المصلحون لا تزعجهم الاتهامات
ورد عن أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب أنه قال في بعض خطبه: «أيُّهَا النّاسُ، اِعلَموا أنَّهُ لَيسَ بِعاقِلٍ مَنِ انزَعَجَ مِن قَولِ الزّورِ فيهِ، ولا بِحَكيمٍ مَن رَضِيَ بِثَناءِ الجاهِلِ عَلَيهِ، الناس أبناء ما يُحسنون، وقدر كل امرئ ما يحسن»[1] .
إنّ من طبيعة النفس البشرية أن تتأثر بكلام الناس عنها سلبًا أو إيجابًا. فهي ترتاح عند تلقي عبارات الثناء والإطراء، وتتأذّى عند سماع الإساءة والهجاء، ومردّ ذلك إلى أنّ مصالح الإنسان مرتبطة على نحوٍ كبير بمحيطه الاجتماعي، فإذا كانت سمعته حسنة، فهذا ما يخدم مصالحه، وعلى النقيض من ذلك إذا كانت سمعته سيئة، فسيعرقل ذلك مسيرته ومصالحه، وعلاقاته الاجتماعية، لذلك يهتمّ الإنسان بما يقوله الناس عنه. ومن ناحية أخرى، فإنّ الإنسان كتلة من الأحاسيس والمشاعر، وبطبيعة الحال تنتعش أحاسيسه ومشاعره في حالة التشجيع والثناء من المحيطين به، في مقابل ذلك تتأذّى مشاعره إذا واجه إساءات من المحيط الاجتماعي الذي يعيش فيه.
فمن الطبيعي إذًا أنْ ينزعج المرء ويتألم نفسيًّا نتيجة تلقي التهم والدعايات المغرضة، لقاء موقف صادق من قضية من القضايا، غير أنه لا ينبغي أن يقوده ذلك إلى التنصل والانصراف عن قضاياه المحقّة.
الأنبياء يتأثرون ويتألمون
ليس هناك أحدٌ مستثنى من الانزعاج والتألم عند تلقّي التهم والإساءات، بما في ذلك الأنبياء والأئمة والأولياء. فهؤلاء العظماء تتأثر نفوسهم إلى حدٍّ بالكلام عنهم وعليهم، حتى وإن كانوا معصومين لكنهم يبقون بشرًا، لهم أحاسيس ومشاعر كسائر البشر. فالأنبياء يتأذّون إذا ما واجهوا الإساءة، وإذا ما واجهوا الكلام الحسن فإنّهم يرتاحون إليه، هذا مقتضى النفس البشرية. وإن لم تكن لهم مصالح ذاتية يخشون عليها من كلام الناس، فإنّ لهم مصالح رسالية متعلقة بتبليغ رسالاتهم للبشرية، وقد يتحول كلام الناس ضدهم عائقًا وحاجزًا أمام التفاعل مع رسالاتهم.
وقد سرد القرآن الكريم وقائع من حياة الأنبياء، أظهر فيها الأثر الذي تركته التّهم والدعايات المغرضة الموجهة لهم ضمن محيطهم الاجتماعي. قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آَذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا﴾، وتشير الآية بوضوح إلى الأذى الذي نال موسى، نتيجة اختلاق قومه بني إسرائيل التّهم والإشاعات عليه، ويقول المفسرون إنّ الآية تحكي عن وفاة نبي الله هارون أخي موسى وهما في طريقهما إلى الجبل، فأشاع بنو إسرائيل بأنّ موسى هو المتسبّب في موت أخيه حتى يخلو له الجو، فبرأه تعالى من تلك التهمة وأظهر الحقيقة لقومه.
وذكر مفسّرون آخرون مناسبة أخرى للآية، وهي عندما عمد قارون، ﴿كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ﴾، إلى الاتفاق مع بغيٍّ من بغايا بني إسرائيل، على توجيه الاتّهام إلى نبي الله موسى بأنه مارس الزنى معها، لذلك كان الاتّهام مؤذيًا له، لكن الله برأه وأظهر الحقيقة أمام الناس. ومع إدراك موسى التام لبراءته من التهمة، ومع كونه نبيًّا من أنبياء أولي العزم، إلّا أنه تأذّى من الكلام الذي نال منه، بغير وجه حقّ.
