أعياد الميلاد والمؤشّر الديني
روي عن عيسَى ابن مَريَمَ أنه قال: «يا مَعشَرَ الحَوارِيّينَ، لي إلَيكُم حاجَةٌ، اِقضوها لي. قالوا: قُضِيَت حاجَتُكَ يا روحَ الله، فَقامَ فَغَسَلَ أقدامَهُم، فَقالوا: كُنّا نَحنُ أحَقَّ بِهذا يا روحَ الله! فَقالَ: إنَّ أحَقَّ النّاسِ بِالخِدمَةِ العالِمُ، إنَّما تَواضَعتُ هكَذا لِكَيما تَتَواضَعوا بَعدي فِي النّاسِ كَتَواضُعي لَكُم. بِالتَّواضُعِ تَعمُرُ الحِكمَةُ لا بِالتَّكَبُّرِ، وكَذلِكَ فِي السَّهلِ يَنبُتُ الزَّرعُ لا فِي الجَبَلِ»[1] .
درجت شعوب العالم على الاحتفاء مطلع السنة الميلادية الجديدة، بذكرى ميلاد نبيّ الله المسيح عيسى بن مريم. حتى بات ميلاد السيّد المسيح المناسبة التاريخية الأبرز في حياة البشر، وبات التاريخ الميلادي هو التاريخ المعتمد عالميًّا. وبصرف النظر عن مدى الدقة في تزامن التاريخ المعتمد مع تاريخ الميلاد الفعلي للسيّد المسيح، ففي ذلك نقاش كما في سائر المناسبات التاريخية الأخرى، بما في ذلك الإسلامية منها، وكذلك بصرف النظر عن التفاصيل المتداولة لميلاد السيّد المسيح، التي تناولها القرآن الكريم مفصلًا، حيث تناول القرآن بالتفصيل قصّة ولادة نبيين فقط دون سائر الأنبياء، هما نبي الله موسى ونبي الله عيسى، وبعيدًا ـ مرّة أخرى ـ عن تقاليد وأشكال الاحتفاء بأعياد الميلاد، فلكلّ مجتمع تقاليده وأعرافه الدينية والاجتماعية، نقول بصرف النظر عن جميع ذلك، يمكن النظر للاحتفاء السنوي العالمي بذكرى ميلاد نبيٍّ من الأنبياء، وهو السيّد المسيح، باعتباره مؤشّرًا ودليلًا على عمق الميل الديني في نفوس بني البشر، بالرغم من كلّ مظاهر الحضارة المادية الجارفة، ورغم ما مرّ على البشرية من عظماء آخرين، علماء ومفكّرين ومكتشفين!. وهنا تحضرني مقولة أحد المفكرين من أنّ «الإنسان كائن ديني»، حيث لا يستغني في كينونته عن الميول والتوجّهات الدينية، فهو أمر متجذّر في حياة البشر.
لم تكن الثورة على الدين في الغرب
وينبغي النظر إلى الثورة على الكنيسة في الغرب، باعتبارها ثورة على الاستبداد الديني حصرًا، لا ثورة على أصل الدين. ذلك أنه ربما شاع تصوّرٌ بعد تلك الثورة العارمة، من أنّ قطيعة ستجري بين تلك الشعوب وبين هويتها الدينية، غير أنّ ما حصل هو العكس من ذلك، فقد ثار الناس على الاستبداد الديني، والقيود الدينية الصارمة، التي وضعها رجال الكنيسة على الناس طويلًا، لكن الناس في مقابل ذلك عادوا لعمقهم الديني المتجذّر في النفوس، فالشعوب التي ثارت على الكنيسة لم تنسلخ من الدين تمامًا.
