كُنْ في موقع العطاء
ورد في حديث عن رسول الله قال يصف فيه المؤمن بعدد من الصفات ومنها أنه: «َقلِيلَ الْمؤُونَةِ كثِيرَ الْمَعُونَةِ»[1] .
ترتبط حياة الإنسان في هذه الدنيا ارتباطًا وثيقًا بأبناء جنسه ومحيطه. فهو جزء منهم، يعيش معهم، وتتداخل حياته مع حياتهم، فلا يستطيع أن ينفصل عن أبناء نوعه من البشر، ويعيش منقطعًا عنهم، فلا بُدّ له إذًا من العيش مع الناس؛ لارتباط مختلف شؤونه بشؤونهم.
غير أنّ هناك تفاوتًا ملحوظًا بين الناس، حيال مدى ارتباطهم بالآخرين والعلاقة معهم، فهناك من يعمد إلى تقليص ارتباطه بالآخرين إلى أدنى الحدود الممكنة، فيكتفي بالمقدار الضروري من العلاقة بالناس، ولا يسعى إلى توسيع شبكة علاقاته الاجتماعية، وهذا أمر غير محبّذ، إذْ من الخير للإنسان أن يتوسّع في علاقته مع أبناء جنسه، وإن شاب تلك العلاقة بعض المشاكل أحيانًا، حيث ورد في الحديث «إنّ المسلم الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أفضل من الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على آذاهم»[2] . في مقابل ذلك، هناك من يسعى إلى توسيع رقعة ارتباطاته مع الآخرين، إلى أقصى حدٍّ ممكن.
إنّ علاقة الإنسان بالآخرين قائمة على أساس مبدأ الأخذ والعطاء، فهو يأخذ منهم ويعطيهم، غير أنّ مربط الفرس هنا، هو في الموازنة بين الأخذ والعطاء، والمدى الذي يعطي المرء الناس أو يأخذ منهم.
الأخذ والعطاء في العلاقة مع الناس
إنّ هناك أصنافًا من الناس، يمكن التمييز بينهم حيال مسألة الأخذ والعطاء، في علاقتهم بالآخرين. فهناك من يتساوى عنده ميزان الأخذ والعطاء، فهو يعطي الناس بمقدار ما يأخذ منهم، فالأمر بالنسبة لهذه الفئة أشبه بكفّتي ميزان، على صعيد العلاقة بالآخرين، لجهة الأخذ منهم وتقديم العطاء لهم.
أمّا الصنف الثاني من الناس، فهم أولئك الذين يسعون إلى الأخذ من الآخرين أكثر من عطائهم لهم، وهذا الصنف تتعزز فيه حالة النهم نحو الاستحواذ على كلّ ما تقع عليه يده من المكاسب والمصالح، التي يستطيع الاستحواذ عليها من الآخرين، من أفراد عائلته وأصدقائه وزملائه ومعارفه، في مقابل محدودية العطاء الذي يقدّمه لهم، عادًّا هذا السلوك نوعًا من الحذاقة والذكاء.
وعلى النقيض من ذلك يأتي الصنف الثالث من الناس، وهم الذين يسعون إلى أن يكون عطاؤهم للناس أكثر من أخذهم منهم، بحيث تكون السمة الرئيسة في علاقتهم العائلية والاجتماعية هي سمة العطاء، فلا يعود المعيار قائمًا على مقدار ما يأخذون من الناس، وإنّما التفكير دومًا في مدى ما يعطونه لهم.
ترجيح كفّة العطاء
ويدفع العقل السليم، إلى جانب النصوص الدينية، نحو التحلي بصفة العطاء في العلاقة بالآخرين، أكثر من الأخذ منهم. حيث تشجّع الإنسان المؤمن على التخلق بصفة البذل والعطاء، فقد ورد عن رسول الله، أنه قال: «الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنْ الْيَدِ السُّفْلَى، فَالْيَدُ الْعُلْيَا هِيَ الْمُنْفِقَةُ، وَالسُّفْلَى هِيَ السَّائِلَةُ»[3] .