كما تناول القرآن الكريم مقدار الأذى الذي طال رسول الله جرّاء سوق الاتّهامات ضدّه. قال تعالى: ﴿قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآَيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ * وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا﴾، وبذلك نخلص إلى أنّ الأنبياء والأئمة والأولياء ليسو بمنأى عن الأذى النفسي الذي ينتابهم جرّاء التهم الموجهة لهم بغير حقّ.
الاستقامة الرسالية رغم الأذى
لكن الفارق الجوهري أنّ تأثّرهم وألمهم النفسي لا يدفعهم نحو التنصّل من مسؤولياتهم الرسالية. وهذا تحديدًا ما يمكن استنتاجه من كلام أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب حين قال في بعض خطبه: «أيّها الناس، اعلموا أنه ليس بعاقل من انزعج من قول الزّور فيه، ولا بحكيم من رضي بثناء الجاهل عليه، الناس أبناء ما يحسنون، وقدر كلّ امرئ ما يُحسن»، إنّ من الواقعي جدًّا أن يتألم العاقل ويتأذّى من تلقي الإساءة من الآخرين، ولكن من غير الصحيح أن يدفعه هذا الألم والأذى إلى الانصراف عن الحقّ، والتخلي عن أفكاره التي يؤمن بها، لمجرد أنّ الناس قد تكلموا ضده. ينبغي ألّا يتخلّى الإنسان عن مسؤولياته وواجباته، عندما يواجه نقدًا أو تناله جملة من الاتّهامات والافتراءات، وألّا يفقد الثقة في نفسه، وبما هو مقتنع به، ذلك أنه ربما شكّك الإنسان في نفسه وأفكاره والنهج الذي يسير عليه، نتيجة لكثرة الكلام والاتّهامات التي تنال منه؛ لأنه ينبغي للإنسان أن يُخضع نفسه، ويحاكم أفكاره، على أساس المعايير الصحيحة، وليس تبعًا لأقوال الناس، أو مجاراة لمستوى رضاهم عنه، فالناس ليسو مقياسًا للحقّ.
ومعنى الانزعاج في كلمة الإمام «ليس بعاقل من انزعج» هو الاضطراب، وهو نقيض الاستقرار. فالعاقل وإن كان يتأذّى من القيل والقال في حقّه، إلّا أنّه لا ينبغي أن يقع في حالة الاضطراب، على نحوٍ يغير مواقفه، ويتنازل عن مبادئه، ويفقد الثقة في نفسه، فحينئذٍ لا يكون عاقلًا؛ لأنه حكّم كلام الناس وتنازل عن حكم عقله. ويمضي في القول أنّ «الناس أبناء ما يحسنون، وقدر كل امرئ ما يُحسن»، وكأنّ الإمام يريد أن يقول، إنّ الكفاءة الذاتية هي المعيار الذي يحتكم إليه، لا كلام الناس، فلو أنّ الناس تكلموا عن شخص بسوء، وهو على خلاف ما يزعمون، وكان على قدر كبير من الكفاء، فحينئذٍ لا بُدّ وأن يركن المرء إلى كفاءته الذاتية رغمًا عن أقوال الناس.
والحال نفسها إذا ألقى الناس على مسامع أحدهم، ألوان الإطراء وأشكال المديح، فلن يزيده ذلك مثقال ذرة في كفاءته. ومما ورد في وصايا الإمام الكاظم لهشام بن الحكم أنه قال: «لَو كانَ في يَدِكَ جَوزَةٌ وقالَ النّاسُ: في يَدِكَ لُؤلُؤَةٌ، ما كانَ يَنفَعُكَ وأنتَ تَعلَمُ أنَّها جَوزَةٌ؟، ولَو كانَ في يَدِكَ لُؤلُؤَةٌ وقالَ النّاسُ: إنَّها جَوزَةٌ، ما ضَرَّكَ وأنتَ تَعلَمُ أنَّها لُؤلُؤَةٌ؟»[2] ، فالمعيار ليس كلام الناس، وإنّما المعيار أن يثق المرء بذاته، ويحافظ على رباطة جأشه، ويستخدم المعايير الصحيحة في اختيار فكرته، وتشكيل رأيه، وبلورة موقفه، عندها فليطوِ كشحًا عن كلام الناس. ولا يضطرب، ولا ينتابه القلق، ولا يتنازل عن موقفه، ويتخلّى عن مسؤولياته، وإن كان من حقّه أن يتألم وأن يتأثر نفسيًّا من الأباطيل التي تروج ضدّه.