إنّ المجتمعات الغربية في توجّهها العام، لا تزال تنزع نحو الحفاظ على الهوية الدينية العامة، كما في الاحتفاء بأعياد الميلاد. وإلّا ماذا يعني أن يحتفلوا بميلاد النبي عيسى وينتسبون إليه، ويعتبرون الصليب شعارًا وهويّة لهم، في إشارة إلى ما يعتقدونه من صلب السيّد المسيح. إنّ هذا يدلّ قطعًا على الميل الديني، كما يدلّ على أنّ كلّ الأمواج العاتية المناوئة للدين، لم تفلح في اقتلاع الجذور الدينية في نفوس تلك الشعوب. وبالرغم من الحريات المطلقة، وغياب القدسية للأديان، وإخضاع مجمل المنظومة الدينية للمناقشة والبحث، والتشكيك العلمي بها، بما يصل إلى حدِّ التشكيك في الإنجيل، وفي أصل وجود السيّد المسيح نفسه، ناهيك عن النقد الشديد للكنيسة، وما يصدر من ممارسات منحرفة لرجال الكنيسة، التي أثارت ضجّة كبيرة في السنوات الأخيرة في أوروبا وأمريكا. غير أنّ الناس لا يزالون متمسكين بهويّتهم الدينية. وهذا ما يعطينا الثقة والاطمئنان بأنّ الأديان أقوى وأعمق في نفوس البشر من أن تقتلعها أو تهزّها الموجات التشكيكية أو المتمرّدة.
قداسة المسيح في الإسلام
إنّ المسيح عيسى بن مريم شخصية مقدّسة عند المسلمين. بل إنّ تقديسه واحترامه جزءٌ لا يتجزّأ من العقيدة الإسلامية، وللسيّد المسيح وأمّه العذراء مريم بنت عمران قداسة خاصة في القرآن الكريم، حتى إنّ سورة خاصة سمّيت بسورة مريم، فضلًا عن عشرات الآيات الأخرى التي تناولت طرفًا من سيرتهما ومناقبهما.
ونحن نؤمن إيمانًا مطلقًا بما قرّره القرآن الكريم في تناوله للسيّد المسيح، في قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّـهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَىٰ مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ﴾ [سورة النساء، الآية: 171]، تمامًا كما نؤمن ونقدّس سائر الأنبياء والرسل، كما قال تعالى: ﴿آَمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آَمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ﴾[سورة البقرة، الآية: 285]. وبالتالي، فإنّ الاحتفال بميلاد نبيٍّ من الأنبياء العظام، ومن الخمسة أولي العزم، أمر لا يخرج بأيِّ حالٍ عن دائرة الدين، وإنْ باتت المناسبة جزءًا من الهوية الدينية لأمة معينة، فلكلّ أمة هويتها وشعائرها وتقاليدها، وبالرغم من أنّنا لا ندعو للذوبان في شعائر وتقاليد الأمم الأخرى، إلّا أنّ ديننا الحنيف لا يمنع من التفاعل مع أتباع الديانات الأخرى في مناسباتهم الدينية والاجتماعية، على العكس مما يدعو إليه بعض المسلمين المتزمّتين من القطيعة التامة مع أتباع ألأديان الأخرى.
هؤلاء المتزمّتون يقفون عادة خلف الجدل المتكرر سنويًّا حول عدم جواز تهنئة المسيحيين في أعياد الميلاد، وهنا يأتي السؤال عن المانع من ذلك!. حيث لا وجه شرعيًّا لمنع تبادل التهنئة والتبريكات مع الأصدقاء والزملاء والعمّال المسيحيين، وإدخال السّرور على أنفسهم بهذه المناسبة، بل العكس هو الصحيح، فالنصوص الدينية العامة التي تحضّ على القسط والبرّ بأهل الكتاب، تدفع بهذا الاتّجاه، كما في قوله تعالى: ﴿أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ﴾، وهذا ما يفتي به كبار مراجع الدين، كما ورد في فتوى المرجع الديني السيد علي السيستاني حفظه الله ما نصّه: «يجوز تهنئة الكتابيين من يهود ومسيحيين وغيرهم، وكذلك غير الكتابيين من الكفّار بالمناسبات التي يحتفلون بها، أمثال: عيد رأس السنة الميلادية، وعيد ميلاد السيّد المسيح، وعيد الفصح»[2] .
