الخطبة الثانية: منهجية الاستقطاب ومنهجية التنفير
العلاقات الاجتماعية بين الرحمة والقسوة
﴿مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّـهِ ۚ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ﴾[سورة الفتح، الآية: 29].
ولد النبي الأكرم محمد بن عبد الله وسط ظروف بالغة القسوة من الناحية الاجتماعية والبيئية. فقد كانت مجتمعات الجزيرة العربية تعيش وضعًا تغلب عليه أجواء الشدّة والقسوة، وتندر فيه مظاهر الرقة والرحمة، ويعود ذلك في جانب منه إلى الطبيعة القاسية التي نشأوا فيها، حيث الصحراء الجافة، ولهيب الشمس الحارقة، والمياه الشحيحة. ويأتي فوق ذلك، النظام القبلي الصارم، الذي يلقي بثقل تقاليده وأعرافه على أفراد تلك المجتمعات. وبذلك وجدت تلك المجتمعات نفسها بين مطرقة الطبيعة وسندان القبيلة.
وقد ساهم انتشار الفقر، ومحدودية المراعي، في اتخاذ الحروب منهجًا حياتيًّا، وموردًا أساسيًّا للارتزاق، حيث تستحوذ القبيلة المنتصرة على المغانم، فيما تسحق القبيلة المغلوبة. ومن المعروف أنّ الحروب تساهم في تعزيز سلوكيات الشدّة والغلظة والعنف، لذلك باتت القوة هي القيمة العليا في تلك المجتمعات. من هنا نشأت عندهم نزعة تفضيل الذكور على الإناث؛ لاعتبارهم الذكور رصيدًا يضاف إلى قوتهم، ينفعهم وقت الحرب والقتال، بينما كانوا يكرهون البنات؛ لأنّهنّ كنّ عبئًا عليهم، لما يستلزم من الدفاع عنهنّ وقت المعركة. وحتى أسماء الأشخاص كانت من وحي حياة الخشونة والصراع، مثل: أسد وليث وضرغام وعقاب وصقر وصخر وحجر وحنظلة.
وكذلك كان حال المجتمعات غير العربية المجاورة، كالروم والفرس، فقد كانوا يعيشون تحت قسوة الاستبداد والطبقية لنظامي القياصرة والأكاسرة، مع تفاوت في بعض الجوانب بينهم وبين العرب. وقد أبصر نبيّنا محمد بن عبدالله النور وسط هذه الأجواء الاجتماعية الصارمة والبيئة القاسية.
الرحمة عنوان الرسالة
لقد اختاره الله تعالى منقذًا للبشرية من واقعها المزري، وجعل الرحمة العنوان الأبرز لرسالته؛ لأنّ الرحمة كانت المسألة الغائبة التي تفتقدها المجتمعات البشرية عامة، على نحو أحال حياتها إلى شقاء وجحيم، وفي ذلك يقول تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾، وقد وصف نفسه بقوله: «إِنَّمَا أَنَا رَحْمَةٌ مُهْدَاةٌ»[1] ، وقد ركز الإسلام على مسألة الرحمة، وبالرغم من أنّ لله الأسماء الحسنى والصفات العليا، فهو الخالق والرازق والمهيمن والقوي..، إلّا أنّه تعالى اختار لنفسه صفة الرحمة، فجاءت سور القرآن الكريم بادئة ببسم الله الرحمن الرحيم، صفتان مشتقتان من الرحمة، علاوة على وجود أكثر من 300 آية قرآنية تناولت الرحمة الإلهية بالعباد، للتأكيد على قيمة الرحمة. وقد جاء رسول الله لبعث قيمة التراحم بين الناس، وطيّ صفحة الجفاء والغلظة والقسوة فيما بينهم.