ولعلّ أشدّ ما يصيب المرء من الأذى حين تدبّج الأكاذيب ضدّه تدبيجًا يلتبس على الآخرين، فلا يميزون الحقّ من الباطل فيها. وهذا ما أشار له أمير المؤمنين في قوله: «ليس بعاقل من انزعج من قول الزور فيه»، والزور لغة هو الكذب المنمّق، الذي ينطلي على الناس فيحسبونه صدقًا، فليس كلّ الكذب زورًا، فهناك الكذب المكشوف، أما الكلام الزور فهو الكذب المحبوك حبكًا، على نحوٍ ينطلي على أغلب الناس. ومنه جاء التزوير، فتزوير الوثائق والعملات النقدية على سبيل المثال، غالبًا ما يأتي على نحو المطابقة للوثيقة أو العملة الأصلية، ولا يمكن أن ينكشف التزوير إلّا مع شدة التأمل والتدقيق.
وكذلك الحال مع الآراء والمواقف والأفكار، التي من الطبيعي أن يظهر من يخطئها ويعارضها بشدة، وهذا مما لا مشاحة فيه، غير أنّ ما يجري أحيانًا هو الاختلاق واصطناع التهم من نسج الخيال، وهذا هو الزور بعينه، وهو من أسوأ ما يواجهه الإنسان. لذلك عَدّ الله تعالى قول الزور من أقبح الأعمال، وقرنه بعبادة الأصنام، قال تعالى: ﴿فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ﴾، فلا يجوز تحت أيِّ مبرر تلفيق التّهم وقذف الآخرين بها جُزافًا، فوزر ذلك وزر عبادة الأصنام. وقد أخرج البخاري ومسلم عن عَبْدِالرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللهِ فَقَالَ: «أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ؟» ثَلَاثًا، «الْإِشْرَاكُ بِاللهِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ، وَشَهَادَةُ الزُّورِ ـ أَوْ قَوْلُ الزُّورِ ـ» وَكَانَ رَسُولُ اللهِ مُتَّكِئًا، فَجَلَسَ فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى قُلْنَا: لَيْتَهُ سَكَتَ»[3] ، وبذلك يجعل التصنيف النبوي قول الزور على درجة أعلى وأشدّ فداحة من الشرك والقتل والعقوق.
لا تشترك في ترويج الاتّهامات
إنّ الله تعالى لم يَنْهَ المؤمنين عن قول الزور وحسب، وإنّما نهاهم، علاوة على ذلك، عن شهادة الزّور ضدّ الآخرين. قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا﴾، وفي معنى ﴿لَا يَشْهَدُونَ الزُّور﴾ ذهب مفسّرون إلى تفسير ذلك بالنأي عن قول شهادة الزور، في حين ذهب مفسّرون آخرون، إلى تفسير ﴿لَا يَشْهَدُونَ الزُّور﴾ بالنأي عن الحضور في محضر يقال فيه كلام الزور، وهذا الرأي يتناسب مع سياق الآية الكريمة ﴿وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا﴾، فالشهود هو الحضور والاستماع للزور، مقابل المرور مرور الكرام على مجالس الزور. فالإنسان المؤمن ليس فقط من ينأى بنفسه عن قول الزور، وكيل التّهم، وسوق الكلام على عواهنه بحقّ الناس، وإنّما عليه فوق ذلك ألّا يحضر مجالس الزور التي يدور فيها مثل ذلك الكلام القبيح.
ومن مصاديق النأي عن شهادة الزور في عصرنا الراهن نأي الإنسان بنفسه عن ترويج الأباطيل بحقّ الآخرين. سيّما ونحن نعيش عصرًا تنوعت فيه فرص التعبير عن الرأي، وبات المجال مفتوحًا لأيٍّ كان، لقول ما شاء فيمن شاء، حقًّا أم باطلًا، فامتلأت وسائل التواصل الاجتماعي بجبال من التُّرَّهات على عباد الله، طعنًا في هذا الطرف، ونيلًا من تلك الجهة. لذلك يغدو من مصاديق قوله تعالى: ﴿لَا يَشْهَدُونَ الزُّور﴾، ألّا يشارك الإنسان في ترويج الأباطيل على عباد الله، من خلال النشر، وإعادة النشر، لتلك الأباطيل، والافتراءات، والتّهم المختلقة، عبر الصفحات الخاصة على مواقع التواصل الاجتماعي، أو إعادة النشر عبر برامج المحادثة الجماعية في أجهزة الهواتف الذكية، فالوقوع في هذا مصداق واضح لمخالفة قوله تعالى: ﴿لَا يَشْهَدُونَ الزُّور﴾. ينبغي للإنسان أن يتّقيَ الله وينأى عن قول الزور وشهادة الزور؛ لأنه مسؤول أمام الله تعالى.