من توجيهات النبيّ عيسى بن مريم
ونحن نعيش ذكرى أعياد الميلاد، لا بأس أن نقتبس شذرات من توجيهات النبيّ عيسى بن مريم. فقد نقل لنا أئمة أهل البيت عن النبي عيسى جملة من المواعظ والتوجيهات والحكم.
ومن ذلك ما روي أن نبيّ الله عيسى بن مريم قال: «يا مَعشَرَ الحَوارِيّينَ، لي إلَيكُم حاجَةٌ، اِقضوها لي. قالوا: قُضِيَت حاجَتُكَ يا روحَ الله، فَقامَ فَغَسَلَ أقدامَهُم، فَقالوا: كُنّا نَحنُ أحَقَّ بِهذا يا روحَ الله! فَقالَ: إنَّ أحَقَّ النّاسِ بِالخِدمَةِ العالِمُ، إنَّما تَواضَعتُ هكَذا لِكَيما تَتَواضَعوا بَعدي فِي النّاسِ كَتَواضُعي لَكُم. بِالتَّواضُعِ تَعمُرُ الحِكمَةُ لا بِالتَّكَبُّرِ، وكَذلِكَ فِي السَّهلِ يَنبُتُ الزَّرعُ لا فِي الجَبَلِ».
والحواري لغةً، من الحوَر، أي شدّة البياض، وأصبحت تطلق صفة الحواري على الصاحب والصديق الصفي القريب في محبّته وإخلاصه، وقد درج استخدام المصطلح في وصف المحيطين بالأنبياء والأئمة والأولياء، فصاروا يوصفون بحواريي الأنبياء، وحواريي الأئمة، وهم أولئك الصفوة من التلاميذ الذين التفّوا حول هذا النبي أو ذاك الإمام. وحواريو النبيّ عيسى وفقًا للمصادر المسيحية والإسلامية كانوا اثني عشر حواريًّا فقط، وقد طلب منهم أن يغسل أقدامهم، فردّوا عليه بأنهم هم الأولى في أن يغسلوا قدمه؛ لأنه أستاذهم ومعلّمهم ومربّيهم، فأجابهم بذلك التوجيه.
التواضع خلق عظيم
إنّ التواضع خلق عظيم يجتذب القلوب والنفوس. فالمرء إذا عاشر إنسانًا متواضعًا، فإنه سيشعر بالانجذاب تلقائيًّا نحوه، يتعلّق بمحبّته، ويألف الاقتراب منه، ويكون أقرب ما يكون للتأثر به. من هنا وردت النصوص الكثيرة حول التواضع، فقد ورد عن أمير المؤمنين أنه قال: «عَلَيْكَ بِالتَّواضُعِ فَإنَّهُ مِنْ أعْظَمِ الْعِبادَةِ»[3] ، فإذا كان الناس يتعبّدون بالصلاة والصيام والحجّ والزيارة والدعاء، فإنّ الإمام يرشدهم إلى أنّ خلق التواضع هو من أعظم أنواع العبادات.
وحين يجري الحديث عن التواضع، فلا يعني ذلك أن نخصّ الناس الأبعدين بالتواضع وحسب، وإنما يشمل ذلك التواضع لأقرب الناس من الإنسان، من الزوج والأبناء والأخوة، فلا ينبغي أن يتعامل الزوج مع زوجه على نحو التعالي والتكبّر، وليطرد من داخله أدنى شعور يختلجه، فيوحي إليه أنه الأفضل والأرفع منها، وعلى هذا النحو ينبغي للمرء التعامل مع سائر الدوائر الاجتماعية المحيطة.
