توثيق الحقوق درءًا للنزاعات
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ﴾[سورة البقرة، الآية: ٢٨٢].
إنّ تداخل المصالح وتشابك الحقوق المادية بين الناس أمر مرتبط بطبيعة الحياة الاجتماعية. وبذلك يغدو من الطبيعي جدًّا أن تكون مستحقّات أحدٍ في عهدة أحدٍ آخر، وأن تكون مصالحه تحت يد غيره، وقد يترك إنسان شيئًا من ماله أمانة أو وديعة عند طرفٍ ما، وقد يقترض آخر مالًا أو يقرض المال لآخرين، ولربما عمل ثالث أجيرًا فتأخرت مستحقّاته، أو أخذ رابع بضاعة من أحدٍ إلى أجلٍ، وعلى هذا النحو يجري التداخل والتشابك في المصالح والحقوق بين الناس.
ويتأسّس هذا التداخل على قدرٍ من الثقة اللازمة فيما بين الناس، إذْ أنّ غياب الثقة على نحوٍ مطلق يجعل حياة الناس أكثر تعقيدًا. غير أنّ ذلك لا يعني انعدام حالات الجور على حقوق الناس والتعدّي على أمانات بعضهم بعضًا؛ لما في أعماق البشر من نوازع وميول شرّيرة، ربما دفعت إلى إنكار حقوق الآخرين، والحيف على مصالحهم. ولربما جرى ذلك لا على سبيل العدوان، وإنّما بسبب الغفلة والنسيان، الذين يعتريان الإنسان فينسى حقوق الآخرين التي في ذمّته.
تعزيز القيم وضرورة التوثيق
وفي سبيل حفظ الناس حقوق ومصالح بعضهم بعضًا، أكّد الإسلام تعزيز القيم الأخلاقية، وتوثيق تلك الحقوق. فقد ركّز الدين في الجانب الأول على تعزيز القيم الأخلاقية، كالأمانة والورع والوفاء، بغرض الحؤول قدر الإمكان دون وقوع حالات العدوان والجور، غير أنّ تعزيز القيم الدينية وحدها ليس أمرًا كافيًا، لضمان حماية حقوق الناس. لذلك شرع الإسلام الجانب الآخر، وهو المتمثل في توثيق الحقوق خطيًّا، متى ما كان لأحدٍ حقٌّ في ذمّة آخر.
قد يتساهل بعض الناس في هذا الأمر اعتمادًا على الثقة وحسن الظن، كما أنّ آخرين ربما يأنفون مطالبة غرمائهم لهم توثيق الحقوق، عادّين ذلك تشكيكًا في ذمتهم. والحقيقة أنّ المسألة ليست متعلقة بغياب الثقة، بقدر ما إنّ توثيق الحقوق بين الناس بذاته أمر مطلوب، من الناحية الشرعية والناحية العملية، فقد ينسى أحد الطرفين ذلك الحقّ، أو ربما توفي الشخص المدين فيؤول ذلك الحقّ المطلوب إلى يد طرف ثالث، كالورثة مثلًا، فعندها كيف يثبت صاحب الحقّ حقّه أمام الوارثين!.
أطول آية في القرآن الكريم
وقد أولت الشريعة أهمية بالغة لمسألة توثيق الحقوق بين الناس. وبلغ من أهميتها أنْ خصّص لها تعالى أطول آية في القرآن الكريم، فلا توجد آية أطول من الآية 282 من سورة البقرة بدءًا من قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ﴾، التي غطّت صفحة كاملةأو ما يزيد، وقد تناولت الآية بالتفصيل موضوعًا محدّدًا وهو توثيق الحقوق وكتابتها. وسردت الآية تسعة عشر بندًا، نعرض هنا لبعضها، وجاء في طليعتها الأمر الإلهي بالكتابة وتوثيق الحقوق، الذي قد يأتي بحكم الواجب في مورد، ومستحبًّا في مورد آخر، وجاء في الآية: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ﴾ والدَّين هو كلّ حقٍّ لأحدٍ في ذمّة آخر، فقد يشتري شخص سلعة، ثم لا يدفع الثمن، عندها يتحول الثمن إلى دَين في ذمّة المشتري، وبذلك يكون كلّ حقٍّ غير مستوفى هو دَين. والدَّين أوسع من القرض، فالقرض متعلق باقتراض مبلغ معيَّن من أحدٍ، أما الدَّين فهو كلّ حقٍّ لشخصٍ في ذمّة آخر.