كما أنّ ذلك ليس صيانة لشخص زيد أو كرامة لعمرو، بقدر ما يُراد من ذلك الحفاظ على صفاء ونقاء الأجواء الاجتماعية، فالمجتمع الذي تعجّ أجواؤه بالاتّهامات المتبادلة، تكون جلّ اهتمامات أفراده منحرفة، فلا يعود مجتمعًا صالحًا، ناهيك عن أنه ربما دخلت أطراف مشبوهة تغذّي هذه الممارسات، وتساهم في صبّ الزيت على النار؛ لأنّ من مصلحة هذه الأطراف أن ينشغل المجتمع في تبادل السُّباب والشتائم، وتشويه السمعة بين هذا الطرف وذاك. ومن الواضح جدًّا أن غرض الكثير مما تنشره بعض الحسابات والمعرّفات الإلكترونية هو إشغال الناس ببعضهم بعضًا، وأن يفقدوا الثقة في بعضهم بعضًا، وأن يحطّموا رموزهم المحلية بأيديهم، وعلى الإنسان الواعي ألّا يكون شريكًا في خطط الأعداء، ولعبة تحركه أياديهم من حيث لا يعلم.
الخطبة الثانية: من يؤجّج صراع الحضارات
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾[سورة الحجرات، الآية:13].
يواجه العالم مخاطر حقيقية تُهدّد حالة التعدد الثقافي والحضاري الذي يميّز المجتمعات البشرية. وذلك رغم ما يمتاز به عصرنا الراهن من ميزات عظيمة، كان ينبغي أن تعزّز الأمن والسلام في العالم، وأن تجعل الشعوب أقدر على التعاون فيما بينها. ومن تلك الميزات:
أولًا: تقدّم العلم والمعرفة على المستوى العالمي، ما يقتضي أن يكون الناس أكثر قدرة على التعاون؛ لأنّ الجهل من بواعث الخلاف والنزاع.
ثانيًا: تطلّع مختلف الشعوب نحو التنمية والمزيد من التقدم التكنولوجي والاقتصادي، ومقتضى ذلك أنّ تندفع المجتمعات بصورة أكبر نحو الانفتاح على بعضها، وتمتين سبل التعاون والتكامل فيما بينها.
ثالثًا: انتشار القيم الإنسانية ومفاهيم حقوق الإنسان، من قيم العدالة والحرية والمساواة، وقيام مؤسسات دولية في سبيل حماية هذه القيم، إضافة إلى تشكّل الوعي العام لدى المجتمع البشري حيال هذه القيم، على نحوٍ أكثر بكثير من أيِّ عصرٍ مضى. ومع وجود هذه الميزات وغيرها، التي من المفترض أن تسود معها حالة الأمن والسلام، غير أنّ العالم يشهد أخطارًا كبيرة تهدّد العلاقة بين المجتمعات والشعوب، خاصة على صعيد تنوعها الثقافي والحضاري.
صدام الحضارات قيد التنفيذ
وقد برزت أواخر القرن العشرين إمارات الخطر، ونذر النزاعات والحروب، التي تُهدّد مستقبل المنطقة والعالم. فمنذ بدايات العقد الأخير من القرن العشرين، جرى الترويج لنظرية صراع الحضارات، التي أطلقها السّياسي الأمريكي الشهير صموئيل هنتنغتون، وهو سياسيّ يهوديّ متنفّذ في مراكز صنع القرار الأمريكي، وقد نشر نظريته في البداية على هيئة مقال في العام 1993، ثم توسّع في المقالة وطبعها كتابًا سنة 1997، وما لبث الكتاب أن أصبح من أكثر الكتب مبيعًا في الغرب، وترجم إلى مختلف اللغات. وتتلخص نظرية الكاتب في أنّ الصراعات البشرية المقبلة لن تقوم على أسس الصراع والنفوذ الاقتصادي أو السياسي أو الجغرافي، وإنما ستجري الانقسامات وتشتعل الحروب على أساس الاختلاف الثقافي والحضاري، وأنّ أتباع كلّ حضارة سيكونون أكثر اندفاعًا وحدّية تجاه الحضارات الأخرى.
