المعرفة والالتزام السلوكي
ورد عن أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب أنه قال: «رُبَّ عَالِم قَدْ قَتَلَهُ جَهْلُهُ، وَعِلْمُهُ مَعَهُ لاَ يَنْفَعُهُ»[1] .
هناك فارق كبير بين أن يمتلك الإنسان العلم، وأن يستفيد من ذلك العلم فعليًّا. فقد يحمل الإنسان العلم في بعض الأحيان، لكنه لا يتحول إلى سلوك عملي في حياته، ولا يظهر أثره على ممارساته، وإنّما يبقى مجرّد نظريات يختزنها، وآراء يحملها، ومعلومات يتوفّر عليها، فلا تكاد تغادر ذهنه. وذلك أشبه ما يكون بامتلاك المرء مصباحًا كهربائيًّا، لكنه يُبقي عليه مطفأ، أو يغمض بصره عن رؤية ضوئه، أو أنه ببساطة لا يجيد تشغيله، ما يعني في النهاية أنّ مجرّد وجود المصباح لا يعني حتمية الاستفادة من ضوئه. وكذلك هو العلم، فقد لا يستفيد الإنسان من العلم الذي يتوفّر عليه، وهذا عين ما يشير إليه أمير المؤمنين عليّ بن طالب حين قال: «رُبَّ عَالِمٍ قَدْ قَتَلَهُ جَهْلُهُ، وَعِلْمُهُ مَعَهُ لَا يَنْفَعُهُ».
وقد أشارت نصوص دينية كثيرة إلى إخفاق بعض حملة العلم في الاستفادة من العلم الذي يحملون. روي عن نبيّ الله عيسى أنه قال: «وماذا يُغني عَنِ الأَعمى سَعَةُ نورِ الشَّمسِ وهُوَ لا يُبصِرُها؟! كَذلِكَ لا يُغني عَنِ العالِمِ عِلمُهُ إذ هُوَ لَم يَعمَل بِهِ»[2] . ومما جاء في الشعر العربي قول الشاعر:
كَالعِيسِ فِي الْبَيْدَاءِ يَقْتُلُهَا الظَّمَا وَالْمَاءُ فَوقَ ظُهُورِهَا مَحْـمُولُ
وأبلغ من ذلك ما جاء في قوله تعالى: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا﴾، شبّه تعالى بعض حملة العلم بالحمار الذي يحمل على ظهره كتب العلم وأسفار المعرفة؛ لأنّ ذلك العلم لم يجد طريقه نحو التطبيق والتحوّل إلى سلوك فعّال، بقدر ما ظلّ يمثل مجرّد حزمة من النظريات والآراء والمعلومات التي يختزنها ذهنه وحسب.
الشّهوات تصرف عن العمل بالعلم
هناك موانع قد تحول بين الإنسان والاستفادة من علمه. ولعلّ أبرزها خضوع الإنسان العالم إلى شهوة أو رغبة تصرفه عن العمل بالعلم. وقد يعتري هذا الأمر المعنيين بالمجال الديني، كما هو وارد على المعنيين بالمعارف الدنيوية، فهناك في المجال الديني من يعرف قيم وأحكام الدين على نحو جيّد، لكنه مع ذلك يخالفها اتّباعًا للأهواء والشهوات، وهذا ما تشير إليه الآية الكريمة في قوله تعالى: ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَـٰهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّـهُ عَلَىٰ عِلْمٍ﴾، وكما هو واضح بأنّ من تتناوله الآية هو عالم قد ضلّ وانحرف استجابة لهواه، الذي أصبح بمثابة إلآه يخضع له. وعلى غرار ذلك ما جاء في قوله تعالى: ﴿وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَىٰ عَلَى الْهُدَىٰ﴾، كما ورد عن أمير المؤمنين أنه قال: «كَمْ مِنْ عَقْلٍ أسيرٌ تَحتَ هَوىً أميرٍ»[3] ، فقد شبّه العقل بالأسير المقيّد تحت إمرة الهوى المسيطر على صاحبه.