كما تحدثت الآية الكريمة عن الكتابة بالعدل، قال تعالى: ﴿وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ﴾، فالقائم على التوثيق كتابة، ينبغي أن يكون عادلًا وكاشفًا ضمن الوثيقة عن كامل حدود وتفصيل الحقّ.
وتمضي الآية لتتناول مسألة وجوب إقرار المدين بالدَّين الذي عليه، بإملائه على الكاتب وذلك في قوله تعالى: ﴿وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ﴾، وذلك لأهمية الإقرار بالدَّين من طرف المدين شخصيًّا.
كما أشارت الآية الكريمة إلى جانب آخر وهو لزوم شهادة الشهود على ذلك الدين، قال تعالى: ﴿وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِن رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ﴾.
ومضت الآية إلى معالجة حالة التّساهل المتوقعة عند بعض الناس، قال تعالى: ﴿وَلَا تَسْأَمُوا أَن تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَىٰ أَجَلِهِ﴾، فالعبرة تكمن في ضرورة كتابة الدَّين، بصرف النظر عن كونه صغيرًا أو كبيرًا، قليلًا أو كثيرًا، وذلك لكي يتعوّد الناس تسيير أمورهم على نحو منظّم.
ويأتي التأكيد الإلهي على توثيق الحقوق بين المتداينين، لغرض بالغ الأهمية، ألا وهو إحقاق العدل وإقامة القسط. حيث تقول الآية: ﴿ذَٰلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ اللَّـهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ﴾، أي أنّ كتابة الحقوق خطيًّا تشكل ضمانة للعدل، وحصانة للشهادة، فلا يكتفي عندها الاعتماد على الذاكرة الشخصية المعرضة للعطب والضعف والنسيان والاشتباه، فتضيع حقوق الناس. وعلاوة على ذلك تمثل عملية التوثيق ضمانة لنزع الارتياب وإزالة سوء الظنون، فتشيع بذلك أجواء الاطمئنان المتبادل في المجتمع، قال تعالى:﴿وَأَدْنَىٰ أَلَّا تَرْتَابُوا﴾.
التساهل قد ينتج نزاعات
إنّ منشأ كثير من المنازعات المتعلقة بالمديونيات، هو غياب التوثيق الخطّي بين المتداينين. من هنا ينبغي أن يتجه الجميع نحو التوثيق كتابيًّا لكلّ حقّ أو مديونية لهم أو عليهم.
وفي هذا السياق وردّ الوجوب على تضمين الوصية حقوق الناس الباقية في ذمّة الموصي، حتى لا تضيع حقوق الآخرين. إنّ هذا الأمر الجوهري لا ينبغي أن يعفي أحد نفسه من الالتزام الصارم به، اتّكاءً على صداقة حميمة، أو ركونًا إلى قربى عائلية. بل إنّ ذلك ينسحب أيضًا حتى على الحقوق والديون المترتبة بين الزوجين، أحدهما للآخر، فإذا شاركت الزوجة المتمكنة ماليًّا زوجها في بناء منزل الزوجية من باب المساعدة والتبرع، فذلك أمر طيّب، ولا نقاش فيه، وعندها لا معنى لتوثيق تلك المساعدة، أما إذا كانت مشاركة المرأة زوجها في بناء المنزل قائمة على أساس اعتبار المنزل الجديد ملكًا مشتركًا بينهما، فهذا يستلزم التوثيق، وتبيان حقوق كلّ طرف، درءًا لأية مشاكل مستقبلية، ولا يجوز للزوج حينها أن يتأبّى التوثيق اتّكاءً على الثقة وحسب، فهذا الأمر مرتبط بحقوق الآخرين، والقرآن الكريم يأمر به.