كان من الواضح أنّ انبثاق وترويج نظرية صراع الحضارات، لم يأتِ من قبيل التنبؤ والتحليل، بل كان أمرًا مقصودًا، وإشارة إلى مخطط موضوع يجري تفعيله. وكان محورا الصراع المخطط له، هما الحضارتان الأكثر تماسًّا في هذا العصر؛ الحضارة الغربية المتألقة والمتقدّمة علميًّا وتكنولوجيًّا، والحضارة الإسلامية التي تشهد نهوضًا وتطلّعًا لدى أجيالها الشابة على وجه التحديد، والتي بدأت ملامحها بعد حقب طويلة من الاستعمار الأجنبي، ونظم الاستبداد السياسي في الأمة. وكان من المفترض أن يكون هناك تلاقٍ وتلاقحٌ بين الحضارة الإسلامية التي تتحرك عواملها داخليًّا، من خلال الدعوات لتحكيم قيم الإسلام، وبين الحضارة الغربية المادية المتألّقة صناعيًّا وتكنولوجيًّا، والمحتاجة إلى ما يسدّ الفراغ الروحي والقيمي فيها، وهذا ما كان يتوفر في الفكر والثقافة الإسلامية.
وبعيدًا عن الاستغراق في نظرية المؤامرة، ومن خلال الرصد لمجريات الأحداث، يمكن القول إنّ هناك من تنبّه إلى وجود إمكانية نظرية، لقيام تكامل من نوع ما بين الحضارتين الغربية والإسلامية، فأراد عوضًا عن ذلك أن يخلق الشّقاق والصدام بين الحضارتين، والمتهم المتورط على هذا الصعيد هي الصهيونية العالمية بصورة خاصة.
الصهيونية وإذكاء الصراع
وللحديث عن خلفية وأسباب ظهور نظرية صدام الحضارات، ينبغي أن نضع في الاعتبار أنّ أكثر ما يخشاه الصهاينة، هو أن يجري التفاهم بين الغرب والمسلمين. فالصهاينة الذين يحتلون أرض فلسطين منذ منتصف القرن العشرين، دخلوا في مواجهة مكشوفة مع الأمة الإسلامية، كانوا يعلمون علم اليقين، أنّهم إنْ لم يدخلوا على خطّ العلاقة بين الطرفين الإسلامي والغربي، فإنّ الشعوب الغربية ستكون أكثر تقبّلًا للثقافة الإسلامية، وأكثر ميلًا للتعاطف مع المسلمين، والوقوف في وجه الاحتلال الصهيوني للأراضي العربية.
فلا يمكن لأيِّ عاقلٍ من أيِّ ملّةٍ كان، أن يقبل احتلال أراضي الغير وظلمهم وممارسة الجور عليهم. وإذا ما أخذنا بعين الاعتبار، إدراك الصهاينة بأنّهم لو بقوا وحدهم في مواجهة الحقّ العربي والإسلامي، فلن يستطيعوا أن يستمروا طويلًا في هذا الصراع، فضلًا عن أن يتعزّز نفوذهم في المنطقة العربية والإسلامية. من هنا فقد رأوا أن من مصلحتهم الدفع باتجاه الصدام والصراع بين المسلمين والغرب، فهذا الصراع يخدم إسرائيل والصهيونية العالمية من خلفها على نحوٍ كبير، لذلك عملوا بجدّ على تأجيج هذا الصراع. وكما سبقت الإشارة، فإنّ منشأ نظرية صراع الحضارات مفكّر يهودي، وأكثر من رحّب بها وروّجها هو الإعلام الخاضع للنفوذ الصهيوني.