وقد وردت عنه أحاديث كثيرة في تعزيز قيمة الرحمة بين العباد. قال: «لا يَرْحَمُ اللَّهُ مَنْ لا يَرْحَمُ النَّاسَ»[2] ، وجاء في حديث آخر عنه أنه قال: «الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ، ارْحَمُوا مَنْ فِي الأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ»[3] ، وبذلك وضع أساس المجتمع الإسلامي على قاعدة الرحمة. من هنا نجد الآية الكريمة عندما تأتي على وصف الذين حول رسول الله فإنها تصفهم بأنّهم ﴿رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ﴾، تأكيدًا على قيمة الرحمة، باعتبارها قيمة عليا في حياة المجتمع الإيماني، الذي ينبغي أن يقوم على التراحم لا القسوة والجفاء. وقد درجت آي الذكر الحكيم على دعوة الناس إلى انتهاج سبيل الرحمة، وتعزيز مسلك التراحم فيما بينهم، قال تعالى: ﴿ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ﴾، فمن أبرز صفات المجتمع الإيماني هو التواصي بالرحمة فيما بينهم.
مظاهر التراحم بين الناس
وهناك مظاهر وتجلّيات بارزة تطبع حياة المجتمع الذي تشيع فيه قيمة الرحمة والتراحم. والمظهر الأول: هي النظرة الرحيمة للناس تجاه بعضهم بعضًا، فهناك مجتمعات ينظر أفرادها لبعضهم نظرة رحيمة، فيما تكون النظرة بين الناس في مجتمعات أخرى نظرة قاسية، فهؤلاء لا يكاد يرون بعضهم إلّا من خلال منظار القسوة والشدّة. ويتجسّد أحد التجلّيات في تفسير تصرّفات الناس ومواقفهم، فالمجتمع المتراحم يحسن الظن في أفراده، فحينما يرى أحدهم موقفًا أو تصرفًا، أو يسمع كلامًا عن طرف آخر، فإنّ صاحب الظن الحسن يميل إلى تفهّم الأمر، ويلتمس العذر لإخوانه، فحسن الظن يُعَدّ علامة بارزة في المجتمعات المتراحمة. أما إذا ساد سوء الظن في المجتمع فإنّ الأغلب هو الجنوح نحو سوء التفسير لتصرفات ومواقف الآخرين، حتى لو كانت بالغة الحسن، ومن السهولة بمكان قلب الحقائق في هذه الأجواء، بأن يقال عن صاحب الكلام الطيب بأنّ كلامه سيئ، ولا يُعَبِّر عن حقيقة موقفه، وليس خارجًا من قلبه، وإنّما للتظاهر والمجاملة، هكذا حين تسود بين الناس سوء الظنون، فإنّهم يصبحون قاسين على بعضهم بعضًا في انطباعاتهم، وتفسيرهم لأعمال ومواقف بعضهم بعضًا.
وتحفل النصوص الدينية بالكثير من الموارد التي تحضّ على الظن الحسن، وتحذّر بشدّة من الوقوع في سوء الظن. قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ﴾، وقال رسولُ اللّه: «اطْلُبْ لِأَخِيكَ عُذْراً، فَإِنْ لَمْ تَجِدْ لَهُ عُذْراً فَالتَمِسْ لَهُ عُذْرا»[4] ، ذلك أنه في أجواء التراحم يجهد الإنسان في اجتراح العذر لنظيره الإنسان، فيما لو ظنّ فيه التقصير في أمر من الأمور، والميل إلى خفض سقف التوقعات من جانب أخيه، على النقيض مما يجري في أجواء القسوة حيث يعلي الناس من سقف توقعاتهم تجاه بعضهم.
لين الخطاب لغة التراحم
المظهر الثاني من مظاهر التراحم في المجتمع لين الخطاب فيما بينهم. واستخدام لغة الاحترام والتقدير المتبادل، بخلاف المجتمع الذي تسوده القسوة والغلظة، والذي تكون فيه لغة التخاطب لغة فظّة ملؤها الفحش والاتّهام والطعن والتجريح والتسقيط، وهذا أبعد ما يكون عن الرحمة.