وقد وردت في خصلة التواضع جملة من النصوص الدينية. من ذلك ما ورد عن رسول الله أنه قال لبعض أصحابه: «مَالِي لَا أرى عَلَيْكُم حَلاوَةَ الْعِبَادَة، قَالُوا وَمَا حَلاوَةُ العِبادَةِ؟ قَالَ: التَّوَاضُع»[4] ، ومضمون ذلك أنّ الذي يصلّي ويظهر الخضوع لله تعالى، ينبغي أن ينعكس ذلك في تعامله مع عباد الله، فيكون متواضعًا أمامهم.
وإذا كان التواضع مطلوبًا من كلِّ أحدٍ، ومع كلِّ أحد، فإنه أشدّ إلحاحًا على من يريد التأثير والتوجيه للآخرين، فالأب الذي يريد التأثير على أبنائه، سيكون تأثيره عليهم أبلغ متى ما كان متواضعًا، وكذلك الحال مع عالم الدين الذي يعمل على توجيه الناس، فإنّ كلامه سيكون أنفذ في نفوسهم متى كان متواضعًا، وعلى غرار ذلك المعلم الذي يمارس التربية والتعليم ينبغي أن يتّسم كلامه وسلوكه بالتواضع، متى ما أراد التأثير في تلاميذه. وقد ورد عن عليّ أنه قال: «تَواضَعوا لِمَن تَتَعَلَّمون مِنهُ العِلمَ ولِمَن تُعَلِّمونَهُ، ولا تَكونوا مِن جَبابِرَةِ العُلَماءِ»[5] ، لا ينبغي للعالم أن يكون متجبّرًا متغطرسًا متكبّرًا على الناس، وإنما ينبغي أن يكون متواضعًا، حتى يستطيع توجيه الناس من جهة، ومن جهة أخرى، حتى يجسّد القيم التي يبشّر بها، ويحدّث الناس عنها.
الخطبة الثانية: احتضان الأقلّيات الدينية
﴿قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا﴾ [سورة الإسراء، الآية: 84].
لكلّ فردٍ أو جماعة من أبناء البشر طبيعة وشخصية خاصة، فكما أنّ لكلّ إنسان شكلًا خارجيًّا، فإنّ له صورة داخلية، تتمثل في أفكاره ومشاعره وأحاسيسه، هذه الصورة الداخلية هي التي تسير الإنسان، وتوجّه ممارساته الخارجية، التي هي في الحقيقة انعكاس لصورته الداخلية، فالإنسان إنّما يتحرك بتأثير من العوامل الفكرية والنفسية في أعماقه. وهذا منبع اختلاف الناس في تصرّفاتهم وممارساتهم، فإذا كانت لدى الإنسان شخصية عقلانية هادئة، فإنه يواجه المشاكل برويّة وموضوعية، وعلى النقيض من ذلك إذا كانت شخصيته الداخلية انفعالية، فإنه سيواجه المشاكل بانفعالية وارتجال.
ولعلّ معنى الآية الكريمة ﴿قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ﴾، هو أن كلّ على إنسان يعمل وفق طبيعته وجبلّته النفسية الداخلية، غير أنه لا ينبغي أن يتبادر إلى الأذهان بأنّ معنى ذلك أنّ الإنسان مجبر على تصرّفاته، وأنّ طبائع شخصيته الداخلية سالبة لإرادته، فليس الأمر كذلك، فالملكات الأخلاقية ملكات مكتسبة، تأتي من خلال ترويض النفس وتعويدها، وللإنسان دور حاسم في صناعة شخصيته الداخلية.
وللمفسّرين منحى آخر في تفسير معنى «الشاكلة» الوارد في الآية الكريمة، وهو معنى الطريقة أو المذهب. فلكلّ إنسان أو جماعة طريقتهم ومذهبهم الذي يسيرون عليه في هذه الحياة، نتيجة الوراثة، والنشأة والبيئة الاجتماعية المحيطة، فتتكون «شاكلتهم» نتيجة لجميع ذلك.