ولقد عملت الصهيونية للتأسيس للصراع الغربي الإسلامي في اتجاهين. الاتجاه الأول جاء من خلال تشجيع التطرّف الديني في أوساط المسلمين، ويتحمّل المسلمون أنفسهم قسطًا أساسًا من المسؤولية على هذا الصعيد، فقد كانت الأرضية جاهزة لبروز التطرف، خاصة مع وجود القابلية في التراث الديني عند بعض المدارس السائدة في الأمة الإسلامية، لتحويل التطرّف إلى أعمال عنف ضدّ الآخر.
وجاء الاحتلال السوفييتي لأفغانستان في ثمانينيات القرن الماضي، ليوفّر فرصة لتوجه الآلاف من الشباب المسلمين لأفغانستان، لمواجهة الشيوعيين والجهاد ضدّ السوفييت، فكانت المخابرات الأمريكية والغربية والإقليمية جاهزة لانتهاز هذه الفرصة، فعملوا على بعث الفكر المتطرف الذي كان إلى ذلك الوقت في حالة كمون في قلب التراث الإسلامي، فأنعشوا آراء التطرف، ودعموها في أوساط هؤلاء الشباب المسلم، ونجحت أجهزة المخابرات منذ ذلك الوقت في إنشاء واختراق تنظيمات متطرفة، تمارس شتى أعمال الإرهاب والإجرام، ولا تتردّد في استباحة الحرمات، وارتكاب أبشع الجرائم بحقّ الأبرياء في البلاد الإسلامية والعالم، تحت عنوان الجهاد في سبيل الله، وهكذا استمرّ تفريخ هذه التنظيمات المتشدّدة. ولا يمكننا أن ننظر ببراءة إلى ملابسات نشوء هذه التنظيمات الإرهابية، واستمرارها بقوة، خاصة مع توفّرها على مختلف القدرات، من الموارد المالية، والسلاح والإعلام، وبعد أن كانوا يقيمون في كهوف أفغانستان وباكستان، باتوا اليوم يسيطرون على مساحات شاسعة في قلب منطقة الشرق الأوسط، وهذا ما لا يمكن أن يجري من دون دعم وتشجيع، من الصهيونية العالمية التي تستهدف قلب الأمة والمنطقة.
تخويف الغرب من الإسلام
أما الاتجاه الثاني الذي لعبت على وتره الصهيونية العالمية، فهو تخويف المجتمعات الغربية من الإسلام. فقد عملت الصهيونية حثيثًا على إثارة القلق البالغ من الإسلام وسط الشعوب الغربية، ولا شكّ بأنّ الممارسات الإرهابية كفيلة بأن تثير القلق والانزعاج من الإسلام والمسلمين، المنتشرين في أنحاء أوروبا والعالم، حتى بات الإسلام أحد أسرع الأديان انتشارًا في تلك المجتمعات.
من هنا تمّ الدفع ببعض الجهات والأشخاص للجهر بالإساءة للإسلام، والمقدّسات الإسلامية، وقد بتنا نجد بين الفينة والأخرى كتابًا، صحيفة، مجلة كاريكاتور، برنامجًا تلفزيونيًّا، أو فيلمًا مسيئًا للإسلام. ومن الواضح جيّدًا دور الخبرات الإعلامية والنفسية الضليعة في فهم النفسية الإسلامية ذات العاطفة الجيّاشة، والقابلة للاستفزاز السّريع، خاصة فيما يرتبط بكرامة النبي محمد وسائر المقدّسات الإسلامية، فعملت الصهيونية على العزف على وتر استفزاز عواطف المسلمين، وجرح مشاعرهم على نحو دائم. ضمن هذا السّياق جاءت الإساءة الأخيرة للرسول على صفحات المجلة الفرنسية السّاخرة «شارلي ايبدو»، وجاء بعدها الهجوم الإرهابي الذي أسقط عددًا من محرّري ورسّامي المجلة.
هذا السيناريو هو تحديدًا ما تريده الصهيونية. السيناريو الذي يبدأ باستفزاز مشاعر المسلمين، ليأتي بعدها هذا النوع من الاعتداءات الوحشية!. وبالرغم مما أبداه المسلمون من تعاطف كبير مع ضحايا الاعتداء، وإعلان المواقف المستنكرة من مختلف الجهات ضدّ هذا العمل الوحشي، والمشاركة في تشييع الضحايا، لكن المجلة أصرّت على الصدور بعدد جديد انطوى على إساءة أكبر للنبي، طبع في خمسة ملايين نسخة، وترجم إلى عدة لغات، ونفذت من الأسواق سريعًا، هذا بعد أن كانت المجلة فيما سبق حادثة الاعتداء الإرهابي تطبع 60 ألف نسخة بالكاد تستوعبها السوق!. وهذا دليل واضح على الإصرار على بقاء حالة الاستفزاز للمسلمين، وأن يتأجج التناقض والصدام بين المسلمين والغرب؛ لأنّ المستفيد الأول من حالة الصراع هذه إسرائيل، والصهيونية العالمية، واليمين المسيحي المتطرف.
