لا مجال للتنصل أمام الله
﴿وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾[سورة فصلت، الآية:21].
يقتضي تحقيق العدالة أن تتاح للمتهم فرصة الدفاع عن نفسه، إذا اتّهم باقتراف خطأ، أو ارتكاب جرم. فلا تتقرر العقوبة إلّا بعد ثبوت ارتكاب الجرم قطعيًّا، ذلك أنّ الأصل القانوني يقول: إنّ المتهم بريء حتى تثبت إدانته، ليحفظ بذلك حقّه في أن تتاح له فرصة الدفاع عن النفس، وإنكار التهمة الموجهة إليه، بحضور محامٍ مختصّ، يتولى الدفاع عنه، ويكشف الثغرات القانونية في القضية محلّ النظر، ولو لم يكن بمقدور المتهم توكيل محامٍ يدافع عنه، فإنّ من مسؤولية المحكمة توفير محامٍ يدافع عنه على نفقة الدولة، كل ذلك بغرض تحقيق أركان المحاكمة العادلة.
محكمة العدل الإلهي
فإذا كان الحال بين البشر على هذا النحو، فكيف سيكون الحال في يوم القيامة، حيث تتجسّد هناك أعلى درجات تحقيق العدالة، إذ مع كلّ ما يحيط بيوم المحشر من أهوال تشيب منها الولدان، إلّا أنّ الله سبحانه وتعالى يتيح للإنسان فرصة الدفاع عن نفسه، ومحاولة تبرئتها، قال تعالى: ﴿يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا﴾، ولا يمكن أن يحكم الله تعالى بالعقوبة على الإنسان إلّا إذا ثبتت عليه التهمة، واستنفد كلّ الحجج والمبررات، حتى لم يعد أمامه مجال للإنكار، فيجد نفسه مقرًّا معترفًا بجرمه، وهذا هو منتهى تحقيق العدالة.
إنّ من الطبيعي في يوم القيامة أن يجهد المرء في الدفاع عن نفسه والتنصّل من أفعاله. خاصة وهو يرى أهوال يوم المحشر ماثلة أمام ناظريه، ويعاين نار جهنم ﴿تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ﴾، فيحاول عندها بكلّ طريقة وبأيّ وسيلة أن يتنصل مما اقترف من أفعال ويتبرأ منها، حتى يصل به الأمر إلى أن يحلف بالله بأنه لم يرتكب ذلك الجرم، ولم يقترف تلك السيئة، قال تعالى: ﴿يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّـهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ﴾، فكما يبالغ الإنسان في الحلف للناس في الحياة الدنيا، رغبة في دفع التهمة عن نفسه، كذلك يفعل أمام خالقه في يوم المحشر.
غير أنّه في مقابل ذلك الحلف المبالغ فيه، تتوفر كثير من الأدلة القاطعة، والبراهين الدامغة، والجهات المتعددة التي تشهد على الإنسان، فتلزمه الحجة وتفقده أيّ قدرة على التنصّل والهروب من تبعات جرمه.
شهادات لا تقبل الرّد
وأول شاهد يشهد على الإنسان هو الله سبحانه وتعالى، القائل: ﴿فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّـهُ شَهِيدٌ عَلَىٰ مَا يَفْعَلُونَ﴾، فالله سبحانه وتعالى هو أول الشاهدين على أعمال العباد. وعلى اعتبار أنّ الإنسان كان أكثر شيءٍ جدلًا كما ورد في الآية الكريمة، فلربما جادل المرء ربه تعالى حينئذٍ، ولم يقبل شهادته كونه تعالى خصمًا له، ساعتئذ يأتي سبحانه بالملائكة ليشهدوا على الإنسان، قال تعالى: ﴿وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ﴾، فالسّائق والشهيد ملكان يشهدان على الإنسان في يوم القيامة، وجاء عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب في بيان معنى الآية قوله: «سَائِقٌ يَسُوقُهَا إِلَى مَحْشَرِهَا وَ شَاهِدٌ يَشْهَدُ عَلَيْهَا بِعَمَلِهَا»[1] ، وقال تعالى في وصف هؤلاء الملائكة: ﴿كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ﴾، فهم يكتبون كلّ أفعال الإنسان لاطّلاعهم عليها، وهم كالشاهد الثاني عليه بعد الله جلّ شأنه.