وكذلك الحال مع كلّ أشكال الشراكة بين الأقرباء والمعارف والأصدقاء، فالواجب أن يوثّق خطيًّا كلّ اتفاق أو تفاهم بينهم، فذلك أدعى لتعزيز الثقة، ومنع تسرّب الريب والشك فيما بينهم، والأهمّ أن يضمن الجميع كامل حقّهم غير منقوص.
رسمية الأوامر الإدارية
ومن المسائل الجديدة في هذا السّياق، مسألة توثيق الأوامر الإدارية بين الموظفين وأصحاب القرار، داخل الإدارات والمؤسّسات والشركات. إذْ يجري في بعض الأحيان اكتفاء الموظف عند معالجة بعض القضايا والأعمال الإدارية المهمة، بالأوامر الشفهية ممن هم أعلى منه، فإذا وقعت مشكلة ما، ربما تنصّل المسؤول المباشر من مسؤولية إعطاء تلك الأوامر، لتقع المسؤولية كاملة على عاتق ذلك الموظف الصغير، فيدفع الثمن غاليًا، لا لشيءٍ إلّا لأنه لا يملك ما يثبت تلقّيه أمرًا رسميًّا يبرر به الإجراء المتخذ. وتنسحب ضرورة التوثيق الكتابي للأوامر الإدارية داخل منشآت العمل بين العاملين وأصحاب القرار.
الاحتياط لحماية الحقوق والمصالح
وتتضمن النصوص الدينية الحثّ على اتخاذ المرء أقصى درجات الحيطة والحذر، لحماية نفسه وحقوقه ومصالحه، من خلال الحرص على التوثيق. ولا يتصورنّ أحدٌ بأنّ التساهل في كتابة وتوثيق المعاملات مع الآخرين، أنه بذلك يمارس التسامح، وحسن التعامل مع الآخرين، إنّما على النقيض من ذلك، فهو خلاف ما أمر به الخالق جلّ وعلا من التوثيق والكتابة، ناهيك عن أنّ هناك نصوصًا دينية تهاجم أولئك المتساهلين في توثيق الحقوق!. فقد ورد عن الإمام الصادق أنه قال: «أربَعَةٌ لا تُستَجابُ لَهُم دَعوَةٌ،... ورَجُلٌ كانَ لَهُ مالٌ فَأَدانَهُ بِغَيرِ بَيِّنَةٍ، فَيُقالُ لَهُ : ألَم آمُركَ بِالشَّهادَةِ ؟»[1] ، ومن الواضح وفقًا لحديث الإمام أنّ المفرّطين في توثيق حقوقهم، لا مكان لتبرمهم وشكواهم، حين يُظلمون ويُغلبون على أمرهم، بل هم فوق ذلك معرضون للمحاسبة والعتاب الإلهي. وورد عنه أنه قال: «مَن ذَهَبَ حَقُّهُ عَلى غَيرِ بَيِّنَةٍ لَم يُؤجَر»[2] ، حيث يبيّن الإمام بأنّ ضياع الحق نتيجة غياب التوثيق أمر لا يثاب عليه الإنسان؛ لأنه تعالى لا يريد للناس أن يتعوّدوا التسيّب والتساهل في الحفاظ على حقوقهم.
ومما ورد في شأن المحافظة على الحقّ وتجنّب التعرض للغبن، ما رواه أَبُو هِشَامٍ الْقَنَّادُ الْبَصْرِيُّ. قَالَ: كُنْتُ أَحْمِلُ الْمَتَاعَ مِنَ الْبَصْرَةِ إِلَى الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، فَكَانَ رُبَّمَا يُمَاكِسُنِي فِيهِ، فَلَعَلِّي لا أَقُومُ مِنْ عِنْدِهِ حَتَّى يَهَبَ عَامَّتَهُ، قُلْتُ: يَا ابْنَ رَسُولِ اللَّهِ، أَجِيئُكَ بِالْمَتَاعِ مِنَ الْبَصْرَةِ تُمَاكِسُنِي فِيه ِـ فَلَعَلِّي لا أَقُومُ حَتَّى تَهَبَ عَامَّتَهُ؟ فَقَالَ: إِنَّ أَبِي حَدَّثَنِي يَرْفَعُ الْحَدِيثَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «الْمَغْبُونُ لا مَحْمُودٌ وَلا مَأْجُورٌ»[3] ، فالإمام كان يماكس الرجل، أي يدفعه لتخفيض أجر التحميل، غير أنّه ما يلبث أن يقسم على من هم حوله كلّ ذلك المال، فلما استفسر الرجل، أوضح له مذمومية تعريض المرء نفسه للغبن، وأنّ هناك فرقًا بين أن يُغبن الرجل في ماله، وأن يعطيه عن رضى وطيب نفس، فهنا يقع الأجر والثواب.