ومما يروى في هذا السّياق، أنّ رجلًا أخذ بلجام دابة رسول الله وقال: يا رسول الله، أيّ الأعمال أفضل، قال: «إِطْعامُ الطَّعامِ وَإِطْيابُ الْكَلامِ»[5] . فالرسول يعتبر الكلام الطيّب مع الناس وعن الناس من أفضل الأعمال. وورد عنه أنه قال: «إنَّ اللّه َ حَرَّمَ الجَنَّةَ على كُلِّ فاحِشٍ بَذيءٍ قَليلِ الحَياءِ، لا يُبالي ما قالَ وَلا ما قيلَ فيهِ»[6] ، إنّ الإنسان عندما يكون بذيئًا في تخاطبه مع الآخرين، لا يستحقّ الجنة. وما عسى ينفع الإنسان البذيء التخفّي خلف ألف حجاب، على غرار ما يجري من التخفّي خلف الأسماء المستعارة في وسائل التواصل الاجتماعي للنيل من الناس بأقذع الكلام وأكثره فحشًا، فأمثال هؤلاء وإن تخفوا عن العباد، فهل تخفى أفعالهم على ربّ العباد، وهل يا ترى تحجب الأسماء المستعارة عنهم العقوبة في يوم الحساب؟ ورد عن الإمام الباقر: «سِلاَحُ اللِّئَامِ، قُبْحُ الكَلاَمِ»[7] ، فالشخص اللئيم حين تعجزه الحجة، فلا سلاح لديه إلا قبح الكلام. وورد عن أمير المؤمنين أنّه قال: «ثلاثٌ مِن أبوابِ البِرِّ: سَخاءُ النَّفْسِ، وطِيبُ الكلامِ، والصَّبرُ على الأذى»[8] .
التعامل الرحيم
المظهر الثالث التعامل الرحيم مع الآخرين. بدءًا من أفراد الأسرة والأصدقاء والجيران، ولا ينتهي بالناس المختلفين معنا في الرأي والمصلحة، والعاملين تحت أيدينا، فقد يكون التعامل رحيمًا، موافقًا للقيم والضوابط الأخلاقية، وتجسيدًا للآية الكريمة ﴿رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ﴾، وعلى النقيض من ذلك، قد يكون التعامل قاسيًا عنيفًا، ما يعني غياب الرحمة والتراحم، وقد ورد في حديث عنه أنه قال: «إذا أرادَ اللّه ُ بأهلِ بيتٍ خَيرًا أدخَلَ علَيهِم بابَ رِفقٍ»[9] ، إنّ العائلة التي يتعامل أفرادها مع بعضهم تعامل رفق، يحيون حياة طيبة.
وجاء في حديث آخر عنه: «مَا اصْطَحَبَ اثْنَانِ إِلَا كَانَ أَعْظَمُهُمَا أَجْراً وَأَحَبُّهُمَا إِلَى اللّهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ أَرْفَقَهُمَا بِصَاحِبِهِ»[10] . كما ورد عنه أنه قال: «مَن أُعطِيَ حَظَّهُ مِنَ الرِّفقِ فَقَد أُعطِيَ حَظَّهُ مِن الخَيرِ»[11] .
لقد كانت سيرة رسول الله مدرسة في الرحمة والرفق بمن حوله صغارًا وكبارًا، قريبين وبعيدين. وعلينا ونحن نحتفي بميلاد نبي الرحمة أن نهتمّ بتجسيد هذه الصفة، وأن نتفقّدها في نفوسنا وسلوكنا وتعاملنا مع من حولنا، حتى نكون ممن وصفهم الله بأنّهم رحماء بينهم، فمن يتحلون بالرحمة مقامهم مع رسول الله.
الخطبة الثانية: منهجية الاستقطاب ومنهجية التنفير
﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّـهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾[سورة آل عمران، الآية:159].
هناك منهجيتان ونمطان من السّلوك يحكمان تعامل الإنسان مع الآخرين؛ منهجية الجذب والاستقطاب، ومنهجية التنفير والإبعاد. حيث تؤدي منهجية الاستقطاب إلى احتواء الإنسان لمن هم حوله، فيجتذبهم ويحبونه وينشدّون إليه، مما يمنحه فرصة التعاون والانسجام معهم، والتأثير فيهم. وهناك في المقابل المنهجية الأخرى، بأن يكون للفرد نمط من السّلوك المستفزّ والمنفّر، الذي يؤدي إلى ابتعاد الناس عنه، ويفقد أيّ إمكانية في التعاون معهم أو التأثير فيهم.
