مواجهة الإرهاب والاستنفار الشامل
﴿مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا﴾[سورة المائدة، الآية: 32].
يمثل ظهور بعض الأمراض الاجتماعية والظواهر السياسية تهديدًا يتجاوز بعيدًا بلد المنشأ إلى ما سواها من البلدان. لذلك يتطلب الأمر التعامل مع هذه الظواهر على غرار التعامل مع الأمراض والأوبئة التي تضرب مناطق معينة، وتهدّد بالانتشار إلى ما سواها، سيّما مع الانفتاح والتشابك الذي يشهده العالم على نحو غير مسبوق، وتبعًا لذلك لا يمكن ترك مهمة مواجهة الأوبئة على البلاد المصابة بها؛ نظرًا لسعة وسرعة انتشارها على نحوٍ يتجاوز قدرات وإمكانات أيّ بلد بمفرده، الأمر الذي يدعو إلى استنفار عالمي.
وتجري مواجهة الأوبئة عادة باتخاذ عدة خطوات، أولها محاصرة الوباء ضمن نطاق ظهوره ومنع انتشاره، ثم تجري ثانيًا دراسة أسباب الوباء وعوامل النشأة وسبل العدوى، وثالثًا يجري إنتاج اللقاحات اللازمة لمعالجة الوباء والوقاية منه، ثم يأتي رابعًا وأخيرًا نشر وسائل العلاج على مستوى العالم، ومتابعة التقيد الصارم بأساليب الوقاية والعلاج، فلا خيار لأحد في التساهل تجاه ذلك. ولا يصحّ أبدًا تسييس التعامل مع شأن الأوبئة، على نحو يجري التعامل مع انتشارها في بلد معيّن وفق نزعة الثأر من ذلك البلد؛ لأنّ الوباء لن يبقى محصورًا في حدود تلك البلاد، ليكون الأمر بالنسبة للبلاد الأخرى كمن تثار من نفسها، متى استخدمت سياسة الثأر وتوظيف الأمراض توظيفًا سياسيًّا.
إنّ التعامل مع الأمراض الاجتماعية والظواهر السياسية، التي تحمل مخاطر وتهديدات تنذر بالتفشي والانتشار عالميًا، كظاهرة الإرهاب، ينبغي أن يكون على غرار التعامل مع الأمراض والأوبئة المعدية.
الوباء الأخطر
لقد بات الإرهاب كالوباء الخطير الذي يتهدّد كلّ المجتمعات، ما يستدعي الاستنفار العالمي لمواجهته. لما يحمل من تهديدات تنذر بالتفشي والانتشار، ولأنه لن يبقى محصورًا في تلك المنطقة أو ذلك البلد، وهذا تحديدًا ما ابتلي به العالم اليوم. فحينما ظهرت بعض الحركات الإرهابية ذهبت بعض الأطراف إلى توظيفها سياسيًّا، من خلال دفعها باتجاه خصومها من الأنظمة السياسية، والمجتمعات والطوائف الدينية، دونما إدراك لتداعيات هذا التوظيف السيئ، المتصل بطبيعة المجموعات الإرهابية، التي متى ما تمكنت وامتلكت القدرات، فإنّ من الصعب السيطرة عليها، حتى من قبل داعميها ومموليها، والعاملين على توظيفها، ليمضي وباء الإرهاب في الانتشار والارتداد حتى على داعميه، وهذا تحديدًا ما يحصل في العالم في وقتنا الراهن، حيث بات في مواجهة مباشرة مع موجات الإرهاب والتطرف المنفلت.
حاضنة الإرهاب
ومع بالغ الأسف، باتت المجتمعات الإسلامية تمثل الحاضنة الأبرز للإرهاب. ومردّ ذلك إلى الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية غير السوية التي تعيشها معظم المجتمعات الإسلامية، ما يُشكّل بمجموعه أرضية لاحتضان هذا المرض الوخيم؛ كما ساعد على ذلك تفشّي الفهم السيئ لمفاهيم الدين.
إنّ كثيرًا من المجتمعات الإسلامية لا تفهم الدين فهمًا حقيقيًّا، فهذا الدين الذي جاء بالسماحة والألفة والرحمة، كما في قوله تعالى في خطابه لنبيه الكريم: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾، هذا الدين جعله بعض المسلمين دينًا للكراهية والصراع، وتفجير النزاع، وبثّ الشحناء والبغضاء في النفوس. وقد ساهم هذا الفهم السيئ مع وجود الحاضنة الاجتماعية التي تعجّ بالتخلف السياسي والاقتصادي، مما ساهم في تفشي الإرهاب، حتى انفلت من عقاله، فاتسعت رقعة المعاناة، وعاث في المجتمعات الإسلامية تدميرًا وخرابًا، من الصومال إلى أفغانستان وباكستان، ثم العراق وسوريا ولبنان واليمن، وصولًا إلى تونس وليبيا والجزائر مروًرا بمصر، والحبل على الجرار.. وقلّ أن تجد بلدًا إسلاميًّا نجا من بطش الإرهاب وموجات التطرف، ليتعدى الأمر إلى ضرب البلاد غير الإسلامية.
تصاعد العمليات الإرهابية
إنّ العالم مطالب بإعلان حالة استنفار قصوى، في مواجهة موجات الإرهاب والتطرف. فقد ذكرت التقارير أنّ العام 2014 شهد ارتفاعًا حادًّا بلغ نحو 94 بالمئة في نسبة تنفيذ العمليات الانتحارية المرتكبة في مختلف بقاع العالم، وأشارت الأرقام إلى تنفيذ المجموعات الإرهابية نحو 592 عملية انتحارية عبر العالم، بلغ عدد ضحاياها 3400 شخص، ممن قتلوا في المساجد والمطاعم والمتاحف والمسارح. وقد شهدت العمليات الانتحارية تورطًا لافتًا للعنصر النسائي، حيث نفذّت 165 امرأة عمليات انتحارية في أفغانستان وحدها عام 2014م[1] .
وهذه بلادنا، التي كانت إلى حدٍّ ما، في منأى عن الأعمال الانتحارية، تتلقى طعنة غادرة بسقوط عشرات الشهداء في عملية انتحارية في بلدة القديح بالقطيف. حيث استهدفت يد الإرهاب الآثمة المصلين الذين يؤدون صلاة يوم الجمعة، فسفك الدم الحرام وتناثرت الأشلاء، واستشهد وجرح العشرات من الرجال والأطفال.
الانتقائية في الموقف من الإرهاب
إنّ العالم أجمع مطالب بالتوحد الحقيقي ضد الإرهاب. وعلى الحكومات أن تتخذ مواقف واضحة، غير انتقائية، ضد الإرهاب في كل مكان، ذلك أنّ دعم الإرهاب في بلد، أو السكوت عنه في بلد آخر، إنّما يعني منح الإرهاب المزيد من الفرص للانتشار. لا مجال للانتقائية في التعامل مع الإرهاب، فلا يجوز السكوت عن الحركات الإرهابية التي تضرب بلدًا آخر، لمجرّد الخصومة مع حكومة ذلك البلد، أو العداء مع ضحايا الإرهاب هناك.
لا بُدّ من القول، إنّ استفحال الإرهاب يأتي في جانب منه نتيجة الصراعات الإقليمية بين دول المنطقة. وما لم تتفق الأطراف الإقليمية على الحوار، ووضع حدٍّ للدمار والخراب، الذي يطال بلدان المنطقة، فإنّ النزيف سيستمر، وستدفع بلداننا ومجتمعاتنا المزيد من الخسائر والضحايا. إنّ إدانة الإرهاب لا ينبغي أن تقتصر على الشعارات والخطب والإدانات اللفظية، وإنما المطلوب تبنّي سياسات عملية في مواجهة الإرهاب الذي يضرب المنطقة، وما لم تجتمع القوى الإقليمية على التوافق عبر مائدة الحوار، فإن أوطان المنطقة وشعوبها ستدفع الثمن غاليا، في النزاعات القومية والعرقية والطائفية.
رفع الغطاء الديني
كما ينبغي على علماء المسلمين اتخاذ موقف واضح يرفع الغطاء الديني عن الممارسات الإرهابية. وأن يكفّ هؤلاء عن تسعير الإرهاب من خلال خطب التحريض والتعبئة وإثارة الأحقاد والضغائن، إذ يكفي للحظات مراقبة ما يقال على بعض المنابر والقنوات الفضائية ومواقع التواصل الاجتماعي، لإدراك سيل الأحقاد والضغائن التي تبث على مدار الساعة، أما ضحايا هذا الخطاب التحريضي، فهم صغار السنّ من المراهقين والشباب الذين سرعان ما يستجيبون لموجات التعبئة. فمتى سيوضع حدٌّ لهذا التحريض والتعبئة الطائفية؟
إننا جميعًا مسؤولون عن وضع حدٍّ للتحريض والتأجيج الطائفي. ولا جدوى من التنصل، واتجاه كلّ طرف لتبرئة نفسه، وإلقاء المسؤولية عن التحريض والتعبئة الطائفية على الطرف الآخر، فحقيقة الأمر أنه وإن تفاوتت النسب بين هذا الطرف أو ذاك، إلّا أنّ الجميع يشتركون في تعزيز الثقافة التعبوية الطائفية، هذه الثقافة التي تُشكّل إمدادًا ودعمًا تتغذى منه التوجّهات الإرهابية المتطرفة.
رحم الله شهداءنا الأبرار في جمعة القديح الدامية، ومنّ على الجرحى بالصحة والعافية، وحمى الله بلادنا وبلاد المسلمين والعالم من شرور الإرهاب. قال تعالى: ﴿مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا﴾.
الخطبة الثانية: بعد حادثة القديح.. التوكل على الله والإجراءات المطلوبة
﴿قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾[سورة التوبة، الآية:51].
تكتنف الأخطار المتعدّدة حياة الإنسان في هذه الدنيا؛ من أمراض وحوادث وكوارث. ويغدو من الطبيعي عندها أن يخشى الإنسان على نفسه شرّ تلك الأخطار، فيسعى إلى تلمّس طرق الوقاية منها، واكتشاف سبل العلاج. غير أنّ هذه الأخطار لا يمكن بأيِّ حالٍ استئصالها تمامًا من هذه الحياة، فمن أراد حياة هانئة بلا كدر، وآمنة بلا خطر، فإنها لن تتوفر سوى في الآخرة، وهو أقصى أمل المؤمنين وأولياء الله الصالحين، أمّا الحياة الدنيا، فإنّ من طبيعتها وجود الأخطار والمكاره التي تتفاوت من مكان إلى آخر.
هناك أقطار ترزح تحت خطر الأمراض والأوبئة كما في بعض مناطق أفريقيا، نتيجة التخلف وضعف الرعاية الصحية، وتردّي الواقع الاجتماعي والاقتصادي.
وهناك بلدان أخرى تعيش خطر الكوارث الطبيعية المتكررة من الفيضانات والبراكين والزلازل، التي يذهب ضحيتها المئات والآلاف، وتؤثر على حياة الملايين من الناس، كما حدث مؤخّرًا في الزلزال الذي ضرب دولة النيبال[2] ، وبلغت قوته 7.9 على مقياس ريختر، وقتل فيه أكثر من أربعة آلاف شخص، وتضرّر جراءه ثمانية ملايين شخص.
كما تواجه مناطق مختلفة خطر الاضطرابات الاجتماعية، نتيجة تفجر النزاعات المسلحة، وأعمال القتل والتفجيرات العشوائية.
من هنا ينبغي الإشارة إلى سبُل مواجهة الأخطار المحدقة بمناطقنا، سيّما وقد دخلت بلادنا دائرة الاستهداف المباشر، بعد اعتدائي الدالوة في الإحساء[3] والقديح[4] في القطيف.
الصبر والثبات
وفي سبيل مواجهة الأخطار الإرهابية المستجدة على منطقتنا ينبغي الالتزام بجملة من الإجراءات الضرورية. وأول ما ينبغي الالتزام به، هو التحلّي بالصبر والثبات، فالإنسان المؤمن لا يدخل قلبه الرعب والخوف، على نحوٍ يعطّل حياته، ويوقف مسار نشاطه وعمله، نتيجة وجود بعض الأخطار والتحديات. فهذه الاعتداءات الدموية، التي لم نكن نتمناها في يوم من الأيام، أصبحت الآن أمرًا واقعًا، ونحن في الوقت الذي نسأله تعالى أن يحمي بلادنا وبلاد المسلمين من شرورها، ينبغي في الوقت عينه أن نتحلى بروحية الصبر والثبات، التي يمنحنا إيّاها ديننا الحنيف، فنحن أتباع دين يحضنا على التسليم بقوله تعالى: ﴿قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾، وليكن لنا مثال في تجارب الشعوب الأخرى، التي عانت طويلًا من خطر الإرهاب، دون أن ينال من إرادتها وعزيمتها، وهذا الشعب العراقي أمامنا، الذي طالما اُستهدفت حياة أبنائه ومقدّساته ومناسباته الدينية، ومع ذلك لا يزال يبدي الإصرار المضاعف، والإقبال المتزايد، على إحياء المناسبات عامًا بعد عام.
إنّ الثبات والصبر هو المطلوب من كلّ مجتمع إيماني، من خلال التمسك على نحو أكبر بمساجده وحسينياته وأنشطته وبرامجه الدينية، وبمعنويات رفيعة وحضور مضاعف. ولا يصح للمؤمن أن يستسلم وينأى بنفسه عن بيوت الله بداعي الخطر المحتمل، وإنما ينبغي أن يُسلّم أمره لله سبحانه متوكّلًا عليه، فالإنسان معرّض للأخطار في أيّ وقت وفي كلّ مكان.
الاحتياطات الأمنية
أمّا الأمر الثاني فهو التوفر على أساليب الوقاية من هذه الأخطار. وذلك من خلال تقوية الحسّ الأمني عند أفراد المجتمع، واتخاذ أقصى الاحتياطات. إنّ على الجميع الارتفاع إلى مستوى التحدّيات الأمنية الماثلة، فبعد أن درج الناس طويلًا على خلو الأماكن الدينية والمناسبات الاجتماعية من أيّ احتراز، بات عليهم من الآن فصاعدًا التأقلم مع وجود هذه الاحترازات استجابة للظروف الطارئة، وذلك ما يتطلب تعاون الجميع وتقبلهم لهذا الأمر، دونما انزعاج ولا تهاون. إنّ اتخاذ الاحتياطات ضمن التجمعات وأماكن العبادة بات أمرًا ملحًّا ومطلوبًا، بما يشمل توفير وسائل السلامة، والتدرب على الإسعافات الأولية، والتدرّب على حسن التصرف فور وقوع الخطر.
الحذر من الاستدراج
وثالث الأمور المطلوبة، هو إفشال مخطط الاستدراج للقيام بردود فعل عنفية على الاعتداءات. إنّ على مجتمعاتنا أن تجتهد في تطويق التوجهات المتطرفة والإرهابية، التي تستهدف رفع مستوى التشنج الطائفي في بلادنا، والبلوغ بالمجتمع أقصى درجات التوتر المذهبي، من خلال الخطابات المتشددة، والأعمال المستفزة، القائمة على الفعل وردّ الفعل، فهذا ما يريده الإرهابيون ويسعون إلى بلوغه. إن مجتمعاتنا مدعوة لمواجهة حالة الاستدراج، من خلال التمسك بلغة العقل والمنطق، والتزام تعاليم الإسلام.
ولا يعني ذلك الكفّ عن الحديث عن قضايانا، أو التخلّي عن المطالبة بأيِّ حقٍّ من الحقوق، فذلك ديدن الغيارى في مجتمعنا من قبل هذه الاعتداءات وسيستمر بعدها، غير أننا ينبغي أن نختار الحديث في الوقت المناسب، والطريقة المثلى، واللغة المنضبطة، بعيدًا عن المزايدات الفئوية، التي لن يسفر عنها سوى بقاء حالة التوتر وارتفاع درجة التشنج في مجتمعنا وبلادنا.
إنّ مخاطر الإرهاب باتت اليوم متعلقة بمستقبل الوطن والشعب بأكمله، بل وشعوب المنطقة برمّتها، وهذا ما يفرض علينا أن نكون دقيقين جدًّا في التعامل مع التطورات السياسية والأمنية المستجدة.
لقد قدّمت المرجعية الدينية العليا المتمثلة في السيد السيستاني مثالًا يُحتذى، حيال التعاطي مع موجات الإرهاب التي ضربت العراق. وذلك حينما بدأت يد الإرهاب تعبث في ذلك البلد، وانطلقت أثرها بعض الأصوات الانفعالية الداعية للثأر، فجاءت بيانات المرجعية مؤكدة التحلّي بالحكمة، والتزام أقصى درجات ضبط النفس. ويمكن العودة لتلك البيانات المطبوعة ضمن كتاب «النصوص الصادرة عن السيد السيستاني» الذي يتضمن أغلب البيانات الصادرة عن السيد المرجع حول مختلف الأحداث، لنلاحظ أنه بالقدر الذي كانت المشاعر الغاضبة في ذروتها، كانت مواقف المرجعية تتسم بالرصانة والعقلانية والتوازن، مستقاة من هدي النبيّ وأئمة أهل البيت.
وعلى هذا النحو ينبغي لنا الالتزام بأقصى درجات الحكمة وضبط النفس حيال الاعتداءات الآثمة. وأن نتقيد باللغة والسلوكيات الحكيمة، المستقاة من هدي الإسلام وسيرة النبي وأهل بيته، وتوجيهات المرجعية الدينية الرشيدة، وأن نمدّ يد التعاون مع الجهات الرسمية والأهلية، لتطويق التوجهات الإرهابية المتطرفة، وتفويت الفرصة عليها، لا أن نستجيب لاستهدافاتها الرامية إلى تصعيد مستوى التوتر الطائفي إلى أقصى مدّياتها.
الترجمة العملية للتعاطف والتضامن
أما وقد شهدنا مواقف وطنية مشرفة من الكثير من الجهات الأهلية في أعقاب حادثة الدالوة، فإنّ علينا أن ندفع باتجاه ترجمتها إلى مواقف عملية على أرض الواقع، لا أنْ تظلّ مجرّد خطب شفهية أو حبرًا على ورق.
وعليه، ينبغي أن تتضافر الجهود في سبيل تجريم التحريض الطائفي في البلاد، وأن يجري ترسيخ حالة المساواة بين المواطنين، والسعي نحو معالجة الملفات العالقة، وهذا ما يتطلب تعاون كلّ القوى على المستوى الوطني. إنّ الاكتفاء ببعض التصريحات والكتابات الصحفية في أعقاب كلّ حادثة إرهابية، ثم بقاء الأمور على ما كانت عليه قبل الاعتداء، أمر غير صحيح، ولربما فتح الباب أمام تكرر الاعتداءات، والأنكى أن تأتي ارتداداتها على نحوٍ أكثر تعقيدًا.
الأداء الأهلي الرائع
ولا يفوتني هنا الإعراب عن الإشادة بالأداء الأهلي الرائع، الذي أعقب الاعتداء الإرهابي في بلدة القديح. لقد كان الأداء الذي أبداه أهالي القطيف الكرام مدعاة للاعتزاز والفخر، فقد ظهر الجميع على مستوى كبير من المسؤولية، حيال استجابتهم للموقف، وتعاطيهم مع الحدث، بصرف النظر عن بعض أوجه القصور هنا أو هناك، فقد سجلوا مشهدًا ناصعًا مشرقًا في صفحات تاريخهم، هم جديرون به. ويكفي في ذلك موكب تشييع شهداء الفاجعة، الذي جرى وفق إدارة رائعة، إلى جانب تنظيم مجلس العزاء والتعاطي مع الحدث بشكل مجمل، كل ذلك تمّ بصورة رائعة، والفضل يعود إلى حالة التلاحم والتعاون، التي جمعت كلّ الطاقات على اختلاف آرائها وتوجّهاتها، من علماء دين ورجال أعمال وأدباء وأطباء وممرضين وجمعيات خيرية، وصولًا إلى سائقي حافلات النقل العام، وغيرهم.
لقد صنع الجميع ملحمة وطنية اجتماعية رائعة، تليق بهذا المجتمع، وتناسب تاريخه، فجزآهم الله خير الجزاء. إنّ حالة التلاحم والتضامن هذه ينبغي اعتبارها مكسبًا يلزم البناء عليه، وعدم التفريط فيه، وذلك بأن نعزّز روحية العمل الأهلي الاجتماعي، من خلال انبثاق مؤسسات دائمة، لمواجهة أيِّ مشكلة أو حادثة يمكن أن تقع، سيّما وأنّ الأوضاع لا تزال مفتوحة على كلّ الاحتمالات، في ظلّ التوتر الإقليمي والدولي. من هنا ينبغي أن نستفيد مما حصل، وأن نستخلص العبر والمكاسب.