فالآية الكريمة تشير على نحو محدّد، إلى أنّ الناس يسيرون ضمن الطريقة أو الدين الذي تربوا ونشأوا عليه. وقد ورد عن صالح بن الحكم قال: سمعت أبا عبد الله يقول ـ وقد سئل عن الصلاة في البيع والكنايس ـ فقال: صلِّ فيها، فقد رأيتها ما أنظفها! قال: قلت: أصلّي فيها وإنْ كانوا يصلّون فيها؟ فقال: أما تقرأ القرآن ﴿قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَىٰ شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَىٰ سَبِيلًا﴾ صلِّ إلى القبلة ودعهم» [6] ، فالإمام الصادق لا يرى بأسًا في أن يصلّي المسلم بصلاته في حال كان في بِيَعِ اليهود وكنائس المسيحيين، كما يشيد الإمام ويمتدح نظافة تلك البيع والكنائس.
ومما يذكر في هذا الشّأن أنّ هناك بابًا في كتب الحديث تحت عنوان باب جواز الصلاة في الكنائس والبيع[7] ، على أنه ينبغي الالتفات هنا إلى مفردة الجواز وليس الاستحباب، فالأخير مقصور على الصلاة في المسجد وحسب، والحديث هنا متعلّق بما إذا حضر وقت الصلاة وكان المسلم متواجدًا في كنيسة مثلًا، فحينها لا مبرّر شرعيًّا يحتم الابتعاد عن الصلاة في الكنيسة، فهي مكان عبادة لفئة تتعبّد بدينها، والمسلم يتعبّد بدينه.
التعايش مع الديانات الأخرى
إنّ تعاطي المسلم مع وجود الديانات والمذاهب الأخرى ينبغي أن يكون أمرًا طبيعيًّا. فهذا التفسير هو ما يمكن أن يستوحى من الآية الكريمة ﴿قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَىٰ شَاكِلَتِهِ﴾، أي أن يجري تطبيع وجود العقائد الأخرى في ذهنية الإنسان المسلم، فلا يرى وجود تلك العقائد أمرًا غير مقبول، أو مخالفًا لطبيعة الأشياء، أو أنه مما ينبغي مواجهته والتصدّي إليه، بل على العكس من ذلك، ينبغي النظر للمسألة من زاوية واقعية، كما لدى المسلم مذهب وطريقة ومكان عبادة، فللآخرين أيضًا ذات الأمور تمامًا، وأنّ كلّ ما هو مطلوب أن يعمل المرء على طريقته، وليدع الآخرين على طريقتهم. وهذا ما يؤسّس لفكرة ونهج التسامح الديني، بأن ينأى المسلم عن النفور والانزعاج من وجود أتباع المذاهب والديانات الأخرى، مهما خالفوه في المعتقد.
إنّ من المحزن الحديث عن الأقلّيات الدينية في المجتمع الإسلامي؛ لأنّ الإنسان في وطنه، مسلمًا أم غير مسلم، ضمن هذا المذهب أو ذاك، لا ينبغي أن يكون عنوانًا لأقلّية أو أكثرية، وإنما ينبغي أن يكون مفهوم المواطنة هو المعيار الأساس.
لقد أكّد الإسلام بشدةٍ رعاية حقوق الأقلّيات الدينية في بلاد المسلمين. فعلى مدى التاريخ الإسلامي لم يكن وجود الأقلّيات الدينية من اليهود والمسيحيين والمجوس في بلاد المسلمين أمرًا غير مألوف، في يومٍ من الأيام، ولم يدعُ الشّرع ولا العقل يومًا إلى إخراجهم، ولا قتالهم، ولا إجبارهم على تغيير دينهم، ما داموا مواطنين مسالمين. حيث أنه من غير الممكن ولا المقبول قسر الناس ولا إكراههم في الدين، وهذا صريح القرآن الكريم في قوله تعالى: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾، وقد خاطب تعالى نبيه بقوله تعالى: ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآَمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾، فهؤلاء الناس لهم دينهم وطريقتهم، ولا ينبغي بأيِّ حالٍ إكراههم على شيءٍ غيره.