رافعة الإنجاز النبوي
لقد كان رسول الله يتربّع على القمة على صعيد المنهجية الأولى، وبالرغم من أنه جاء بدعوة ورسالة كان من الصعب قبولها في مجتمعه؛ لأنّها تخالف ما ألفوه وعاشوا عليه حقبًا زمنيةً طويلةً، تشرّبت نفوسهم بتقاليدها وأعرافها، وارتبطت مصالحهم بها، ناهيك عن وجود مراكز القوى في ذلك المجتمع، المتمثلة في الزعامات القبلية صاحبة النفوذ والتأثير المتعاظم، بحكم النظام القبلي الصارم، إلّا أنّ رسول الله استطاع وخلال وقت قياسي أن يبسط جناح دعوته في ذلك المجتمع.
وهذا الإنجاز النبوي رغم المعاناة الكبيرة التي واجهها، يُعَدّ إنجازًا خارقًا بكلّ المقاييس، على مستوى التحولات الكبرى التي تقع في حياة البشرية، فلا تكاد تجد دعوة دينية ولا عقيدة كانت أسرع في النجاح والانتصار كما حصل على يد رسول الله ، فقد أحدث نقلة اجتماعية كبرى، أعاد خلالها صياغة نفوس الناس وسلوكهم وأخلاقهم. وما من تفسير لذلك، سوى ما أورده القرآن الكريم، الذي أشار إلى أنّ السلاح الأمضى، وعامل النجاح الرئيس، يتمثل في المنهجية التي اتّخذها رسول الله في التعامل مع مجتمعه، حيث قال تعالى: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّـهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾، فقد اتّسمت منهجيته وشخصيته بلين العريكة، مما ساهم في اجتذاب الناس إليه، وفتح الطريق أمام إحداث التأثير الأقوى في نفوسهم، وتمكين محبّته والولاء له في قلوبهم.
إنّ منهجية الجذب والاستقطاب التي اتّبعها رسول الله هي التي أحدثت زلزالًا اجتماعيًّا لا مثيل له في تاريخ البشر. وإنّه من المثير للإعجاب، عند قراءة السيرة النبوية، أن نجد التحول الدراماتيكي في نفوس وسلوك أفراد ذلك المجتمع، الذين كانت تغلب عليهم الغلظة والجفاء، ليتحولوا بعد ذلك إلى أناس ودودين وديعين، حتى باتوا يتبرّكون بكل شيءٍ يرتبط برسول الله، فيفدونه بأنفسهم، ويطيعونه فيما يأمرهم.
جاذبية التعامل
من هنا جاء التشديد النبوي على ضرورة تحلّي الإنسان المسلم باللين في تعامله مع مختلف الناس، وأن يكون سلوكه جاذبًا لا منفّرًا لمن حوله. ولعلّه من الملاحظ كيف تستولي المسلكية المنفّرة على تصرفات بعض الناس، ومما أتذكره في هذا الشأن، عندما كنّا في سفر، وفور خروجنا من المطار، لاحظنا سائق سيارة أجرة يرفض أن يقلّ أحد الأشخاص، ويعتذر بأنه لا يريد أن يخرج في مشوار، فأقلّت ذلك الشخص سيارة أخرى، وما إن غادر المكان حتى دعانا سائق سيارة الأجرة هذا ليقلّنا إلى وجهتنا، فتساءلنا عن سبب اعتذاره عن الخروج مع ذلك الشخص منذ قليل، وهاهو الآن يدعونا للركوب في سيارته، فأوضح السائق بأنه سبق وأن أقلّ ذلك الشخص في مشوار سابق فآذاه بسوء خلقه، لذلك لا يريد إركابه معه مرة ثانية، حتى لو بقي دون عمل!.
إنّ ما يجري في كثير من الأحيان أن يتقمّص بعض الناس سلوكًا منفّرًا، فلا يطيق أحد أن يقترب منهم بتاتًا. فقد يكون هناك مدير سيئ الخلق في مؤسّسة عامة، فيتمنى عندها الموظفون أن يغادروا تلك المؤسسة بأيّ صورة من الصور، نتيجة وجود ذلك الشخص المنفّر فيها. والحال نفسه مع المعلمين في المدارس العامة، فبعض هؤلاء مسؤولون عن مشاكل بعض الطلاب السّلوكية، نتيجة النزعة المنفّرة عند هؤلاء المعلمين، وغياب روحية الاستقطاب في شخصياتهم. ولا نستغرب لو امتدّ ذلك إلى روضات الأطفال، فلربما وجدنا طفلًا يرفض الذهاب إلى الروضة، وعند البحث عن سبب عزوفه، نجد أنّ المربية المسؤولة عنه في الروضة تفتقد المنهجية الرقيقة الجاذبة للطفل.
