التصدي للشأن العام بين التشجيع والتثبيط
ورد عن أمير المؤمنين عليّ أنه قال: «خَيرُ النّاسِ مَن تَحَمَّلَ مَؤونَةَ النّاسِ»[1] .
شاءت الإرادة الإلهية أن يناط بالإنسان القيام بدور الخلافة في الأرض. وقد حبا الله البشر بطاقات كبيرة تتجاوز حدودهم الذاتية، إلى الحدّ الذي يجعل الواحد منهم خليفة لربّ العالمين على هذه الأرض، كما ورد في الآية الكريمة ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾. غير أنّ طبيعة الحياة وما يحيط بها من رغبات وما فيها من مغريات، تجتذب الإنسان للتمحور على ذاته، لا للحصول على احتياجاته الأساسية فقط، وإنّما للتوفر على سبل الرفاهية والكماليات، ليس هذا وحسب، وإنما يسعى في خطوة لاحقة نحو اكتناز الثروات ومضاعفتها، على نحو يكفي حاجته في هذه الحياة، لمئات المرات، وذلك لما في طبيعة الإنسان من حبّ المال، كما يقول تعالى: ﴿وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا﴾، وتلك حالة عامة يشترك فيها أبناء البشر.
إنّ الإنسان بما حباه الله من قدرات هائلة، أكبر من أن يحصر انشغاله بشؤونه الذاتية فقط، فإذا ما أدرك هذه الحقيقة، فإنه يبدأ بالانشغال بالشأن العام، وتحمّل المسؤولية العامة ضمن محيطه الاجتماعي.
المهتمون بالشأن العام خير الناس
إنّ الاهتمام بالشأن العام يمثل ميزة خاصة تميّز النخبة من الناس. هذه النخبة التي تدرك أنّ طاقاتها أكبر من أن تحصر ضمن ذواتها الخاصة، وأنّ ما عندها من القدرات يؤهّلها للقيام بأدوار أكبر، على المستوى الاجتماعي.
من هنا جاءت النصوص الدينية لتصف هذه النخبة بأنهم خير الناس، ومردّ ذلك، أنهم فهموا أنفسهم على نحو أفضل من الآخرين، لجهة إدراك قدراتهم وطاقاتهم، وتميّزهم بروحية العطاء المصحوبة بحالة من القيم المتجذرة في نفوسهم، ما يؤهّلهم إلى استحقاق ذلك الوسام الذي يجعلهم خير الناس. وفي ذلك ورد عن رسول الله أنه قال: «خَيرُ النّاسِ مَنِ انتَفَعَ بِهِ النّاسُ»[2] ، إنّ من يعيش منحصرًا في حدود مصالحه الخاصة، فهو لا يصنف ضمن خير الناس، لجهله بقدراته الذاتية، بخلاف من يتجهون للعمل في الشأن العام، الذين هم أكثر فهما لذواتهم، وأكثر تنمية لقدراتهم وطاقاتهم، وأبلغ تأثيرًا في المحيط الاجتماعي الذي يعيشون ضمنه.
لقد حدّد رسول الله تقديم النفع للناس باعتباره الطريق الأقصر لبلوغ الفرد المقام الذي يصبح فيه خير الناس وأفضلهم. فقد روي أنّ رجلًا جاء إلى رسول الله، وقال: «أُحِبُّ أَنْ أَكُونَ خَيْرَ النَّاسِ؟، فَقَالَ: «خَيرُ النّاسِ مَن يَنفَعُ النّاسَ، فكُنْ نافِعا لَهُم»[3] ، وبذلك إن شاء المرء أن يصبح خير الناس، فالطريق يمرّ بتحقيق المنفعة لهم. وبمعنى آخر؛ أن يتصدّى للقيام بالدور الذي يتجاوز ذاته ومصالحه الشخصية، ويركّز اهتمامه بمصالح الناس. كما ورد في السياق ذاته، عن أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب أنه قال: «خَيرُ النّاسِ مَن تَحَمَّلَ مَؤونَةَ النّاسِ»، وحيث إنّ المعتاد أن يتحمّل الفرد المسؤولية عن نفسه، بتلبية احتياجاته وتحقيق مصالحه، فإنّ تحمّل المسؤولية عن الآخرين عبر تلبية حاجاتهم وتحمّل همومهم، هو أمر بالغ الأهمية، على النحو الذي يجعل المشتغل بذلك من خيرة الخلق وأفضلهم.