ومما نقل في هذا الشأن أيضًا: «تَعَاشَرُوا كالإِخْوَانِ، وَتَعَامَلُوا كَالأجانِبِ»[4] ، وذلك لجهة توثيق الحقوق البينية، تجنّبًا لأية مشاكل مستقبلية، ونأيًا عن النزاع والخصومات الاجتماعية. هكذا توجّه الشريعة إلى تأكيد دعامتين أساسيتين، وهما: تعزيز القيم الأخلاقية بين الناس، وتوثيق الحقوق بينهم خطيًّا؛ لغرض حماية حقوق ومصالح كلّ الأطراف.
الخطبة الثانية: المحسوبيات أخطر ألوان الفساد
كتب أمير المؤمنين إلى أحد عمّاله، وهو الأسود بن قطبة، صاحب جند حلوان: «أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ اَلْوَالِيَ إِذَا اِخْتَلَفَ هَوَاهُ مَنَعَهُ ذَلِكَ كَثِيراً مِنَ اَلْعَدْلِ فَلْيَكُنْ أَمْرُ اَلنَّاسِ عِنْدَكَ فِي اَلْحَقِّ سَوَاءً فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي اَلْجَوْرِ عِوَضٌ مِنَ اَلْعَدْلِ فَاجْتَنِبْ مَا تُنْكِرُ أَمْثَالَهُ»[5] .
هناك مستويان لتحقيق العدالة بين الناس. يتمثل الأول في وجود القوانين والتشريعات العادلة، والآخر في التطبيق العادل لتلك القوانين.
في المستوى الأول، قد يعتري القوانين والتشريعات خلل يجعل منها وسيلة للجور والتمييز بين الناس، وقد تكون التشريعات والقوانين قائمة على أساس تحقيق العدل. وهنا يأتي دور المستوى الثاني المعني بضمان تحقيق العدالة من خلال التطبيق؛ لأنّ وجود القانون شيء، وتطبيقه شيء آخر، فالحاصل في كثير من البلدان أنّ هناك ممارسات مخالفة للأنظمة والقوانين، يكون المتنفّذون في الأجهزة والدوائر العامة ضالعين فيها، وهذا ما يطلق عليه الفساد الإداري.
إنّ الأجهزة الحكومية، والمؤسّسات العامة، ملك لجميع الناس. لذلك ينبغي أن يكون تعامل المسؤولين والموظفين فيها قائمًا على أساس العدل، وإعطاء كلّ ذي حقٍّ حقّه، بدون تمييز ولا محسوبيات. وقد أكّد أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب في كتابه إلى أحد عمّاله هذه المسألة، حين قال: «أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ اَلْوَالِيَ إِذَا اِخْتَلَفَ هَوَاهُ مَنَعَهُ ذَلِكَ كَثِيراً مِنَ اَلْعَدْلِ فَلْيَكُنْ أَمْرُ اَلنَّاسِ عِنْدَكَ فِي اَلْحَقِّ سَوَاءً فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي اَلْجَوْرِ عِوَضٌ مِنَ اَلْعَدْلِ فَاجْتَنِبْ مَا تُنْكِرُ أَمْثَالَهُ».