وجاء في نصٍّ آخر عنه أنه قال: «اليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول»[4] ، وفي ذلك حثّ على السعي نحو احتلال موقع العطاء للآخرين، وهذا هو معنى اليد العليا، كما ورد في حديث عنه أنه قال في صفة المؤمن: «.. أنه قليل المؤونة كثير المعونة»، فالإنسان المؤمن إن اضطر للأخذ من الآخرين بحكم العلاقة الطبيعية بين الناس، فسيكون ذلك ضمن الحدود الدنيا، في مقابل كثرة المعونة التي يقدّمها للآخرين.
وورد عن الإمام الباقر أنه قال: «من خالطت فإن استطعت أن تكون يدك العليا عليهم فافعل»[5] ، ومضمون ذلك أن يحرص الإنسان على أن يكون في موقع العطاء والإحسان للآخرين أنّى كان معهم، في حضرٍ أو سفرٍ أو تجارةٍ أو عمل. وجاء عن الإمام الكاظم في وصيته لهشام أنه قال: «إن خالطت الناس فإن استطعت أن لا تخالط أحدًا منهم إلّا من كانت يدك عليه العليا فافعل»[6] .
إنّ التعاليم الدينية تفيض بالتوجيهات الحاضّة على التفكير في العطاء للآخرين، على نحو يفوق الأخذ منهم. فقد ورد في المسائل الفقهية حول البيع والشراء «استحباب أن يأخذ الإنسان ناقصًا وأن يعطي زائدا»، وذلك بأن يشتري الشيء ناقصًا ـ باختياره ـ، خلافًا لاستيفاء الحقّ مضاعفًا كما يفعل البعض. وينسحب ذلك على أمر اقتراض المال من الآخرين، فالأفضل إرجاع الدين مع الزيادة، ما لم تشترط الزيادة ابتداءً. وكذلك تندرج الحقوق الزوجية في هذا السياق، إذْ إنّ تمام المروءة أن يعطي الزوج زوجه الحقّ مضاعفًا، وإن نال حقّه منها منقوصًا. والحال نفسه ينطبق مع العاملين في المؤسسات التجارية، فإن استطاع المالك إنقاص ساعات العمل تفضّلًا فليفعل، فهذه هي اليد العليا، عوضًا عن محاسبة العامل على واجباته حسابًا عسيرًا، أو التراخي في إعطاء حقوقه.
اليد العليا خير من السّفلى
وهكذا يربّي الإسلام الإنسان على أن يكون معطاءً للآخرين على نحوٍ أكبر من أن يكون أخّاذًا منهم. ومردّ ذلك إلى أسباب عديدة، منها:
أولًا؛
اعتبار ميل الإنسان للعطاء للناس على حساب الأخذ منهم، دفعًا له لتنمية طاقاته وقدراته، بغرض التوفر على الإمكانات التي تجعله في مقام من يعطي الآخرين ويتفضل عليهم، ويبذل المال في خدمة أهله ومجتمعه، بخلاف الآخر الذي بالكاد يفكّر في توفير احتياجاته الشخصية وحسب، والذي مهما بلغ فإن أُفق حركته يبقى محدودًا. ولا يقتصر العطاء على المسألة المالية، وإنما يتجاوزها إلى مجمل القدرات والإمكانات، إن لجهة العطاء العلمي، أو بذل الجاه والمكانة الاجتماعية، أم النشاط الثقافي، التي تبقى في مجملها حقلًا مفتوحًا للعطاء غير المحدود. وهكذا يشكّل الطموح إلى بلوغ محلّ العطاء، أكبر دافع إلى مضاعفة الإمكانات والقدرات الذاتية.
ثانيًا:
لما في ذلك من تنمية المشاعر الإيجابية، والنزعات الخيرة، في نفس الإنسان. تلك المشاعر والنزعات التي ستأخذ طريقها في تعامل الإنسان مع عائلته وأصدقائه وزملائه وعماله. وفي هذه الحالة، سيكون محور تفكير الإنسان في علاقته مع الآخرين، هو ما سيعطيهم ويقدم لهم، لا ما يريد أن ينتزع منهم.