العالم ليس دائمًا كما يتوقّع الناس
إنّ توقعات الناس تجاه التزام العلماء بالعلم الذي يكتنزونه، ربما تخالفها حقائق الأمر الواقع في كثير من الأحيان. ففي المجال الديني مثلًا: يتوقع الناس من رجل الدين الذي يعرف الحلال والحرام، أن يلتزم حرفيًّا بقيم وأحكام الدين، غير أنّ ذلك قد لا يحدث، فهو يمتلك المعرفة الدينية، لكنها لا تترجم حتمًا إلى سلوك، نتيجة الأهواء والشهوات التي قد تسيطر على قلبه. ومثال ذلك ما تناوله القرآن الكريم في قوله تعالى: ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا﴾، فهذا الشخص كان يعرف جيّدًا مبادئ وقيم الدين، لكنه ساعة استيلاء الأهواء عليه ضرب بالمبادئ والقيم عرض الحائط، فأصبح في وضع أسوأ بكثير من سائر الناس العاديين، فقد ورد عن رسول الله أنه قال: «إنّ أشَدَّ النّاسِ عَذابًا يَومَ القِيامَةِ عالِمٌ لَم يَنفَعهُ عِلمُهُ»[4] ، وجاء في حديث آخر عنه أنه قال: «إِنَّ أَهْلَ النَّارِ لَيَتَأَذَّوْنَ مِنْ رِيحِ الْعَالِمِ التَّارِكِ لِعِلْمِهِ»[5] ، مما يعني أن العالم غير العامل بعلمه هو أسوأ أهل النار موقعًا، وأشدّهم عذابًا، وأنتنهم ريحًا.
مخالفة المعرفة
والمحزن أنّ الناس قد يتجاهلون أبسط معارفهم الدنيوية وليست الدينية فقط، فيوقعون أنفسهم في الانحرافات والمشاكل. فجميع الناس تعرف أنظمة المرور، وتدرك جيّدًا أهمية التقيّد بها، ولو سألت أحدًا عن مدى خطر الوقوع في مخالفة أنظمة المرور، لأسهب في تناول تلك الأخطار. والحال نفسه على المستوى الصحي، فقد باتت الثقافة الصحية منتشرة على نطاق واسع، وبات أكثر الناس لديهم اطّلاع جيّد بمسببات الأمراض، غير أنّ ضغط الرغبة والهوى يجعلهم يتجاهلون كلّ التحذيرات الطبية، فيرتكبون ما يضرّ بصحتهم، من خلال تناول الأطعمة والأشربة غير المناسبة، أو ممارسة العادات الضارّة بصحتهم، فتعود عليهم بالأمراض الفتاكة والمزمنة، كأمراض السكري، وأنواع السرطان والسمنة. فالمشكلة هنا ليست مرتبطة بنقص المعرفة والعلم، وإنما تتعلق بالخضوع للرغبة، والاستسلام للشهوة، التي تجعل الناس يتجاهلون علمهم ومعارفهم، فيودي بهم ذلك إلى المهالك.
واستطرادًا، تشير الدراسات والأبحاث إلى أنّ أكثر أسباب الوفاة في العالم ناتجة عن أمراض السرطان، الناشئة بدورها عن عادات وممارسات يقع فيها الناس أنفسهم. وقد احتفى العالم هذا الأسبوع باليوم العالمي للسرطان المصادف للرابع من فبراير من كلّ عام، والمخصص للتوعية بأضرار هذا المرض. أحد أخطر الأمراض الفتاكة، ومما يضاعف من خطورته أنه ينتشر في جسم المريض خلسة، ولا يترك أعراضًا واضحة في بداياته، بل قد لا يدرك المريض بالسرطان أنه مصاب به، إلّا بعد أن يستفحل وتنتشر خلاياه في جسمه.