أما الشاهد الثالث الذي لا يملك الإنسان ردّ شهادته، فهو مكان اقتراف الذنب، وارتكاب الجريمة. فالأمكنة تشهد على الإنسان أنه ارتكب فيها ما ارتكب، وفعل فيها ما فعل، قال تعالى في شأن الأرض: ﴿يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا﴾، فأيّ فعلٍ فعله العبد في أيّ بقعة من بقاع الأرض، فإنّ تلك القطعة من الأرض، تأتي يوم القيامة لتشهد لصالح المرء أو عليه. وقد ورد عن رسول الله أنه قال: «أَنَّ تَشْهَدَ عَلَى كُلِّ عَبْدٍ وَأَمَةٍ بِمَا عَمِلَ عَلَى ظَهْرِهَا، أَنْ تَقُولَ: عَمِلَ كَذَا وَكَذَا، يَوْمَ كَذَا وَكَذَا، فَهَذِهِ أَخْبَارُهَا»[2] .
ثم تأتي بعد ذلك شهادة الزمان، فأيّ عملٍ يعمله العبد فهو في إطار زمن معيّن، هذا الزمن يأتي يوم القيامة شاهدًا على الإنسان، وقد ورد عن عليّ أمير المؤمنين أنه قال: «مَا مِنْ يَوْمٍ يَأْتِي عَلَى ابْنِ آدَمَ إِلَّا قَالَ لَهُ ذَلِكَ اليَوْمُ يَا ابْنَ آدَمَ أَنَا يَوْمٌ جَدِيدٌ وأَنَا عَلَيْكَ شَهِيدٌ فَقُلْ فِيَّ خَيْراً واعْمَلْ فِيَّ خَيْراً أَشْهَدْ لَكَ بِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ فَإِنَّكَ لَنْ تَرَانِي بَعْدَهَا أَبَداً»[3] ، فكلّ ما سبق شهود على الإنسان في يوم الحساب.
أخطر الشهادات
وقد يمعن الإنسان يوم الحساب في انكار أفعاله والتنصّل منها، فيأتيه الله تعالى بمزيد من الشهود الذين لا قِبَلَ له بردّهم. قال تعالى: ﴿حَتَّىٰ إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾[سورة فصلت، الآية:20]، حيث ينطق الله تعالى أعضاء الإنسان فتشهد عليه، أذنه وعينه وجلده. وكما روي أنّ الآية الكريمة نزلت في قوم تعرض عليهم أعمالهم فينكرونها، فيقولون ما عملنا شيئًا منها، فتشهد عليهم الملائكة الذين كتبوا عليهم أعمالهم، قَالَ الصَّادِقُ: «فَيَقُولُونَ لِله: يَا رَبِّ، هَؤُلاَءِ مَلاَئِكَتُكَ يَشْهَدُونَ لَكَ، ثُمَّ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا فَعَلُوا مِنْ ذَلِكَ شَيْئاً»[4] ، فتشهد جوارحهم، فماذا عسى يقول المنكرون أفعالهم، وقد شهدت عليهم جوارحهم؟. أما عن الكيفية التي تشهد بها الجوارح، فهو ما سيكون على الأرجح من قبيل عرض مشاهد الأفعال نفسها، كما حصلت تمامًا، كما لو كانت على شاشة فيديو، فكما أنّ الناس باتوا قادرين على تصوير وتسجيل ما يفعلون اليوم، كذلك جميع أفعال البشر لا تزال مثبتة ومسجلة ضمن حيّز الوجود منذ الأزل، لولا عجز الناس عن سبل استعادتها، وذلك مدار العديد من البحوث العلمية اليوم، غير أنّ الله تعالى لا يعجزه شيء.