ثالثًا:
ما في العطاء من ثواب إلهي كبير، فالإنسان الذي يريد ثواب الله ورضاه، ينبغي أن يدرك بأنّ ذلك غير منحصر في الصلاة والصيام، والالتزام بمختلف العبادات، وأداء المستحبات بقدر ما هو منوط أيضًا بالعطاء الذي يأتي على رأس الأعمال ذات الثواب المؤكد، والذي ينبغي ألّا يزهد فيه المؤمن، وإنما يبادر إليه على نحو مضاعف عمّا سواه.
ولطالما جاءت النصوص الدينية تترى في الحثّ على العطاء. فقد ورد عن رسول الله أنه قال: «من أعان أخاه يومًا كان خيرًا له من اعتكاف شهر»[7] ، ولنا أن نتخيّل مقدار ثواب المعتكف في المسجد شهرًا من الزمان، صائمًا مصلّيًّا قارئًا للقرآن الكريم، يتعبّد الله ويدعوه ويتهجد إليه، ومع ذلك يجعل النبي ثواب إعانة إنسان بالمال أو الجاه أو الوقت أعظم من هذا الاعتكاف بكلّ ما فيه من الثواب.
إنّ التميز بالعطاء يبقى أمرًا منوطًا بأريحية الإنسان، سواء كان وسط جماعة في سفر، أو عضوا في مجلس إدارة لنشاط من الأنشطة، أو أيّ مكانٍ أو مجالٍ من المجالات، فسيكون كلّ همّه أن يجعل حضوره متميزًا بالعطاء للآخرين. والحال نفسه في العلاقة العائلية مع الزوجة، حيث ينبغي أن يكون محور تفكير الإنسان في مقدار ما يعطي زوجه لا ما يأخذ منها، والعكس بالعكس، وكذلك الحال بين الأصدقاء وزملاء العمل، ولنتذكر دائمًا الحديث النبوي «المؤمن قليل المؤونة كثير المعونة» ، وفي نصٍّ آخر عن الإمام الصادق أنه قال: «المؤمن حسن المعونة، خفيف المؤونة» [8] ، فالمؤمن أبعد ما يكون عن الإثقال على عائلته وأصدقائه وزملاء عمله، نتيجة كثرة متطلباته.
الخطبة الثانية: الصراعات السياسية وتفجير الأضغان
﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ 29 وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ﴾[سورة محمد، الآيتان: 29-30].
يتفرّد القرآن الكريم بتوصيف خاصّ لمفردة القلب، على نحو مختلف عن التوصيف المادي الدّارج بين الناس. فليس المقصود بمفردة القلب الواردة في العديد من الآيات القرآنية، ذلك العضو الصنوبري الموجود في الجانب الأيسر من صدر الإنسان، الذي يضخ الدم عبر الأوردة والشرايين إلى مختلف أعضاء الجسم، وإنّما المقصود بالقلب في القرآن الكريم هو مركز الإدراك والإرادة في شخصية الإنسان، حيث تعود مجمل تصرفات الإنسان ومواقفه وسلوكه وأعماله، إلى ذلك المركز المتحكم في إدارة القرارات الشخصية، تمامًا كما يتحكم العضو المادي المعروف بالقلب في توزيع الدم في الجسم.
وبهذا المفهوم للقلب، يشير القرآن الكريم إلى أن القلوب عرضة لأنْ يعتريها المرض، كما يعتري الأجسام المرض والسقم، التي تعرف بأعراضها، قال تعالى ﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ ..﴾، وجاء في آية أخرى ﴿فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّـهُ مَرَضًا﴾. ويتجسد مرض القلب عمليًّا في غلبة التوجهات السيئة، والنوازع الشريرة، على مركز إدارة الإنسان لحياته، وتحولها إلى صفات متجذرة في شخصيته.