ويُعَدّ مرض السرطان أحد أكثر الأمراض المؤدية للوفاة على مستوى العالم، ومن أنواع السرطانات المؤذية؛ سرطان الرئة، والسبب الرئيس خلف هذا النوع من السرطان عادة التدخين. ورغم معرفة أغلب المدخنين أن التدخين هو المسبب الرئيس لأمراض السرطان، إلّا أنّهم مع ذلك يتجاهلون كلّ التحذيرات الصحية، مبررين تشبثهم بالتدخين بتبريرات واهية، إلى أن يصابوا بالمرض الخبيث كمن سبقهم من المدخنين، لا لشيء إلّا الخضوع لسيطرة الرغبة وسلطان الهوى.
وحول الأخطار المرتبطة بالتدخين، تشير المعلومات إلى أنّ الإصابة بسرطان الرئة تقف خلف 22 بالمئة من أسباب الوفاة نتيجة السرطان. وكشفت دراسة سعودية بأنّ التدخين يُعَدّ المسبّب الرئيس لوفاة ما يزيد على 23 ألف شخص سنويًّا في المملكة. وقالت منظمة الصحة العالمية إنّ التدخين يقتل ما يزيد على ستة ملايين شخص سنويًّا عبر العالم، والأنكى أنّ هناك ما يزيد على 600 ألف شخص غير مدخّن يموتون سنويًّا نتيجة التدخين غير المباشر، أو ما يطلق عليه بالتدخين السلبي، نتيجة استنشاقهم الدخان الذي ينفثه المدخنون، من الأصدقاء، وزملاء العمل، أو أفراد الأسرة، هذا على المستوى البشري. أمّا على الصّعيد الاقتصادي فحدّث ولا حرج، ففي المملكة العربية السعودية وحدها تبلغ كلفة استيراد التبغ أكثر من ثمانية مليار دولار.
إنّ أغلب الناس يعلمون، على المستويين الديني والدنيوي، أضرار كثير من ممارساتهم، وأنها ستؤدّي بهم إلى المهالك، لكنهم لا يتجنّبون تلك الممارسات نتيجة الخضوع للهوى. كثيرون يعلمون أنّ بعض الممارسات نتيجتها العذاب والشّقاء، وسخط ربّ العالمين، مع ذلك يقدمون على اقترافها، لمجرّد الخضوع للرغبة وسيطرة الهوى، وهذا مصداق قول أمير المؤمنين: «رب عالم قد قتله جهله، وعلمه معه لا ينفعه».
الخطبة الثانية: بشاعة الإرهاب وسمعة الإسلام
روى الإمام أحمد بن حنبل في مسنده عن جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: «لَمَّا قَسَمَ رَسُولُ اللَّهِ غَنَائِمَ هَوَازِنَ بَيْنَ النَّاسِ بِالْجِعْرَانَةِ قَامَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ فَقَالَ: اعْدِلْ يَا مُحَمَّدُ، فَقَالَ: وَيْلَكَ! وَمَنْ يَعْدِلُ إِذَا لَمْ أَعْدِلْ؟ لَقَدْ خِبْتُ وَخَسِرْتُ إِنْ لَمْ أَعْدِلْ. قَالَ فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ الله، أَلَا أَقُومُ فَأَقْتُلَ هَذَا الْمُنَافِقَ؟ قَالَ: مَعَاذَ الله أَنْ تَتَسَامَعَ الْأُمَمُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ»[6] .
لا تكاد توجد حالة أكثر تنفيرًا للناس من حالة التلطّخ بتهمة ممارسة العنف والإرهاب. ذلك أنّ الأسوياء ينجذبون نحو أجواء الأمن والسلام، ومن الطبيعي أن تستقطب الناس الفكرة أو الدين الذي يبشر بالسلام، كما يقبل الناس على البلاد التي يعمها الأمن والسلام. أما إذا تلطّخت سمعة أيّ جماعة، أو دين، أو بلد بالعنف والإرهاب، وباتوا يوصمون بهذه الصفة السيئة، فذلك بطبيعة الحال ما يجعل الناس تنفر عنهم بعيدًا.