وإضافة إلى الآية المتقدمة هناك جملة من الآيات الكريمة التي تشير إلى شهادة أعضاء الجسم على الإنسان يوم القيامة. ومنها قوله تعالى: ﴿الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَىٰ أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾، وجاء في آية أخرى قوله تعالى: ﴿يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾. من هنا جاء التصوير الرائع في دعاء عرفة المروي عن الإمام الحسين، تصويره للإنسان حين تحاصره الحقائق في يوم القيامة، فلا يعود يستطيع أن ينكر أو يتنصّل من أفعاله قيد أنملة، حيث يقول الدعاء: «فَهَا أَنَا ذَا يَا إِلَهِي بَيْنَ يَدَيْكَ يَا سَيِّدِي خَاضِعٌ ذَلِيلٌ حَصِيرٌ حَقِيرٌ لَا ذُو بَرَاءَةٍ فَأَعْتَذِرَ وَلَا ذُو قُوَّةٍ فَأَنْتَصِرَ وَلَا ذُو حُجَّةٍ فَأَحْتَجَّ بِهَا وَلَا قَائِلٌ لَمْ أَجْتَرِحْ وَلَمْ أَعْمَلْ سُوءاً وَمَا عَسَى الْجُحُودُ لَوْ جَحَدْتُ يَا مَوْلَايَ يَنْفَعُنِي كَيْفَ وَأَنَّى ذَلِكَ وَجَوَارِحِي كُلُّهَا شَاهِدَةٌ عَلَيَّ بِمَا قَدْ عَمِلْتُ»[5] .
فليس بمقدور الإنسان التنصّل من أفعاله يوم القيامة بأيِّ حالٍ من الأحوال. لذلك من الخير للإنسان أن يتجنّب الوقوع في شرك المعصية من حيث المبدأ، وأن ينأى بنفسه عن أيِّ عمل يمكن أن يحاسب عليه أمام الله يوم القيامة. وحيث إنّ الإنسان يبقى معرضًا لارتكاب الخطأ، فخير له أن يصفّي حساباته مع الله تعالى ومع الناس في الدنيا، قبل أن يساق إلى المحكمة الإلهية في الآخرة، ما دام الأمر متاحًا لتصفية سائر المتعلقات والحقوق، حيال العباد، وحيال ربّ العباد، ليسحب كلّ الدعاوى المرفوعة ضدّه، فلماذا يماطل المرء ويسوّف في هذا الأمر إلى أن يجد نفسه في حضرة الله تعالى يوم لا ينفع مال ولا بنون؟ يوم تتكالب عليه الشهادات والدلائل من كلّ حدب وصوب، فلا يعود قادرًا على الفكاك أو التنصّل من كل ذلك. وما من سبيل إلّا بالتوبة إلى الله والإنابة إليه، والخروج من حقوق العباد، حتى يأتي العبد يوم القيامة وهو أبعد ما يكون عن الوقوف في ذلك الموقف الصعب.
الخطبة الثانية: الاستنفار لمواجهة سلوكيات العنف والإجرام
قال رسول الله: «لا يَزَالُ النَّاسُ بِخَيْرٍ مَا أَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ، وتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ والتَّقْوَى، فَإِذَا لَمْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ نُزِعَتْ مِنْهُمُ الْبَرَكَاتُ وَسُلِّطَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ»[6] .
تتفاوت المجتمعات في مدى الجدّية حيال مواجهة الأخطار. فهناك مجتمعات تأخذ مختلف الأخطار على محمل الجدّ، فتواجهها بمنتهى الحزم والقوة، بمجرّد ظهورها على السطح، فيما قد تتأخر مجتمعات أخرى في إدراك الأخطار التي تتهدّدها، ومتى ما أدركت ذلك، لم تبرح مكانها، مظهرة التساهل والتردّد في المواجهة، وأخيرًا إذا ما قرّرت المواجهة، جاءت قراراتها ضعيفة، محدودة الفاعلية.