ينبغي للآباء أن يكونوا جاذبين لأبنائهم، مستقطبين لهم، من خلال طريقة تعاملهم معهم، والحال نفسه مع المعلمين والمديرين والمسؤولين، والقادة في مختلف المجالات.
وعلى كلّ إنسان أن يتفقد صفة الجاذبية والاستقطاب في نفسه ليتأكّد ما إذا كانت مسلكيته مستقطبة أم منفّرة، جاذبة للآخرين، أم طاردة لهم؟ وقد ورد عن النبي الحثّ على اللين في التعامل مع الناس، روى ابن مسعود عن رسول الله أنه قال: «حرم على النار كل هين لين سهل قريب من الناس»[12] ، فالنبي يشير بوضوح إلى أنّ اللين في شخصية الفرد يمثل تذكرة عبور للنجاة من النار في يوم الحساب.
مجتمعات جاذبة وأخرى منفّرة
إنّ المسلكية الجاذبة أو المنفّرة تنطبق على المجتمعات كما تنطبق على الأفراد. فهناك مجتمعات يرتاح الناس في التعامل معها، لما تعطيه عن نفسها من انطباع ايجابي، نتيجة منهجيتها السلوكية الراقية مع بعضها والآخرين، وهناك مجتمعات على النقيض من ذلك تمامًا.
ولتقريب الفكرة، ربما يلاحظ أكثرنا عند الحديث عن توظيف العاملين الوافدين، أنّ هناك انطباعًا عامًّا إزاء تفضيل العامل من جنسيات معينة، على حساب جنسيات أخرى، وغالبًا ما يكون سبب الأفضلية هنا، هو الشائع عن أفراد ذلك المجتمع من التزام الأمانة، والجدّية والانضباط، في مقابل الانطباع العام عن غياب هذه الصفات في أفراد مجتمع آخر. وأراد النبي أن تتحلى أمته بالصورة الناصعة، والسمعة الحسنة، لكي تكون جاذبة لبقية الأمم.
من هنا نفهم قول النبي إذا أراد أن يبعث أحد أصحابه في بعض أمره: «بَشِّرُوا وَلَا تُنَفِّرُوا، وَيَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا»[13] ، وفي ذلك توجيه نبوي صريح نحو التزام الخلق الجاذب المستقطب للناس، بالخطاب والسلوك والمعاملة الحسنة.
لقد حقّق رسول الله ما حقق نتيجة التزامه منهجية الجاذبية واللين حتى مع أعدائه. ومما يذكر في هذا الشأن، ما أخرجه مسلم في صحيحه: «أَنَّ امْرَأَةً وُجِدَتْ فِي بَعْضِ مَغَازِي رَسُولِ اللهِ مَقْتُولَةً، فَأَنْكَرَ رَسُولُ اللهِ قَتْلَ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ»[14] . فهو لم يَرْضَ بأن تقتل امرأة واحدة من معسكر الأعداء، فضلًا عن أنّه كان يمنع المسلمين من قتل الأسرى، وكان يقول: «لَا تَقْتُلُوا أَسِيرًا»[15] . وقد غضب عندما خالف أحد الأصحاب وصيته وقتل أحد الأسرى، وذلك في حادثة مشهورة وقعت يوم حنين، حين كان المسلمون يقاتلون المشركين فيقتلون ويأسرون منهم، حتى إذا ارتفع النهار، فأمر رسول الله بالكفّ عن القتال، وقال: لا يقتل أسير من القوم، وكانت قبيلة هديل التي تقاتل في صفّ العدو قد بعثت عينًا يقال له ابن الأكوع ليتجسّس على معسكر المسلمين، وعلم رسول الله بذلك، وقد وقع هذا الجاسوس في الأسر، فمرّ به أحد الأصحاب، فلما رآه أقبل على رجل من الأنصار، وقال: هذا عدوّ الله الذي كان علينا عينا، ها هو أسير فاقتله، فضرب الأنصاري عنقه، وبلغ ذلك رسول الله، فكره وأنكر ذلك، وقال: ألم آمركم ألّا تقتلوا أسيرًا. هذا التعامل الإنساني حتى مع الأعداء، ترك انطباعًا مؤثّرًا في نفوس الناس، فصاروا يدخلون في دين الله أفواجًا.