من هنا ندرك موقف رسول الله تجاه الحفاظ على سمعة الدين والأمة، وعدم تلوّثها بشائبة صفة العنف، فلم يرغب تحت أقسى الظروف أن يتسامع الناس أنّ هذا الدين يفتح المجال أمام ممارسة القتل والعنف، وإثارة الاضطراب، ولأجل ذلك كان يغضّ الطرف عن كثير من التجاوزات والمخالفات المستحقة للعقوبة، داخل المجتمع الإسلامي، حديث النشأة، حفاظًا على سمعة الدين، وحتى لا يشاع بين الناس أنّ الإسلام دين عنف وقتل وإرهاب.
حتى لا يُتهم الإسلام بالعنف
وقد ورد في النصوص الدينية موارد كثيرة، كرست النهج النبوي في الحفاظ على السلم والأمن، والنأي عن العنف والقتل. ومن ذلك ما ورد عنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: لَمَّا قَسَمَ رَسُولُ اللَّهِ غَنَائِمَ هَوَازِنَ بِالْجِعْرَانَةِ قَامَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ فَقَالَ: اعْدِلْ يَا مُحَمَّدُ! فَقَالَ: «وَيْلَكَ وَمَنْ يَعْدِلُ إِنْ لَمْ أَعْدِلْ؟ لَقَدْ خِبْتَ وَخَسِرْتَ إِنْ لَمْ أَعْدِلْ، قَالَ: فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ الله، أَلَا أَقُومُ فَأَقْتُلُ هَذَا الْمُنَافِقَ؟ قَالَ: مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ يَتَسَامَعَ الْأُمَمُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ»، وبذلك يتضح جليًّا أنّ النبي لم يشأ أن يوسّع شقّة الخلاف، والوصول بالموقف إلى درجة القتل، كما أشار بذلك عمر.
ومما ورد في هذا الشأن أيضًا، ما وقع يوم غزوة بني المصطلق، حين تنازع رجل أنصاري من أهل المدينة، ومهاجري من أهل مكة على بئر، حتى كاد النزاع أن يمتدّ فيتحول إلى فتنةٍ لا تحمد عقباها بين المهاجرين والأنصار، بتأجيج من رأس النفاق عبدالله بن أُبي، وقد بلغ من جرأة الأخير على النبي أن تحدث القرآن عن لسانه في قوله تعالى: ﴿لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ﴾، واصفًا نفسه بالأعزّ، في حين ينعت النبي بالأذلّ!، ولما بلغ رسول الله الخبر ودور بن أُبي في إشعال النزاع بين القوم، أشار بعض الصحابة على النبي أن يأمر بقتل ابن أُبي، لتحريضه على الفتنة، وتجرؤه على شخصية النبي، فاقترح الأنصار على النبي أن يقوموا بقتله إذا كان يكره أن يفعل ذلك المهاجرون، بل جاء ابن عبدالله بن أبي نفسه، وقال: يا رسول الله، إنه بلغني أنك تريد قتل عبد الله بن أبي فيما بلغك عنه، فإن كنت فاعلًا فمرني به، فأنا أحمل إليك رأسه، فوالله لقد علمت الخزرج ما كان لها من رجل أبرّ بوالده منّي، إني أخشى أن تأمر به غيري فيقتله، فلا تدعني نفسي أنظر إلى قاتل عبد الله بن أبي يمشي في الناس، فأقتله، فأقتل مؤمنًا بكافر فأدخل النار، وقد كان قتله حقًّا[7] ، لكنه ردّ كلّ تلك الدعوات، وقال: دعه، لا يتحدث الناس أنّ محمدًا يقتل أصحابه[8] .
وجاء في واقعة ثالثة جرت أحداثها أثناء عودة النبي من غزوة تبوك، حيث خططت مجموعة من المنافقين لاغتياله، وكانوا ثلاثة عشر شخصًا، ونزل الوحي وفضحهم، فعرفهم بأسمائهم، وكذلك عرفهم حذيفة بن اليمان، لكن النبي أوصى حذيفة بالتكتم على الأسماء تمامًا، فألحّ بعض الصحابة على النبي أن يعاقب أفراد تلك المجموعة ويقتصّ منهم، فلم يعدو عن الردّ عليهم بذات الجواب «إِني أَكْرَهُ أَنْ يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ» [9] . وهكذا في كلّ الموارد كان حريصًا على سمعة الإسلام من التلطّخ بوصمة العنف والقتل والدماء.