غاية ما هناك أنّ للمسلم أن يبشّر بدينه، وأن يدعو الآخرين لاعتناق الإسلام، لكن ذلك لا يكون بسوى الحوار والجدال بالتي هي أحسن، فإن قبلوا فأهلًا وسهلًا، وإن لم يقبلوا فلا شأن لأحدٍ بهم، قال تعالى: ﴿فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ﴾، فليس على المسلم تجاه غير المسلم أكثر من الدعوة بالتي هي أحسن. لهذا أكّد الإسلام رعاية حقوق أتباع الديانات الأخرى في المجتمع الإسلامي.
الاعتداء على الأقلّيات عدوانٌ على رسول الله
لقد ساهمت اعتداءات عناصر التيار المتطرف المنتسب للإسلام، على أتباع الأقلّيات الدينية في الشرق الأوسط، في جعل مسألة وجود هذه الأقلّيات قضية مثارة وأمرًا محرجًا. فقد سجّلت على مدى الأعوام الأخيرة، سلسلة اعتداءات وحشية، على المسيحيين، والإيزديين، وسائر الأقلّيات والمذاهب الأخرى، في العراق وسوريا ومصر. ومن المعلوم أن هذا التوجّه المتشدّد لا يُعبِّر عن حقيقة أحكام ومفاهيم الدين، بقدر ما يُعبِّر عن التطرف المنسوب زعمًا للدين، والدين منه براء.
إنّ رسول الله عبّر عن عميق احترامه لأتباع الديانات الأخرى، ومن ذلك ما ورد من تعهّد نبوي في الرسالة التي بعثها لأساقفة نجران وجاء فيه: «إنَّ لَهُمْ عَلَى مَا تَحْتِ أَيْدِيهِمْ مِنْ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ مِنْ بِيَعِهِمْ وَصَلَوَاتِهِمْ وَرَهْبَانِيَّتِهِمْ، وَجُوَارُ اللَّه وَرَسُولِهِ أَلَّا يُغَيَّرَ أَسْقُفٌ عَنْ أَسْقُفِيَّتِهِ، وَلَا رَاهِبٌ عَنْ رَهْبَانِيَّتِهِ، وَلَا كَاهِنٍ عَنْ كَهَانَتِهِ، وَلَا يُغَيَّرَ حَقٌّ مِنْ حُقُوقِهِمْ، وَلَا سُلْطَانِهِمْ وَلَا شَيْءٍ مِمَّا كَانُوا عَلَيْهِ مَا نَصَحُوا وَأَصْلَحُوا فِيمَا عَلَيْهِمْ غَيْرَ مُثْقِلِينَ بِظُلْمٍ وَلَا ظَالِمِينَ»[8] ، وكذلك كان القرآن الكريم صريحًا في الدعوة إلى التعايش وحسن التعامل مع أتباع الديانات الأخرى، قال تعالى: ﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾[سورة الممتحنة، الآية:8].
بل ذهب رسول الله أبعد من ذلك، حين اعتبر الاعتداء على أتباع الديانات الأخرى ضمن المجتمع الإسلامي، اعتداءً شخصيًّا عليه وإساءة له، فقد جاء عنه أنه قال: «أَلاَ مَنْ ظَلَمَ مُعَاهِدًا أَوِ انْتَقَصَهُ أَوْ كَلَّفَهُ فَوْقَ طَاقَتِهِ أَوْ أَخَذَ مِنْهُ شَيْئًا بِغَيْرِ طِيبِ نَفْسٍ فَأَنَا حَجِيجُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» [9] ، فهل هناك احترام وحصانة لأتباع الديانات الأخرى أكثر من ذلك؟ وعلى هذا المنوال سار علماء الإسلام في الحثّ على الاحترام وحسن التعامل مع من يوصفون في كتب التراث بأهل الذمّة، وفقًا للاصطلاح القديم.