فقد يتّفق أن يدخل مراجعان على مسؤول في مؤسسة عامة، أحدهما من قبيلته أو منطقته أو طائفته، فيما المراجع الآخر مجرّد مواطن عادي، فتجد ذلك المسؤول يقدّم من تربطه به علاقة، اتّكاءً على الواسطة والمحسوبيات، لتغيب حينئذٍ كلّ معايير خدمة المراجعين التي يفترض بها أن تجري على أساس العدالة وطبقًا للقانون.
المناصب بين الكفاءة والمحسوبيات
إنّ المشكلة الأكبر التي تعاني منها معظم الدول النامية، هي غلبة المحسوبيات في الأجهزة والدوائر العامة. ويتجلى ذلك أوّلًا في مسألة منح المناصب والمواقع الإدارية، فمن المعروف في كثير من الدول النامية أن مجرّد تسلّم الوزير أو المدير منصبه الإداري، فإنّ ذلك إيذان بأن يمنح هذا المسؤول أبرز المناصب الإدارية لجماعته، من أبناء قبيلته أو منطقته أو طائفته الدينية، في حين يجب أن تسند المناصب على أساس الكفاءة، طبقًا للنظام والقانون، لا على أساس المحسوبيات.
إنّ منح المناصب الإدارية على أساس من المحسوبيات والواسطات، يعود بأضرار فادحة على الوطن. لأنّ هذا المتولي إذا لم يكن صاحب كفاءة، أو أنه كان ضعيف الكفاءة، فإنه بذلك يسيء التصرف، ولن يكون صالحًا لإدارة الشأن الموكول إليه، إضافة لما في هذا النوع من المحسوبيات من زرع للعداوات، والشعور بالغبن والظلم، في أوساط المؤهلين المستبعدين، والمهمّشين والمقصيين، وهذا ليس في مصلحة الوطن.
المحاباة في منح الامتيازات
أما الجانب الثاني لتجلّي غلبة المحسوبيات فيتمثل في منح الامتيازات لفئة دون أخرى من العاملين. فاتّكاءً على المحسوبيات يجري منح يعض العاملين التقييمات العالية والترقيات والعلاوات والانتدابات وفرص الابتعاث، واستثناء المستحقين الآخرين من تلك الامتيازات. وقد يكون بعض من يمنحون تلك الامتيازات، من الكسالى الذين لا يتمتعون بكفاءة تؤهلهم لنيل أدنى امتياز، غير أنّ القائم على تقييم الأداء الوظيفي أعطى أعلى درجات التقييم لمن لا يستحق. في مقابل ذلك، هناك موظف آخر أكثر كفاءة وفعالية وإخلاصًا في أداء عمله، لكنه يحرم من تقويم الأداء الوظيفي المناسب، ويحرم من الامتيازات المستحقة. وهذا ما يُعَدّ ممارسة فاضحة للظلم، ويدخل في باب التشجيع على الكسل، فيغدو عندها من المتوقع أن يتراجع إخلاص الموظف الكفء، الذي لم يعطَ ما يستحق، سيّما وهو يجد زميله الكسول غير المستحق ينال الامتيازات!.
التمييز بين المراجعين ظلم وفساد
ويتجلّى الجانب الثالث لحالة المحسوبيات: في حالة التمييز وتباين مستوى الخدمة المقدمة للمراجعين. فإذا كان المراجع تربطه مع المسؤول علاقة من أيّ نوع، كأن يكون من قبيلته أو منطقته، تربطه به مصلحة فإنّ أموره تسير على أحسن ما يكون، وعلى النقيض من ذلك إذا كان المراجع لا تربطه علاقة بأحدٍ في تلك المنشأة، فإنّ مصير معاملته سيكون تحت عجلة المماطلة والتعقيد في الإجراءات، وهذا شكل من أشكال الظلم والتعطيل لمصالح الناس.
والأنكى أنّ هذه المحسوبيات باتت تطال حتى المنشآت الحسّاسة التي ترتبط بحياة الناس كالمستشفيات والخدمات الصحية، فالفقير المحتاج لإجراء عملية، والذي لا يملك واسطة، قد لا يجد سريرًا في المستشفى، وإذا أراد الحصول على موعد طبي لتلقي العلاج، فقد لا يجد موعدًا إلّا بعد أشهر. أمّا إذا جاء المراجع الذي لديه واسطة تسنده، فسيكون سرير المستشفى في انتظاره، ولربما وضع في غرفة خاصة، وهذا من أخطر ألوان الفساد.