نقض الجهود النبوية
إلّا أنه بالرغم من كلّ الجهود التي بذلها رسول الله في النأي بالإسلام عن العنف وسفك الدماء، يأبى الطغاة والمجرمون إلّا أن يُلطّخوا سمعة هذا الدين بمختلف أشكال العنف والوحشية. فقد بذل جهودًا كبيرة لحماية سمعة الإسلام، والحفاظ على الصورة الناصعة لهذا الدين القويم، ولا غرو فهو نبي الرحمة، الذي بعثه الله رحمة للعالمين، وهو القائل: «إِنَّمَا أَنَا رَحْمَةٌ مُهْدَاةٌ»[10] .
إلّا أنّ هذا الدين العظيم قد تحوّل على أيدي الطغاة الحاكمين والإرهابيين المجرمين في هذا العصر، إلى دين الكراهية والعنف والإرهاب، وليس هناك من كارثة حلّت بالإسلام أعظم من تشويه صورة هذا الدين عبر العالم، فقد تلوّثت صورة الإسلام، وسمعة المسلمين بين شعوب العالم، حتى باتت على نحو بالغ البشاعة والسوء، كلّ ذلك نتيجة الممارسات البشعة، والجرائم الوحشية، التي ترتكبها الجماعات الإرهابية المنتسبة زورًا للإسلام، والتي لم يشهد العالم المعاصر لها مثيلًا.
إنّ الجيوش الغازية في أفغانستان والعراق وفلسطين المحتلة ارتكبت ولا تزال جرائم كثيرة، لكنها غالبًا ما توارى جرائمها خلف ستار من التعتيم الإعلامي، أمّا الجماعات الإرهابية المنتسبة للإسلام فهي تتفاخر علنًا بارتكاب أفظع الجرائم، وأكثرها وحشية على وجه الأرض، من خلال تصوير تلك الجرائم بأحدث التقنيات السينمائية، وبثّها على أوسع نطاق عالمي. فيا ترى، ما الصورة التي سيقدّمها هؤلاء المجرمون للناس عن الإسلام والمسلمين؟
ولعلّ آخر تلك الجرائم هي القتل الوحشي للطيار الأردني (معاذ الكساسبة)، فهذا الطيار العربي المسلم وقع أسيرًا بأيدي هذه الجماعات، ضمن نزاع عسكري له ملابساته، وهذا لا يعني وفق كلّ الاعتبارات بأن يجرّد من حقوقه كأسير حرب، فبأيِّ مبرّر يوضع في قفص حديدي، ويقتل حرقًا بالنار على نحو تقشعرّ له الأبدان؟ والأنكى أن يقوم هؤلاء المجرمون بتصوير مشهد الحرق وبثّه عبر العالم. كما ارتكبت هذه الجماعات في الأسبوع الماضي جريمة أخرى لا تقلّ بشاعة، وذلك بتفجيرهم مسجدًا للمسلمين الشيعة في باكستان، دون أدنى مراعاة لحرمة المسجد والمصلين، فسقط إثر ذلك العشرات بين قتيل وجريح[11] . وكذلك ما تقترفه جماعة بوكو حرام من جرائم في غرب أفريقيا، هذه الجماعة التي يسهل عندها الإقدام على حرق قرى بكاملها، وقتل وتشريد سكانها في العراء، عدا عن الإغارة على المدارس واختطاف بنات الناس، واعتبارهنّ سبايا أو رهائن.