ميادين العمل في الشأن العام
ويتجلّى مفهوم الانخراط في الشأن العام وتحمّل مؤونة الآخرين على صُعُدٍ عدة. فهناك على الصّعيد الديني مثلا، من يتوجه نحو الالتزام الديني والتقيد بأوامر الدين في مختلف تعاملاته، فهو على هذا النحو من التديّن يبقى متحركًا ضمن دائرته الذاتية، بينما هناك متديّن آخر إلى جانب التزامه الشخصي، يصبّ جلّ همّه في استقطاب الآخرين نحو الالتزام الديني، عندها ينطبق عليه مصداق من يحمل مؤونة الآخرين، وكذلك الحال على الصعيد المعرفي، فهناك من يسعى نحو تحصيل العلم وكسب المعرفة، لكنه يبقى حبيس ذاته وحسب، بخلاف ما إذا سعى نحو تعليم الآخرين، وإشاعة المعرفة والثقافة في صفوفهم، فإنه يكون قد تجاوز محوره الذاتي، إلى محيطه العام.
كما ينسحب الأمر على من يدأب في ترتيب شؤونه الحياتية، من المسكن والملبس والمأكل والمشرب والصحة والزواج، فهو يتحرّك ضمن دائرته الذاتية حصرًا، على العكس من الذي يصبّ اهتمامه على توفير هذه المستلزمات الأساسية لغيره من المحتاجين، فهو يتحرّك في صميم الشأن العام. وعلى هذا النحو ينطبق المفهوم على الشأن البيئي والسياسي والاجتماعي، فجميعها مجالات للاهتمام بالشأن العام.
هنا ينبغي ملاحظة أنّ طريق الانخراط في الشأن العام ليس مفروشًا بالورود والرياحين. ذلك أنّ من ينخرط فيه يكون محلًا لتلقّي الأعباء، وبذل الجهود، وتقديم التضحيات، ناهيك عمّا يواجهه من مشاكل متوقعة؛ لما في الشأن العام من آراء متغايرة، واهتمامات مختلفة ومنافسين آخرين. لذلك لا يُقبل على الانخراط في الشأن العام إلّا القلة من الناس. التي استحقت ذلك الوسام النبوي الذي يجعلها خير الناس، ناهيك عن الثواب الجزيل من الله عزّ وجلّ، ونماء الطاقات والقدرات، وحيازة ملكة التأثير، والدور القيادي في المجتمع، كلّ ذلك لقاء الكلفة التي تحمّلوها في سبيل الآخرين.
المبادرات الفردية
هناك عدة مسارات للتصدّي للشأن العام وخدمة المجتمع. ومن أبرزها ثلاثة مسارات:
الأول المسار الفردي، بأن يتوجه المرء بنفسه نحو القيام بالعمل العام، سواء كان بتقديم الخدمة للفقراء ومساعدة المحتاجين، أو نشر الثقافة والمعرفة، أو التصدّي لعمل اجتماعي أو سياسي معيّن، وهذه درجة من درجات الانخراط في الشأن العام. ومما يحضرني في هذا الشأن: أثناء سفري إلى مدينة مشهد في الصيف الماضي، تعرفت على تاجر سجّاد كان يسكن بجوارنا، وقد أطلعنا على اهتمامه بالشأن الاجتماعي، وبمساعدة المحتاجين على وجه التحديد، وقد وضع له برنامجًا شهريًّا، خصّص خلاله يومًا واحدًا، أول جمعة من كلّ شهر، يملأ سيارة أو سيارتين بالمواد الغذائية، ويذهب إلى بيوت الفقراء والمحتاجين المسجلين عنده ضمن قوائم معدّة سلفًا، لتقديم المعونة لهم مباشرة.
وقد سألته ما إذا كانت هذه المعونات كلّها من عنده، فأجاب بالنفي، مؤكّدًا بأنها معونات منه ومن مجموعة من التجار من أصدقائه، الذين يعلمون عن برنامجه الشهري هذا، ويثقون به، ويعتمدون عليه، في هذا السبيل. وبمعية عدد من أقربائه كان الرجل يوصل بنفسه المعونات الشهرية إلى ما بين مئتين وأربعمئة عائلة فقيرة. وفي كلّ يوم جمعة يمرّ على أربعين أو خمسين من بيوت الفقراء، لجمع فواتير الخدمات المتوجب دفعها عليهم، من ماء وكهرباء وهاتف، فيقوم بسداد ما يستطيع سداده، والطلب من زملائه التجار سداد ما تيسر منها، على نحوٍ لا يأتي يوم الجمعة التالية وإلّا وقد سددت الفواتير بأكملها. وهذا نوع من الانخراط الفردي في الشأن العام، الذي يستطيع كثيرون القيام به دون أيّ قيود.