أخطر أمراض القلوب
إنّ من أخطر الأمراض التي تضرب القلوب، وقوعها تحت سيطرة الأضغان والأحقاد. وذلك بأن يكون مركز تفكير الإنسان ومشاعره، واقعًا تحت هيمنة الأضغان والأحقاد تجاه الآخرين، لتكون مجمل تصرفاته ومواقفه وكلماته، منبعثة من حالة الحقد والضغينة التي يضمرها ضدّ الآخرين.
إنّ الإنسان في علاقته مع غيره من البشر، عرضة لحالات الاختلاف في الرأي، وتضارب المصالح، ونشوء حالات سوء التفاهم، وكلّ ذلك أمر طبيعي على صعيد العلاقات بين البشر، غير أنّ حجر الزاوية، يكمن في الطريقة التي يدير بها الإنسان هذا الاختلاف الفكري أو المصلحي مع الآخرين، فهو هنا أمام طريقين لإدارة الاختلاف، فإمّا أن ينطلق من الضوابط الشرعية والمنطقية التي تتغيّا تحقيق المصلحة وتوفير المنفعة، وهذا أمر معقول وقائم في حياة الناس، وإمّا أن ينطلق في ادارة الخلاف مع الآخرين من منطلق الأحقاد والأضغان.
هنالك فرق شاسع بين إدارة الخلاف مع الآخرين على قاعدة الضوابط العقلية والمنطقية، وبين التورط في النزاعات انطلاقًا من الأحقاد والأضغان. ذلك أنّ المرء إذا دخل في صراعه مع الآخرين انطلاقًا من الأضغان والأحقاد، فإن جلّ تفكيره سيكون منصبًّا على إبادة الطرف الآخر، والاندفاع نحو سحقه، وإلغاء وجوده تمامًا، فلا يعود ساعتئذ يعترف بحدود أو ضوابط في صراعه معه. وعلى النقيض من ذلك، إذا انطلق الإنسان في صراعه مع الآخرين، في ظلّ وجود الضوابط المعقولة والمتعارفة التي تحكم حالات النزاع بين البشر، فإنه سيحارب ضمن حدود معينة، تبعًا لما تقتضيه ضرورات الحرب وحسب، سيّما وقد وضعت المجتمعات الإنسانية أساليب وطورت قوانين وضوابط تحكم حالات الصراع والحروب.
إدارة الصراع من منطلق الأحقاد
إنّ إدارة الصراع على قاعدة الأحقاد وغلبة النزعة الانفعالية بات سمة رئيسة للمجتمعات المتخلفة. وتبعًا لذلك يستحيل على المتخلف الاعتراف بوجود الطرف الآخر، أو التوصل إلى حلٍّ معقول معه، بل السعي إلى إبادته، بالاستعانة بكلّ عقد التاريخ التي حكمت طويلًا علاقة الأطراف ببعضها فيما سبق.
إنّ هذا النمط من النزاع القائم على الحقد والضغينة، يمكن أن يأخذ مكانه أحيانًا حتى ضمن الخلافات العائلية، فإذا كان الزوجان عاقلين، أو أحدهما على الأقل، فإنّ الخلاف بينهما يجري على نحو منضبط غالبًا، وعلى النقيض من ذلك، إذا كان الزوجان بعيدين عن الحكمة والعقلانية، فتجدهما يندفعان في خلافهما على أساس الحقد والضغينة، فيلجأ كلٌّ منهما للثأر من الطرف الآخر، وعدم الاعتراف بأيِّ حقّ له.
وفي هذا السياق، ورد عن رسول الله أنه قال: «أُرِيتُ النَّارَ فَلَمْ أَرَ مَنْظَرًا كَالْيَوْمِ قَطُّ أَفْظَعَ، وَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا النِّسَاءَ، قَالُوا: بِمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: (بِكُفْرِهِنَّ) قِيلَ: يَكْفُرْنَ بِاللَّهِ، قَالَ: يَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ وَيَكْفُرْنَ الإِحْسَانَ لَوْ أَحْسَنْتَ إِلَى إِحْدَاهُنَّ الدَّهْرَ كُلَّهُ ثُمَّ رَأَتْ مِنْكَ شَيْئًا قَالَتْ مَا رَأَيْتُ مِنْكَ خَيْرًا قَطُّ»[9] ، وحقيقة الأمر أن هذا السلوك غير مقتصر على النساء وحدهنّ، فقد يجري بين الأصدقاء أيضًا، وكم من شخص ربطته مع صديق عشرة طويلة، فإذا به يشطب تلك العشرة في لمح البصر مع أقلّ خلاف، ويشرع في فتح الملفات السوداء بينه وبين صديقه حول ما سبق أن قال وما فعل، كلّ ذلك انطلاقًا من حقد وضغينة أضمرها. إنّ إدارة الخلاف مع الآخرين على هذا النحو تنحدر إلى السلوك الجاهلي البعيد كليًّا عن أيّ ضوابط ومحددات للاختلاف.
ويكمن مفهوم الإدارة الصحيحة للصراع، في جملة أمور، منها: تحديد المشكلة، والالتزام بضوابط الاختلاف والصراع بشأنها. وذلك ما ينطبق على سائر أشكال الصراعات، بين الجماعات والطوائف والاتجاهات، التي قد ينشب بينها خلاف بشأن قضية من القضايا، فلا بُدّ عندها من تحديد حجم المشكلة، والنأي عن التورّط فيها انطلاقًا من الأحقاد والضغائن.
إنّ الساحة الإسلامية باتت تعجّ بالصراعات الكاشفة عن أسوأ أمراض القلوب عند الناس. وكأنّ هؤلاء الغارقين إلى آذانهم في إثارة الضغائن والأحقاد، بعيدون عن هيمنة وسلطان ربّ العالمين، قال تعالى: ﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَن لَّن يُخْرِجَ اللَّـهُ أَضْغَانَهُمْ﴾، فالواحد من مرضى القلوب هؤلاء، سرعان ما ينكشف ساعة الخلاف، مقدار ما في قلبه من مخزون هائل من الكراهية والتعصب، فلا يقف عند حدود مشكلة معينة ربما نشبت هنا أو هناك، وإنّما يسارع إلى فتح معركة شاملة يستدعي خلالها كلّ أحقاد التاريخ، ويتنكر خلالها لوجود الطرف الآخر.
إنّ الأمة الإسلامية تزخر بالتعدد الطائفي والمذهبي، وهناك جملة من الآراء والقضايا المختلف بشأنها، فكريًّا وعقديًّا وفقهيًّا وتاريخيًّا، إلى جانب الصراعات السياسية الناشئة عن تضارب المصالح. ومما يزيد من أوار الصراع دخول المنطقة مرحلة إعادة التشكل، نظرًا لغياب العلاقة السوية بين المكونات المختلفة منذ زمن بعيد، فبات كلّ مكون يبحث عن موقعيته المناسبة لحجمه وامتداده الطبيعي، كما تسعى كلّ فئة لانتزاع حقوقها المصادرة منها. فإذا كان من الطبيعي أن تمرّ بعض المجتمعات بهذا النوع من الصراعات، فإنّ المسألة المهمة تبقى في كيفية إدارة هذه الصراعات.
صراعات مصلحية بغطاء ديني
ليس أدلّ على مرض القلوب من تفجير الأحقاد وإثارة الضغائن بين الناس. ولعلّ ذلك المرض بات أوضح ما يكون مع كلّ موجة من موجات الصراع التي تمرّ بها الأمة في أيّ بقعةٍ كانت، حيث تتفجر الأحقاد وتطفو الضغائن إلى السطح، مع أنّ جوهر تلك الصراعات سياسي بالدرجة الأساس، نتيجة تضارب المصالح بين الأطراف المتصارعة، فتسعى كلّ جهة لتعديل ميزان القوى لصالحها، وإلى هذا الحدّ يبقى الأمر منطقيًّا متى ما التزم كلّ طرف بالضوابط. وما هو غير منطقي ولا أخلاقي، أخذ تلك الصراعات السياسية والاجتماعية إلى المربع الديني والنزاع الطائفي، وإرجاع كلّ اشتباك صغر أو كبر إلى جذور تاريخية مزعومة، واستدعاء أسوأ ما في ماضي الصراع بين الأطراف المتنازعة. فهم يتهمون بعضهم بعضًا بأسوأ النعوت، ويرجعون مواقفهم بعضهم البعض إلى غابر التاريخ.
ولنا في عبر التاريخ درس بليغ من حياة أمير المؤمنين عليّ. فقد شنّ خصومه_ سلسلة حروب دموية ضدّ حكمه، في صفين والجمل والنهروان، غير أنه رفض إسباغ الصراع مع محاربيه بصبغة دينية، مآلها المزيد من تفجير الأحقاد. فقد «سُئِلَ عَنْ أَهْلِ الْجَمَلِ: أَمُشْرِكُونَ هُمْ؟ قَالَ: مِنَ الشِّرْكِ فَرُّوا، قِيلَ: أَمُنَافِقُونَ هُمْ؟ قَالَ: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلا قَلِيلًا، قِيلَ: فَمَا هُمْ؟ قَالَ: إِخْوَانُنَا بَغَوْا عَلَيْنَا»[10] ، وفي ذلك جواب موضوعي دقيق، يحصر الصراع ضمن أضيق حدوده السياسية. وعلى هذا النحو ينبغي التقاط هذا الدرس البليغ من الإمام علي في سبيل حصر مختلف النزاعات ضمن حدودها الضيقة.
إنّ الدفع نحو تفجير النزاعات الطائفية، يمثل مصلحة قائمة لدى القوى الأجنبية. وذلك في سبيل تفجير الحروب بين طوائف الأمة، من السنة والشيعة، والأنكى ما يجده المتطرفون من مختلف الطوائف من فرصة في تلك الحروب لتسويق بضاعتهم الطائفية، غير أنّ العقلاء ينبغي ألّا يقبلوا بأن تتجه الأمور نحو هذا المنحى المدمّر.
كما أنّ على الحكومات أن تتخذ إجراءات صارمة تجاه المتورطين في تأجيج النزعات الطائفية، فلا ينبغي للحكومات أن تسكت عن الخطاب التحريضي المثير للكراهية والتعبئة الطائفية؛ لأنّ ذلك مما يضرّ بحالة الاستقرار في المجتمعات. ينبغي أن ينحصر الصراع السياسي ضمن إطاره المحدد، فلا يجوز أن يجري غضّ الطرف عن حالة الانفلات التي تثير الضغائن وتفجر الأحقاد بين الناس.
إنّ الحكومات مدعوة إلى تحمّل مسؤولياتها تجاه لجم الإساءات والتعبئة الطائفية، والتهديدات السّافرة التي يوجهها أيّ طرف للآخر، حتى لا تقود إلى صراع طائفي يهدّد بحرق الأخضر واليابس ويضرّ بالمجتمعات والأوطان.
وينبغي للواعين أن ينأوا بأنفسهم عن التورط في الصراعات الطائفية. فإذا كان المتطرفون يجدون في الأزمات والصراعات ضالّتهم لتسويق تشدّدهم وطائفيتهم، فإنّ على الواعين أن يحذروا الانزلاق في هذا المعترك، وأن يضعوا مصلحة الأمة فوق كلّ اعتبار، من خلال حصر النزاعات القائمة ضمن إطارها، على غرار موقف الإمام علي في مقولته آنفة الذكر «إِخْوَانُنَا بَغَوْا عَلَيْنَا»، وليربأ الواعون بأنفسهم عن الإسفاف لاستخدام منطق الجاهلين والمتشدّدين، وإلا أصبحوا مثلهم، وجزءًا من حالة الجهل والتشدّد الديني التي تعاني منها الأمة.