التحلّي باليقظة وضبط النفس
إنّ على أبناء الأمة الإسلامية التحلّي باليقظة، والتزام أعلى درجات ضبط النفس. سيّما ونحن بإزاء حالات استفزاز وإساءات متعمّدة متكررة، فلا ينبغي أن نكون هدفًا سهلًا لها، فالعاقل هو الذي يفشل خطط الأعداء، ولا يعطيهم فرصة النجاح.
ولعلّ أكثر من ينبغي أن يلتفت لهذه الحقيقة، هم أولئك الذين يتسلحون بسلاح الفتاوى الدينية، والآراء والنصوص التراثية، لتبرير المواجهة مع الآخر لمجرّد الاستجابة للاستفزاز.
إنّ مواجهة الاستفزاز عند الإنسان المؤمن ينبغي ألّا تخرج عن النهج القرآني المتمثل في الآية الكريمة: ﴿وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا﴾، ﴿وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا﴾، فهذا النهج القرآني في مواجهة الاستفزاز هو الأنسب على الإطلاق، وعلى كلّ الصُّعد، بما في ذلك الاستفزازات الطائفية على المستوى المذهبي فيما بين المسلمين أنفسهم، خاصة بين السنة والشيعة، فما يجري في الكثير من الأحيان لا يعدو عن كونه استفزازًا متعمّدًا، من طرفٍ إلى طرفٍ آخر.
ولتقريب الصورة داخليًّا، نجد الكثير من أبناء المذاهب الإسلامية يذهبون إلى زيارة النبي، وبقيع الغرقد في المدينة المنورة، حيث قبور الصحابة، وأئمة أهل البيت، وزوجات النبي، غير أنّ الجميع يعلم أنه ونتيجة للاختلاف المذهبي، فإنّ هناك في المدينة المنورة، من يتربّص بالزائرين للقبض عليهم، بذريعة ارتكاب البدع الدينية، والشرك عند زيارتهم القبور، فإذا كان جلُّ الزوّار يعلمون بهذه الحقيقة، فلا ينبغي أن يعطوا لأولئك الفرصة باستجابتهم للاستفزاز.
إنّ المطلوب أن يكون الناس واعين فلا يقعون في مصيدة الاستفزاز، وما عسى يفيد الجدل والنقاش العقيم مع أولئك المستفزّين، الذين يجدون في عملهم فريضة دينية، والذين ربما كان الجدل معهم سببًا في وقوع مشكلة لا داعي لها، كما هو حاصل فعليًّا بين فترة وأخرى. إنّ المطلوب من المؤمنين أن يتجنبوا الاستجابة للاستفزاز تمامًا، فهذا ما يدعونا إليه القرآن الكريم، والنبي وأئمة المسلمين، ومراجع الدين، ولا يتصورن أحدهم أنّ من البطولة الاستجابة لمصيدة الاستفزاز، فذلك ربما كان نوعًا من الطيش والتهور والحماقة. من هنا على الإنسان المؤمن أن يكون يقظًا واعيًا متحلّيًا بدرجة عالية من الانضباط تجاه الاستفزازات الواردة من خارج الأمة على الصّعيد الديني، و من داخل الأمة على الصّعيد المذهبي.
وبالعودة إلى البعد العالمي، ينبغي للأمة، شعوبًا وحكوماتٍ وفاعليات، أن يقوموا بدور أكبر من أجل وضع حدٍّ للإساءة للمقدسات الدينية. وهذا ما يتطلّب تعاونًا وتحرّكًا سياسيًّا واسعًا تقوم به الدول الإسلامية، ومختلف القوى العالمية الواعية بما تمتلك من طاقات وقدرات، لتجاوز أجواء الاستفزاز الديني، ومواجهة آثار وأضرار صدام الحضارات.