السّخرية والخوف من الإسلام نتيجة طبيعية
وبعد، ماذا ننتظر من العالم غير النظرة العدائية والتحقيرية للإسلام والمسلمين؟ وهل يستغرب أحد إصدار المجلة الفرنسية «تشارلي ايبدو» عددًا خاصًّا يسخر من نبي الإسلام، حتى فاق نشر عددها المكرّس للسخرية من الرسول أكثر من ستة ملايين نسخة، نفدت من الأسواق خلال وقت قصير، وهي المجلة التي لم يكن يتجاوز عدد نسخها الستين ألفًا في المعتاد؟ وعند ذلك أيضًا لا يعود مستغربًا، تنامي الحركة المعادية للإسلام والمسلمين في أوروبا، المعروفة بحركة «بيغيدا»، التي تكرّس نشاطها في التخويف من الإسلام، ودعوة الناس للتظاهر ضدّ الوجود الإسلامي في أوروبا، تحت مبرّر أنّ الإسلام دين إرهاب. ناهيك عن الأفلام والكتب والمقالات التي باتت تنال من الإسلام صراحة، في حملة دعائية معادية، وضعت الإسلام والأمة الإسلامية في محنة لم تشهدها على مرّ العصور.
ضرورة المراجعة السّياسية والثقافية
إنّ واقع الحال المزري، بات يستلزم أن تعيد الأمة النظر والمراجعة الشاملة، لأوضاعها السياسية والثقافية والاجتماعية. فالموجة الإرهابية الراهنة إنّما انطلقت من واقع سياسي بائس، تعيشه معظم البلاد الإسلامية، واقع يخيّم عليه الطغيان والاستبداد، على نحو أغلق المجال أمام شباب بالأمة، وحال دون أدنى أمل في التغيير، وهذا ما يُفسّر جانبًا من أسباب الاندفاع نحو العنف والإرهاب، ولا نقول ذلك تبريرًا للإرهاب، وإنّما إدانة للواقع البائس الذي بات يخنق الجميع، ويخلق بيئة خصبة للانخراط في الإرهاب.
وكذلك الحال على المستويين الثقافي والاجتماعي، فهناك في موروثنا التاريخي، ورغم كلّ الإنجازات الحضارية للأمّة، إلّا أنّه يبقى تاريخًا ملوّثًا ومشوبًا بالقمع والقهر وسفك الدماء. ولعلّ نظرة فاحصة للتراث تكشف عن ارتكابات وفظائع لا نظير لها، وتكفي في هذا الصدد إطلالة على كتاب (موسوعة العذاب) للباحث عبود الشالجي التي تقع في سبعة أجزاء، وقد خصّص فصلًا كاملًا في الجزء السادس من الموسوعة، لتسجيل حوادث الإحراق بالنار في تاريخ الأمة، المرتكب من قبل بعض الخلفاء والحكام، والأطراف المتنازعة ضدّ بعضها بعضًا، وقد رصد الباحث من حوادث الإحراق بالنار بين مختلف المتصارعين ما ملأ ثلاثين صفحة من الموسوعة. إلى جانب رصده التاريخي لأساليب التعذيب والتنكيل الأخرى.
ولا نستثني تراثنا الفقهي وما يتضمّنه من آراء وفتاوى تشرع للمعنف، وتشجع على التطرف. فلا تزال هذه الآراء في مصادر المسلمين، يجري تدريسها، وتستقي منها الجماعات الإرهابية زخمها. والحال نفسه مع تفشي العنف الاجتماعي، ولعلّ أبرز مثال على ذلك، العنف الممارس ضدّ المرأة، فقد تتعرّض البنات لأبشع أنواع العنف، ويدفع كثير منهنّ حياتهنّ فيما يعرف بجرائم الشرف، على أيدي أفراد من العائلة نفسها، وعلى نحو بشع في كثير من الأحيان، كلّ ذلك لمجرّد إبداء رغبتهنّ في الزواج من شخص لا ترتضيه العائلة، أو بسبب وقوع البنات في الخطأ بإقامة علاقة غير مشروعة. ولا ندري من أعطى هؤلاء الحقّ في الاعتداء وممارسة العنف وصولًا للقتل بحقّ البنات!، في تجاوز فاضح لضوابط الشرع والنظام والقانون، ومصادرة لحقّ السلطة العامة.
وما لم تجرِ الأمة مراجعة شاملة للحالة السياسية والثقافية والاجتماعية القائمة، فستظلّ أجواء الأمة تفرّخ التطرف والإرهاب، وستبقى سمعة الإسلام تزداد تلوّثًا، ويستمر الواقع الإسلامي مضطربًا.