التديّن الظاهري وممارسة الفساد
ولعلّ أغرب الظواهر المثيرة في مجتمعاتنا الإسلامية، هي حالة الازدواجية الدينية لدى كثير من موظفي الخدمة العامة. إذ من المعتاد أن يخلي الموظفون أماكن عملهم بذريعة العبادة وأداء الصلاة، لكنهم في الوقت عينه يتركون خلفهم عشرات إن لم يكن المئات من المراجعين المنتظرين، علاوة على ممارستهم التمييز بين المواطنين على أساس الواسطة والقرابة والعلاقة بذوي النفوذ، فما قيمة هذه الصلاة التي يؤدّيها هؤلاء، أوَلم يقل تعالى: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ﴾؟ أوَليس التمييز بين الناس وتعطيل مصالحهم منكرًا؟ فكيف يوفق هؤلاء بين التزامهم الديني العبادي وبين ممارساتهم الفعلية المستنكرة؟
والمؤسف أنّ مجتمعاتنا الإسلامية هي من أكثر المجتمعات التي تتفشّى فيها هذه الأمراض والعلل، حتى إنّ بعض ضحايا التمييز، وضمن نطاق عملهم وصلاحيتهم الوظيفية، يمارسون هم أنفسهم التمييز بحقّ غيرهم، وهذه مفارقة غريبة أشار إليها الإمام عليّ في قوله: «فَاجْتَنِبْ مَا تُنْكِرُ أَمْثَالَهُ».
كيف يُواجه الفساد
ويرجع تفشّي حالة الفساد الإداري المحسوبيات في مجتمعاتنا، إلى غياب الأنظمة والقوانين الرادعة. ذلك أنّ المجتمعات الأقلّ فسادًا، إنما واجهت هذه الحالة من خلال القوانين الصارمة، إضافة إلى فتح المجال أمام وسائل الإعلام لتمارس دورها في فضح الفساد، وإنشاء المؤسسات الرقابية المستقلة التي يمكن التظلم أمامها، ويضمن المتظلم حينها انتزاع حقّه كاملًا غير منقوص. وهذه الوسائل إمّا غائبة تمامًا في مجتمعات العالم الثالث، أو أنّها موجودة لكنها تعاني الضعف وانعدام الصلاحية. لذلك يبقى الفساد معشّشًا في أجهزة الدولة والمؤسسات العامة، في ظلّ انعدام سبل المعالجة لهذه الأمراض.
ينبغي أن يتّخذ الجميع موقفًا حاسمًا أمام حالات الفساد، وتعطيل مصالح المواطنين. وأولى الناس بالتحرك لمواجهة الفساد هم ضحايا الفساد أنفسهم. إنّ عليهم ألّا يسكتوا عن حقوقهم، بل المطلوب أن يجهروا بمظلوميتهم، حتى لو لم يجد الواحد والاثنان والمئة منهم إنصافًا في أول الأمر، فإنّ السعي الحثيث، والمتابعة الجادّة، لا بُدّ وأن تترك أثرها وتأثيرها. إنّ وسائل الإعلام، والحسابات الخاصة عبر مواقع التواصل الاجتماعي، لا بُدّ وأن تضطلع بدورها في مكافحة الفساد. خاصّة مع قوة التأثير التي أثبتت جدواها في أكثر من حادثة، ففرضت التغيير والإصلاح، كلّ ذلك شريطة أن تجري الأمور بصورة موثّقة وطبقًا للقانون.
وأخيرًا، لا بُدّ وأن تفعّل المؤسسات المعنية بمكافحة الفساد الدور المنوط بها. فالمؤسّسات الرقابية، من قبيل هيئة النزاهة، وديوان المظالم، مدعوة لمضاعفة دورها في مكافحة الفساد، هذا الفساد الذي تعود إليه المسؤولية عن تخلّف التنمية في أوطاننا، وإليه يُعزى هدر الميزانيات المليارية.