تفاوت المجتمعات في مواجهة الأخطار
ويجري هذا التفاوت بين المجتمعات على كلّ الصُّعد. ولتقريب الفكرة، يمكن إجراء مقارنة سريعة حول سبل مكافحة الأمراض الخطيرة في بعض المجتمعات، حيث نجد المجتمعات المتقدمة، وفور اكتشافها الوباء، فإنّها تعلن حالة استنفار لمحاصرته، ومنع انتشاره، والوقاية من الإصابة به، والتوجه من ثَمَّ إلى مراكز الأبحاث للوقوف على مسبّبات تفشي المرض، والتوصل للأدوية المناسبة لمعالجته، والبدء في مهاجمة البؤر التي انطلق منها المرض حتى لو كانت خارج أراضيها، تمامًا كما فعلت الولايات المتحدة، بإرسال الأطباء، وعناصر جيشها، لمكافحة مرض إيبولا في افريقيا.
في مقابل ذلك، تتعامل المجتمعات المتخلفة مع مختلف الأخطار والآفات على نحو من اللا أبالية. وعلى ذات النسق من المقارنة، نجد هذه المجتمعات بالكاد تقف على حقيقة الأمراض والأوبة التي تضربها، ولو قدّر واكتشفت ذلك، فإنّها لا بُدّ وأن تبدّد المزيد من الأوقات حتى تقرّر شكل المواجهة، فإذا ما تقرّر أخيرًا مواجهة الوباء، فلك أن تتصور حجم التساهل والتسيب والمماطلة، إلى أن يأخذ المرض مداه في الانتشار.
ولا أدلّ على ذلك من تعامل البيروقراطية الصحية في بلادنا مع فيروس كورونا، الذي راح ضحيته على مدى 33 شهرًا، ما يزيد على 388 حالة وفاة، وهو ما يمثل 42 بالمئة من أصل 907 مصابين، وفقًا لإحصاءات وزارة الصحة السعودية، ويشير موقع الوزارة على الإنترنت إلى أنّ عدد المتماثلين للشفاء وصل 498 حالة، أي نحو 55 بالمئة من إجمالي المصابين.
وكما في الأمراض والأخطار المادية، كذلك هو الحال مع الأمراض الأخلاقية والسلوكية، فالمجتمعات المتقدمة، تأخذ بروز الظواهر الشاذة على محمل الجدّ، وتشرع على المستوى الرسمي والمدني في معالجتها واستئصالها، وعلى النقيض من ذلك في المجتمعات المترهلة والمتراخية، حيث لا تكون ردة الفعل على قدر المسؤولية، وإنّما تكتفي بالتذمّر واجترار الشكوى في المجالس الخاصة، إلى أن تتحول الحوادث الشاذّة إلى ظواهر وسلوكيات اعتيادية، وأخبار مكرّرة، فلا تعود تجتذب اهتمام الناس!، وهذا أمر في غاية السوء والخطورة.
حالات العنف والجريمة
ولعلّ من أخطر الأمراض الأخلاقية والسلوكية التي تضرب المجتمع انتشار حالات العنف والجريمة. ومن مظاهرها حالات السطو على المنازل، والمحلات التجارية بغرض السرقة، وتفشّي جرائم اختطاف البنات والأطفال، والاعتداء عليهم جنسيًّا، وشيوع حوادث القتل باستخدام السلاح. هذه الحالات في مجملها وإنْ كانت لا تزال قليلة في مجتمعنا، لكنها ينبغي أن تدعو المجتمع إلى الاستنفار؛ لأنّ هذه الأمراض السلوكية مرشحة للتوسّع والانتشار، ما لم يَجْرِ مواجهتها، فالمنحرفون ماضون في استقطاب أشخاص آخرين إلى صفّهم، وتوسيع رقعة فسادهم، خاصة في ظلّ الأجواء العالمية التي باتت تفرض نفسها، والظروف الاجتماعية المحيطة، مما يساهم في انتشار الجريمة والفساد.
