوعين لم يستطع تحمل الآلام لأكثر من دقيقة إلى دقيقتين فقط، وانسحب من التجربة، ويقول القائمون على التجربة إنّ أكثر المتطوعين لم يستطيعوا تحمل آلام التجربة المصطنعة، مع أنّها لا يمكن أن تضاهي آلام الولادة الحقيقية[19] . ينبغي للرّجل أن يدرك حجم الألم الذي تكبّدته زوجته لتنجب له أطفالًا، فهي بين الحمل والولادة كانت في حقيقة الأمر بين الحياة والموت، هذا إنْ لم تكن شارفت على الموت فعلًا، فكيف للرجل أن يكافئها على صنيعها هذا.
إنّ قسوة الأزواج على زوجاتهم تترك أثرها السلبي والدائم في نفوس الأبناء. ويؤكّد تقرير علمي نفسي أنّ علاقة الرجل بأبنائه تتأثر إلى حدٍّ كبير بعلاقته بزوجته أمّ أطفاله، ويعلل التقرير بأن الأولاد الصغار الذين يرون أباهم يسيء معاملة أمهم بالضرب والاهانة، فإنّ انعكاس ذلك يكون مدمّرًا على نفسيتهم ومشاعرهم؛ لكونهم يرون أمّهم التي يعتبرونها ملجأهم الأخير في تلك الحالة المزرية.
وتشير الإحصاءات إلى أنّ نسبة كبيرة من الأبناء الذين يكرهون آباءهم وقد يُسيئون إليهم، إنما يفعلون ذلك نتيجة لرد فعلهم على ما رأوه من سوء معاملة الآباء لأمّهاتهم، ولا تفسير لتصرف الأبناء إلّا بأنه نوع من الانتقام اللاواعي من تصرف الأب بحقّ أمّهم، ويضيف التقرير أنه بالرغم من اعتقاد بعض الآباء أنّ زوجاتهم هن من يقمن بزرع كراهية الأبناء لهم، إلّا أنّ ذلك الاعتقاد خاطئ جملة وتفصيلًا، فما يلحظه الأبناء من سوء معاملة الأب لأمّهم هو الذي يزرع شيئًا من الكراهية في نفوسهم تجاه الأب.
ولطالما سمعنا من الأبناء حتى العقلاء والمتديّنين منهم ممن يأتون على سيرة آبائهم الراحلين بالإشادة، إلّا أنّهم لا يملكون مع ذلك إلّا التصريح بمرارة عن مآخذهم على قسوة الأب على أمّهم، وكأن ذلك الجرح النفسي يأبى أن يندمل في نفوسهم. لذلك ينبغي للأب الذي يحبّ أبناءه ويريد إكرامهم، أن يضع في اعتباره أنّ تعامله مع زوجته أمّهم له دور كبير في إشعار الأبناء بالكرامة والتقدير.
علينا جميعًا بمناسبة اليوم العالمي للقضاء على العنف ضدّ المرأة، أن نستذكر جهود أمّهاتنا، وأن نستمطر لهنّ الرحمات. وأن نقابل جهود وأتعاب زوجاتنا بالتقدير، وأن نحترم مشاعر بناتنا، كما يعلّمنا الدين، وتربينا تعاليم النبي الذي كان مضرب المثل في التعامل الحسن مع زوجاته وبناته، ذلك التعامل الذي ينبغي أن نقتدي به وهو القائل: «خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي».