الوعي الاجتماعي في مواجهة الإرهاب
﴿وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ﴾[سورة الأنبياء، الآية: 35 ].
يمثل نزول البلاء وبروز التحدّيات المصيرية ساحة اختبار حقيقية على صعيد الأفراد والمجتمعات. فقد أودع الله تعالى في نفس الإنسان توجّهات خيّرة، وطاقات عظيمة، تسمو به على مقام الملائكة، كما منحه قدرات نفسية هائلة، تجعله أصلب من الجبال الرواسي، وقوة عقلية يستطيع أن يسخّر بها ما في السّماوات والأرض بإذن الله. غير أنّ هذه القدرات الإيجابية، والقوى والنوازع الخيّرة في شخصية الإنسان، لا تظهر على نحوٍ عفوي تلقائي، إنما تحتاج إلى تحفيز واستثارة، حتى تظهر وتأخذ مداها في حياة الإنسان. إنّ هذا التحفيز لقدرات الإنسان يطلق عليه القرآن الكريم مصطلح الابتلاء، الوارد في أكثر من عشرين موضعًا في الكتاب العزيز، والابتلاء هو تعرّض الإنسان إلى حالات التحفيز التي تجعله يظهر قدراته، وتدفعه باتجاه تفجير مواهبه ونوازعه الخيّرة. وعلى هذا النحو يمثل الابتلاء في الحياة معيارًا أساسيًّا لإظهار حقيقة البشر وقدراتهم، على مستوى الأفراد والمجتمعات.
ويشمل مصطلح الشّر كلّ المنغصّات التي يستاء منها الإنسان، فيما يشير مصطلح الخير إلى جميع ما يسرّ الإنسان. قال تعالى: ﴿وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ﴾، وبذلك يكون كلا الأمرين؛ أي الشّر والخير، محفّزين لطاقات الإنسان وقدراته، وجاء في آية أخرى: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾، وجاء في آية ثالثة قوله تعالى: ﴿وَلِيَبْتَلِيَ اللَّـهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ﴾. ولعلّ عبارة ﴿ مَا فِي صُدُورِكُمْ﴾ الواردة في الآية الكريمة إشارة إلى مشاعر الإنسان وأحاسيسه وحالته النفسية، أما عبارة ﴿ مَا فِي قُلُوبِكُمْ﴾ ففيها إشارة إلى الأفكار والآراء والقناعات. وبذلك تأتي الابتلاءات في حياة البشر على سبيل الاختبار، وتبيّن النيّات، وإظهار مدى سلامة التوجّهات أو خطئها.
مجتمعنا ومواجهة التحدّي الجديد
إذا تعرّض أيّ مجتمع إلى التحدّيات والأخطار، فإنّ معيار نجاحه يكمن في شكل الاستجابة لذلك التحدّي والخطر. إنّ مجتمعنا المحلي بات يمرّ اليوم بتحدٍّ وابتلاء جديد، متمثلًا في مواجهته لآفة الإرهاب، هذه الآفة التي استشرت وأصبحت تهدّد بإيقاع الدمار والخراب في العالم بأجمعه، وفي ديار المسلمين على وجه أخصّ. لقد أصبح مجتمعنا في مواجهة هذا الاختبار الذي سبقتنا إليه مجتمعات وشعوب مختلفة، وبعيدًا عن أوجه التحليل الموسع لأسباب ظهور آفة الإرهاب وانتشارها في ديار المسلمين، الذي قتل بحثًا وتحليلًا، فإنّ ذلك لا يمنع من الإشارة إلى جوانب من أبرز مسبّبات ظهور هذه الآفة والبلاء المبرم، الذي تعاني منه أغلب مجتمعات الأمة.
كيف نما وتصاعد الإرهاب؟
إنّ هناك جملة أسباب تقف خلف بروز ظاهرة الإرهاب التي باتت تضرب الأمة وتهدّد العالم. ويأتي على رأس الأسباب، أولًا: استحكام حالة الممانعة لدى الأنظمة الحاكمة في المنطقة العربية تجاه الإصلاح والتغيير. مما أدى إلى تراكم الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وظهور أجيال شابّة ترزح تحت ضغط الأزمات، وهي تقارن في الوقت عينه أوضاعها المزرية ببلاد العالم المتمدن. إنّ هذا يمثل سببًا رئيسًا من أسباب هذا الانفجار المزعج، المتمثل في ظاهرة الإرهاب في العالم الإسلامي، الذي تطاير شرره في العالم كلّه.
أما السبب الثاني: فهو التلكؤ في معالجة الخطاب الديني، إننا بإزاء شعوب تؤمن بالإسلام، وتتمسك به دينًا، وتسعى إلى الثبات عليه، ولكن يبقى السؤال عن طبيعة الفهم الديني الذي يراد إيصاله لهذه الشعوب. ينبغي القول هنا، إنّ التراث الديني لدى الأمة، كان يحتاج إلى المراجعة منذ زمن بعيد، ذلك أنّ القسم الأكبر منه يشكل اجتهادات ونقولات وآراءً بشرية، هي بأمسّ الحاجة إلى التمحيص والتجديد، سيّما وأنّ كلّ فكر يبقى عرضة للتأثر بالبيئة التي انبثق منها، والزمن الذي شهد ظهوره. وقد شرع الدين للأمة باب الاجتهاد، حتى يعطيها الفرصة لمراجعة تراثها وفق الضوابط والأسس والمعايير المعتبرة. غير أنّ التلكؤ في تنقية التراث بقي السّمة الغالبة في الأمة، حتى بات بين يدي الأمة اليوم، تراث محمل بالصراعات والنزاعات والاجتهادات والآراء، التي تعبر عن زمنها وبيئتها وظروفها وأوضاعها. وقد وجد دعاة العنف والتطرف ضالّتهم في تلك المقولات من التراث الديني، فصاروا يبررون بها أفعالهم الوحشية بحقّ الأبرياء.
كما مثّل التراث الديني مادة خصبة للجدل المذهبي العقيم، الذي انشغل به المسلمون طويلًا. مع سابق علمهم بأنّ الحدود قد أرسيت بين المذاهب الفقهية، والمدارس العقدية منذ زمن بعيد، وأنّ ذلك الجدل العقيم لن يضيف شيئًا إلى هذا المذهب أو ذاك. ويجدر في هذا السياق أن نورد إشارة المرجع السيد السيستاني في أحد بياناته المنشورة، إلى ما مضمونه أنه من المتعذّر الاتفاق على ما هو مختلف فيه من القضايا العقدية والفقهية، فلنتركها جانبًا، وليأخذ كلّ طرف بقناعاته وآرائه، دون تحويلها إلى أدوات صراع، ننشغل بها ونمزّق بها وحدتنا.
فقد جاء في البيان الصادر عن مكتب سماحته بتاريخ 14 محرم 1428ﻫ الموافق 3/2/2007م ما يلي: «تمرّ الأمة الإسلامية بظروف عصيبة وتواجه أزمات كبرى وتحدّيات هائلة تمسّ حاضرها وتهدّد مستقبلها، ويدرك الجميع ـ والحال هذه ـ مدى الحاجة الى رصّ الصفوف ونبذ الفرقة والابتعاد عن النعرات الطائفية والتجنّب عن إثارة الخلافات المذهبية، تلك الخلافات التي مضى عليها قرون متطاولة، ولا يبدو سبيل إلى حلّها بما يكون مرضيًّا ومقبولًا لدى الجميع، فلا ينبغي إذاً إثارة الجدل حولها خارج إطار البحث العلمي الرصين»[1] .
ويتمثل السبب الثالث لظهور موجات الإرهاب في الصراعات الإقليمية والإرادات الدولية. إذ لا يخفى أن هناك إرادات دولية تريد الهيمنة على الشعوب، والتأثير على مساراتها، إضافة إلى الصراعات الإقليمية، التي ربما كان بعضها طبيعيًّا. إلّا أنّ من غير الطبيعي في هذه الصراعات استخدام المجموعات الإرهابية كأداة من أدوات الصراع بين الخصوم الإقليميين.
ويأتي السبب الرابع: وهو بروز تيار تكفيري متطرّف، يعود بجذوره إلى التاريخ الإسلامي وتراثه الديني. وقد انبعث هذا التيار مجدّدًا، ناشرًا الرعب والدمار، ومكفّرًا كلّ من يختلف معه في التوجه والموقف. هذه العوامل الأربعة هي من أهم العوامل المسببة لبروز ظاهرة الإرهاب.
وها هو مجتمعنا المحلي المسالم يعاني من وصول آفة الإرهاب إليه. لقد عاثت المجموعات الإرهابية طويلًا في الكثير من بلاد العرب والمسلمين، وطالما تابع مجتمعنا بألم آثارها المدمرة في المجتمعات الأخرى. غير أنّ الإرهاب، كما أيّ آفة من الآفات، لديها القابلية للانتشار والتفشي، ما لم تُحاصر ويُقضى عليها في مهدها، وقد عشنا بألم آثار الاعتداء الآثم في قرية الدالوة بالأحساء في شهر محرم الحرام، وما أعقب ذلك من تفجير انتحاري وحشي في بلدة القديح، وما تبعه من اعتداء دموي ثالث على مسجد الإمام الحسين في حيّ العنود بالدمام.
الأداء المجتمعي الرائع
إنّ سلسلة الاعتداءات الإرهابية التي ضربت مناطقنا، تمثل امتحانًا حقيقيًّا وابتلاءً لمجتمعنا. وبحمد الله فقد ظهر راقيًا تعامل الأهالي في أعقاب تلك الاعتداءات الأليمة، وكان أداؤهم رائعًا فاق المتوقع، وأبهر المتابعين والمراقبين، فقد أظهر الناس في الأحساء والقطيف والدمام وعيًا وطنيًّا ناصع البياض، أكّدوا من خلاله تآلفهم وتماسكهم، وأثبتوا نجاح الجهود التي صرفها العلماء والخطباء والمثقفون، الذين بذروا هذه البذور الخيرة، التي جعلت الناس تنطلق في ملحمة وطنية إنسانية رائعة، لجهة التماسك والتعاون والعطاء والوعي وحسن الأداء وإدارة الأمور، وقد سجلوا بذلك صفحة من أروع الصفحات في ظرف عصيب وحدث أليم، وهذا مؤشر على النجاح في هذا الامتحان، فجزاهم الله جميعًا خير الجزاء.
التعاطف الوطني
وفي هذا المقام ينبغي الإشادة بالتعاطف الوطني الكبير مع أهلنا المفجوعين، في الأحساء والقطيف والدمام. فعلى الرغم من الأصوات النشاز التي أعقبت الفاجعة، إلّا أنّ صوت الاعتدال والتضامن مع أهلنا في المنطقة أخذ مكانه على نحو واسع بعد سلسلة الاعتداءات الدموية تلك. وهو ما بدا واضحًا من خلال سلسلة الوفود الشعبية التي مثلت مختلف المناطق والفئات الاجتماعية، إلى جانب الكتابات الصحفية التي أعلنت إدانتها الإرهاب والتحريض الطائفي، ودعت إلى المساواة وتجريم التعبئة الطائفية. وهذه المواقف بمجملها مؤشر إيجابي، نأمل أن ينمو ويتزايد، وأن يضيق المجال على الأصوات المتطرفة المقيتة.
ولا بُدّ هنا أن نثني على المبادرات والمواقف الإيجابية التي اتّخذتها الجهات الرسمية في أعقاب الاعتداءات الإجرامية. كما في بيان وزارة الداخلية الذي أعقب الاعتداء الأخير، والأمر الملكي الذي اعتبر الشهداء الأربعة الذين أفشلوا الاعتداء على المسجد في حيّ العنود بالدمام، من شهداء الواجب، ومنحهم نوط الشجاعة، وهم يستحقون ذلك وأكثر، حيث كانت لهم خصوصيتهم التي تمثلت في سعيهم إلى الشهادة، وفرضهم أنفسهم عليها، لا العكس، فقد رأوا الخطر ماثلًا أمام أعينهم فاستقبلوه برحابة صدر، ليقوا بأجسامهم حرمة المسجد، وأرواح المصلين، وبذلك أصبحوا نموذجًا وقدوة. إنّ تقدير هؤلاء الشهداء الأربعة من قبل الجهات العليا في المملكة أظهر لياقة عالية، وزاد من ذلك الاهتمام الذي جرى بشهداء القديح، والتعاون اللافت من جانب أجهزة الدولة، حين وقف رجال الأمن جنبًا إلى جنب مع الشباب، حاملين جميعا همًّا واحدًا، في مواجهة خطر ماثل، يهدد الوطن برمّته، والمواطنين بأجمعهم.
الإرهاب خطر على الجميع
مخطئ من يظنّ بأنّ خطر الجماعات الإرهابية موجه لفئة محددة، أو مقتصرًا على طائفة بعينها. ذلك أنّ هؤلاء المتطرفين وإن استماتوا في خطابهم الطائفي، إلّا أنّ الحقيقة أنهم يستخدمون في كلّ منطقة الخطاب المناسب، فهاهم يبعثون الدمار والخراب في ليبيا دونما أثر لأيِّ تنوع مذهبي يتذرعون به، كما يفعلون في مناطقنا، وهل كان متحف «باردو» في العاصمة التونسية الذي سقط فيه عشرات القتلى والجرحى، تابعًا لطائفة معينة؟ وكذلك الحال مع الأفعال الوحشية التي يرتكبونها في الصومال وأفغانستان ونيجيريا والجزائر. إنّ هؤلاء القتلة يحملون توجّهًا إرهابيًّا شيطانيًّا يستهدف البشرية برمّتها، لكنهم يعزفون في كلّ منطقة على الوتر الأكثر تأثيرًا وفتكًا بالنسيج الاجتماعي هناك.
ويحدونا الأمل في أن يفوّت الوعي الوطني والاجتماعي الفرصة على هؤلاء الإرهابيين. ويأتي في هذا السياق البيان الرائع الصادر عن أهالي الشهداء في بلدة القديح، الذي يشدّد على أن قضية الشهداء أبعد ما تكون عن الثأر والانتقام، وإنما هي قضية وطن وأمن ينبغي أن يعمّ الجميع، سيمّا أنّ البيان يؤكّد دور الدولة ومسؤوليتها في حفظ الأمن، وحماية حياة مواطنيها ومصالحهم في كلّ مكان.
ومع لحاظ مدى الألم الذي ضرب نفوسنا، ينبغي أن ننظر إلى الوجه الآخر من المسألة. حيث يشير القرآن الكريم إلى جانب آخر ونتائج مختلفة للبلاء الذي يواجه البشر، قال تعالى: ﴿وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ﴾، فقد يكره الإنسان شيئًا، لا لشيء، إلّا غفلة عمّا يتضمّنه من الخير الكثير. ولنا في سيرة العقيلة زينب خير عبرة وأسوة، حين خاطبها ابن زياد سائلًا: كيف رأيت صنع الله بأخيك؟ قالت: والله ما رأيت إلّا جميلًا.
لقد أراد رموز الإرهاب تفجير الفتنة في مجتمعنا، فجاء الجواب على إرهابهم واعيًا، والأداء رائعًا، وهذا من أكبر المكاسب. إننا معنيون جميعًا بالمحافظة على هذه المكاسب من الوعي والتلاحم؛ لأنّ التفريط فيها ربما يرقى إلى حدِّ إضاعة دماء الشهداء. سائلين الله تعالى للشهداء رفيع الدرجات، وعالي المقام، وأن يلحقهم بالأنبياء والأئمة والشهداء والصديقين، وحسن أولئك رفيقًا، راجين أن نحظى بشفاعتهم يوم القيامة، وأن يلهم ذويهم الصبر والسلوان، وأن يمنّ على الجرحى بالشفاء والعافية، كما نوجّه جزيل الشكر للجميع على هذه الجهود المبذولة، من الشباب الذين بذلوا أقصى طاقتهم، وهم أهل لما بذلوا، نسأل الله أن يجزيهم خير الجزاء وأن يوفقهم، ونحمده تعالى أن قيّض لنا من شبابنا مثل هذه النماذج الخيّرة، التي نفخر بها أمام العالم، كما نسأله سبحانه أن يحمي مجتمعنا وبلادنا والعالم من شرور الإرهاب إنه حميد مجيب.