إنّ إطلالة سريعة على الأرقام والإحصاءات، تكشف جانبًا من حجم الكارثة التي يعيشها المجتمع المحلي، جرّاء العنف والإجرام. فقد نشرت صحيفة الشرق السعودية إحصاءً مفاده وجود أربعين سجينًا من أبناء المنطقة في سجن القطيف، يواجهون أحكامًا قد تصل إلى القصاص، لتورّطهم في جرائم العنف والقتل[7] ، وبصرف النظر عن بعض الحالات التي قد يجري تصفيتها عن طريق الصلح، أو العفو، أو دفع الدية، إلّا أنّ هذا الرقم جرس إنذار!. والأنكى أن تصل بعض حالات العنف إلى مستويات غير مسبوقة في ساحتنا المحلية، مثل إقدام شاب على قتل صديقه، ثم حرقه جثته.
إنّ السكوت عن تفشّي حالات العنف، أو التعاطي معها كأخبار عادية، مؤذِنٌ بخطر كبير. وهذا ما حذّر منه رسول الله حين قال: «لا يَزَالُ النَّاسُ بِخَيْرٍ مَا أَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ، وتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ والتَّقْوَى، فَإِذَا لَمْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ نُزِعَتْ مِنْهُمُ الْبَرَكَاتُ وَسُلِّطَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ»، فلا بُدّ وأن يستنفر الناس ضد الظواهر السيئة من خلال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إنّ هناك تداعيات وخيمة للسكوت عن تفشّي الانحراف والإجرام في المجتمع، فالمجرم الفرد ربما تحول إلى عصابة إجرامية، وربما حفّز ذلك على قيام عصابات مشابهة ومنافسة، فيصبح المجتمع بمواجهة موجة من التشكيلات الإجرامية المختلفة، التي تحترف العنف والإجرام، وتهدّد أمن وسلامة المجتمع ومستقبل أبنائه. ويكمن أحد جوانب الخطورة، ليس في إمكانية تعرّض الشخص للعنف والاعتداء وحسب، وإنّما في إمكانية انخراط بعض أفراد الأسرة في هذه التشكيلات الإجرامية، سواء كان ابنًا أو أخًا أو قريبًا، وكم يا ترى من عوائل شريفة وأسرٍ متديّنة تورّط أبناؤها في هذه المزالق.
المواجهة الشاملة لسلوكيات العنف
لا بُدّ من مواجهة مفتوحة حيال تفشّي السلوكيات الإجرامية في المجتمع. ويقتضي ذلك على المستوى الأسري أولًا، أن يجري الالتفات على نحو أكبر لمسلكيات الأبناء، ذكورًا وإناثًا، بالانفتاح عليهم، وإيلائهم المزيد من الرعاية والاهتمام، ومراقبة سلوكياتهم، والنأي عن التفلّت من رعاية الأبناء وتركهم إلى الشارع، دون الاهتمام بأين ومع مَنْ يمشي هذا الابن أو تلك البنت؟ إنّ هذا الإهمال لوضع الأبناء والبنات منذِر بخطر كبير. ومما نقل لي في هذا الشأن، استدعاء مركز الشرطة أحد الآباء، وعندما سألوه عن ابنه، أجابهم بأنه نائم في المنزل، ولم يكن يدرِ هذا الأب المسكين أنّ ابنه موقوف في الشرطة منذ ثلاثة أيّام!. إنّنا لا ندعو في هذا المقام للتشديد على الأبناء إلى حدٍّ يدفعهم إلى ردّ فعل عكسي، لكننا ينبغي في الوقت عينه أن نرفض حالة التراخي والإهمال، التي تصل إلى الحدّ الذي لا تعرف معه العائلة عن مكان تواجد ابنها!. إنّ على العائلة أن تكون منتبهة إلى سلوكيات أبنائها إلى أقصى الحدود أخذًا في الاعتبار تعقيدات ظروف العصر الراهن.
أمّا الأمر الآخر: فهو ضرورة الاهتمام بالتوعية والتثقيف. إذ إنّه لا بُدّ من تكثيف التوعية، بالاستفادة من مختلف المنابر الدينية، التي ينبغي أن تنشغل بالتوعية والتثقيف، حول رعاية الأبناء، وسبل مواجهة الأسرة الأخطار والسّلوكيات الشاذّة، التي قد تطرأ على الأبناء، عوضًا عن الانشغال بالنزاعات التاريخية المستهلكة، واجترار الصراعات والجدليات العقدية، التي لم يعد المجتمع يحتاج إليها.
إنّ المسؤولية الأبرز أمام المنابر الدينية، هي الاهتمام بتمتين عرى الأسرة، ومساعدتها على رعاية الأجيال الصاعدة، وتبصيرها إزاء التحدّيات التي تواجهها. وكذلك الحال تسخير وسائل التواصل الاجتماعي، وصناعة الأفلام القصيرة، في مواجهة مختلف السلوكيات والظواهر العنفية التي تتهدّد المجتمع، ولعلّ فيلمًا قصيرًا واحدًا له من التأثير على نفوس الشباب، بما يتجاوز تأثير عشرات إن لم يكن مئات من المحاضرات.
مؤسسات لاستيعاب الشباب
كما ينبغي ثالثًا: أن يجري تسخير جهد المؤسّسات الاجتماعية لتصبّ في مواجهة العنف والجريمة. من أندية رياضية، وجمعيات ولجان اجتماعية قادرة على استيعاب الشباب، ولعلّ إطلالة عجلى على قوائم المتورطين في الجريمة تكشف خلوّها، إلى حدٍّ بعيد، من أيّ أسماء لعاملين اجتماعيين، ومتعاونين مع مؤسسات اجتماعية، وذلك راجع إلى الأجواء التي يعيشها العامل ضمن المؤسسة الاجتماعية، التي يحقق ضمنها الناشط الاجتماعي ذاته، فضلًا عن الاهتمامات والانشغالات المتعددة التي تسدّ أوقات فراغه، وتستهلك الفائض من طاقته، وهذا ما سيأتي بالتأكيد على حساب التوجّهات الأخرى.
البطالة ترفد الإجرام
أمّا على الصعيد الوطني، فلا بُدّ من معالجة مشكلة البطالة في البلاد، ضمن سياق مواجهة العنف والجريمة. حيث تشير مختلف الإحصاءات إلى أنّ الشباب العاطل عن العمل، القلق على مستقبله، غالبًا ما يشكلون بيئة خصبة ومرتعًا للتوجهات الإجرامية. وقد نقلت الصحف المحلية عن مدير إدارة مكافحة السّرقات في الأمن العام، قوله إنّ النسبة الأكبر من المتورطين في سرقات المنازل تعود لسعوديين أغلبهم بين عمر 19 و 24 عامًا، وأنّ نسبة 36 بالمئة من المتورطين في أعمال السرقة هم من العاطلين عن العمل. وأشارت دراسة أخرى مقدمة من جامعة الأمير نايف العربية للعلوم الأمنية، ونشرتها صحيفة اليوم السعودية[8] ، أشارت إلى أنّ 65 بالمئة من الموقوفين في السجون هم من العاطلين عن العمل. كما أشارت دراسة أعدّتها إدارة الموارد البشرية «هدف» إلى أنّ 70 بالمئة من الموقوفين في سجون المملكة هم من العاطلين عن العمل. من هنا، لا بُدّ وأن تؤثر معالجة مشكلة البطالة على الصعيد الوطني، في تجاوز جانب كبير من العنف والجريمة في المجتمع.
وأخيرًا لا بُدّ من تعزيز التعاون والثقة، بين الأهالي والمؤسسات الأمنية المعنية بمواجهة الجريمة. ومن ذلك جهاز الشرطة، وإدارة مكافحة المخدرات، سيمّا وأنّ بعض عناصر هذه الأجهزة يظهرون التهاون والبرود عند تلقي البلاغات الرسمية التي يتقدم بها الأهالي حول تعرّض منازلهم للسرقة، ومع هذا القدر من البرود كيف ستكون نظرة الأهالي لهذه الأجهزة فضلًا عن مدى الثقة والتعاون معها!. والحقيقة أنه لا بُدّ من نشوء علاقة تحكمها الثقة بين الأهالي والأجهزة الأمنية؛ لأنّ هذا ما يصبّ في مصلحة المجتمع وأمن البلد.