في المقابل، وعلى النقيض من المنهجية النبوية الجاذبة، ظهرت في الأمة في الآونة الأخيرة مجاميع إرهابية متوحّشة، شوّهت صورة الإسلام ولطخت سمعة المسلمين في العالم. فقد ابتلي المسلمون في عصرنا الراهن بكارثة كبرى متمثلة في ظهور هذه الجماعات التي تزعم الانتماء للإسلام، وترتكب الفظائع والجرائم البشعة باسم الدين. ولعلّ آخر هذه الأفعال ما ارتكبته هذه الجهات المتطرفة من حادثة إجرامية في العاصمة الفرنسية باريس، بالاعتداء على إحدى الصحف بسبب إساءتها للإسلام، وإيقاع عدد من القتلى من محرري ورسامي الكاريكاتير في الصحيفة[16] . وفي الوقت الذي ندين الإساءة للإسلام على يد هؤلاء الرسامين، برسمهم صورًا ساخرة مشوّهة عن رسول الله، لكننا نعتبر أنّ التشويه الذي يطال النبي والإسلام نتيجة هذه الأفعال الإرهابية الإجرامية، هو أعظم بأضعاف مضاعفة من التشويه الناتج عن تلك الرسوم أو الكتابات السّاخرة.
وسرعان ما رأينا بعد هذا الاعتداء، كم من الهجمات التي تعرّضت لها المساجد في فرنسا، وكيف سعّرت الحادثة المظاهرات المناهضة للإسلام والمسلمين في ألمانيا، علمًا بأنّ هذه المجتمعات احتضنت المسلمين، ومنحتهم فرص العيش الكريم، وحقّ ممارسة حرياتهم الدينية دونما قيود، وعلى نحو لم يتوفر لهم حتى في بلادهم الإسلامية. غير أنّ هذه الاعتداءات الوحشية التي تجري باسم الإسلام، تخلق ردود فعل ضدّ الإسلام والمسلمين.
وعلى غرار هذا الاعتداء، تابعنا هذا الأسبوع الاعتداء الآثم الذي قامت به جهات إرهابية على مركز حدودي في عرعر بشمال المملكة، حيث فجّر إرهابي نفسه مما أدى إلى استشهاد ثلاثة من جنود حرس الحدود وإصابة اثنين[17] . فبأيِّ عذرٍ وأيِّ تفسيرٍ يرتكب هؤلاء هذه الأفعال الإجرامية؟ وهل يا ترى تستقطب هذه النزعة الإجرامية الناس إلى الإسلام، أم أنّها أكبر منفّر من الدين.
وأخشى ما نخشاه هو ألّا تنفّر هذه الجرائم الوحشية، غير المسلمين من الإسلام وحسب، وإنما تنذر بتنفير شبابنا المسلمين من دينهم. فقد كانت تنتشر بين المسلمين فيما سبق شعارات المطالبة بحكم الشريعة الإسلامية، أما اليوم فقد باتت هذه الشعارات مخيفة إلى أبعد الحدود، في أذهان كثير من المسلمين فضلًا عن غيرهم؛ لأنّهم رأوا بأمّ أعينهم هذه النماذج المتوحشة التي ترتكب الفظائع باسم الإسلام.
ونحن نحتفي بذكرى ميلاد رسول الله ليس لنا إلّا أن نشكو إلى الله، وإلى رسول الله، ما ينال دينه وأمّته من هذه الممارسات النكراء، على يد الجماعات الإرهابية المنتسبة زعمًا للإسلام. كما ندعو المسلمين إلى تحمّل المسؤولية والتبرؤ من هذه التوجّهات ومحاصرتها، حتى تكفى البشرية شرّها.