ومن أسفٍ نقول: إنّ صورة الشرق الأوسط الذي طالما احتضن الأقلّيات الدينية تكاد تتغيّر، بفعل الإبادة والتهجير على يد المجموعات المتطرفة. فلطالما احتضن المسلمون في المنطقة أتباع الديانات الأخرى، وقدّموا أروع الصور الإنسانية في التعامل معهم، إلّا أنّ المنطقة تكاد تفقد هذه الميزة، وقد أوردت الإحصاءات أنّ نسبة المسيحيين في الشرق الأوسط كانت تبلغ في سنة 1914م، أي قبل مئة عام، حوالي 15 بالمئة من نسبة السكان، في حين تقلّصت هذه النسبة لتصل في سنة 2014م إلى خمسة بالمئة فقط. ولعلّ جانبًا من أسباب تضاؤل العدد هو الهجرة الطوعية بحثًا عن مستقبل أفضل، وهذا ليس موضوع نقاشنا، إنّما ينصبّ النقاش في النسبة التي تتعرّض للتهجير القسري، بسبب الضغوط التي تمارسها الجماعات الدينية المتطرفة.
جمال الشرق بتنوعه الديني
إنّ انحسار وجود الأقلّيات الدينية، وأبرزها الوجود المسيحي في الشرق الأوسط، والعالم الإسلامي، يُعَدّ مؤشرًا سيئًا، ينال من صورة الإسلام وسمعة المسلمين. لذلك يغدو من المهم الحفاظ على الوجود المسيحي، والأقلّيات الدينية المختلفة في المنطقة. وذلك من منطلق أنّ وجودهم أمر مرتبط بصميم حقّهم الطبيعي، قبل أيِّ شيء آخر، فهم يتواجدون في بلادهم التي ولدوا وعاشوا فيها، كما عاش فيها أجدادهم من قبل، وليس لأحدٍ أن يخرجهم من ديارهم بغير حقّ، فالعراقي المسيحي هو عراقي قبل أن يكون مسيحيًّا، وكذلك الحال مع المسيحي السوري والمصري ،فهما أبناء سوريا ومصر، قبل أن يكونا أيّ شيءٍ آخر، من هنا يغدو حقّهم الطبيعي في البقاء والعيش في بلادهم أمرًا غير خاضعٍ للنقاش، ولا وجه مطلقًا للإساءة إليهم، فضلًا عن الضغط أو الاعتداء عليهم وتهجيرهم، فذلك عين الظلم والعدوان.
إنّ وجود الأقلّيات الدينية في المنطقة يبرز جانبًا من قيمة التسامح، ويُجسّد مفهوم المواطنة، وما أحوجنا لتأكيد هذا المفهوم، بأن يجري التعامل مع كلّ مواطنٍ باعتباره مواطنًا وحسب، بعيدًا عن انتمائه الديني والمذهبي.
كما يمثل وجود الأقلّيات الدينية في المنطقة إثراءً ثقافيًّا ومعرفيًّا، فوجودهم بين شعوب المنطقة، يمثل جسرًا للحوار الثقافي والديني، بين مختلف الديانات والثقافات، فلا تخلو أمة من الناس من جوانب مضيئة في ثقافتهم، تمثل بذلك إثراءً لثقافة الأمة.
كما يمثل وجود الأقلّيات الدينية، والمسيحية منها بصورة خاصة، نافذة على المجتمعات المسيحية في العالم، الأمر الذي يساعد الأمة في خدمة قضاياها المصيرية، فكم هو من المهم أن يدافع العرب المسيحيّون عن قضية فلسطين، التي هي قضية الأمة وقضيتهم؛ لأنّ جذورهم مرتبطة بهذه المنطقة، ومصيرهم متعلّق بها.