العمل الجمعي
أما المسار الثاني فهو المسار الجمعي، أو ما يطلق عليه بالمؤسسات الاجتماعية ومنظمات المجتمع المدني. الذي يلتئم ضمن جمعيات خيرية، أو لجان عاملة، في أيّ مجالٍ من المجالات، كحقوق الإنسان أو البيئة أو مساعدة الفقراء أو الثقافة. وهذا المسار الثاني متقدّم على المسار الفردي؛ لأنّ العمل الجمعي أكثر بركة، واستدامة، وتنظيمًا، من العمل الفردي. ونحمد الله أنّ في مجتمعنا العديد من المؤسسات الأهلية ومنظمات المجتمع المدني العاملة.
المؤسسات الرسمية
وهناك مسار ثالث للتصدّي للشأن العام، ويتمثل في الانخراط ضمن المؤسسات الرسمية وشبه الرسمية. فقوام عمل البرلمان مثلًا، هو الاهتمام بالشأن العام؛ لكون أعضائه ممثلين عن الشعب ومعبّرين عن آراء ومطالب الناخبين. وكذلك الحال مع المجالس البلدية، ومجالس الأحياء، والجمعيات الخيرية، والنوادي الرياضية، فهذه بأجمعها مؤسسات رسمية أو شبه رسمية. والمشاركة ضمن أعمالها درجة متقدمة من درجات الاهتمام بالشأن العام.
بيئة مشجعة وأخرى مثبطة
وتتفاوت المجتمعات حيال مسألة الانخراط في الشأن العام. فهناك مجتمعات تتوفر فيها بيئة دافعة للنشاط العام، في مقابل مجتمعات أخرى تسود فيها حالة التثبيط والإحباط، ويمكن الوقوف على معيار الدافعية والتثبيط في أيّ مجتمع من خلال تلمّس حالة التفاعل مع المنخرطين في الشأن العام، فهناك مجتمع يشدّ على يد العاملين في الشأن العام من أبنائه، ويقدّم لهم التشجيع والشكر على جهودهم، وهناك مجتمع آخر يواجههم بحالة من التشكيك والتثبيط، وقد يرشقهم بمختلف التّهم والافتراءات. ومردّ ذلك في بعض الأحيان إلى رفع سقف التوقعات من عمل المنخرطين في الشأن العام، فهم يترقبون أن يحقق لهم العامل في الشأن العام كلّ طلباتهم، وأن يحلّ جميع مشاكلهم، وهذا أمر خارج عن قدرة كلّ أحد، فما على الإنسان إلّا أن يبذل أقصى جهوده، لكن ليس بيده ضمان التوفيق المطلق في كلّ عمل، فلربما كانت هناك في مواجهته عقبات وعوائق خارجية لا يستطيع تجاوزها. وعدم مقدرة المنخرطين في الشّأن العام على تحقيق كامل الأهداف المتوخاة منهم، لا يُعَدّ مبررًا كافيًا لمواجهتهم بالتثبيط، كما لا يبرر ـ في الوقت عينه ـ الإحجام عن التصدّي للشأن العام.
ويمكن أن يقول قائل إنّ المتصدّين للشأن العام لديهم أخطاء، ويعانون من نقاط ضعف، وتشوب أعمالهم الثغرات، ولم يحسنوا التصرف في بعض الأعمال، وكلّ ذلك قد يكون صحيحًا بدرجة أو أخرى، حيث لم يَدَّعِ أحدٌ بأن العاملين في الشأن العام معصومون من الخطأ، وإنما هم بشر قد ينجحون هنا ويخطئون هناك.
إنّ التصرف الأمثل حيال عمل المنخرطين في الشأن العام، هو أن يدعمهم المجتمع بالتشجيع في حال النجاح، وأن يرفدهم بالنقد الإيجابي في حال الفشل، ففي تلك الحالتين تكمن المساعد الحقيقية لهم.
إنّ من المؤسف جدًّا، أن تواجه بعض المجتمعات أبناءها العاملين في الشأن العام بحالة من التثبيط والتسقيط وتحميلهم أكثر مما يطيقون، على نحوٍ قد يجعل بعض هؤلاء العاملين يأسفون على كلّ دقيقة صرفوها في خدمة المجتمع، ولربما نأوا تمامًا عن الانخراط مستقبلًا في الشأن العام.
انتخابات المجالس البلدية
وحول الانتخابات البلدية التي ستأخذ مكانها في مجتمعنا المحلي خلال الفترة المقبلة، ينبغي الإشارة إلى أن عضو المجلس البلدي محكوم بصلاحيات مقيدة، وسقف محدّد، ليس بيده أن يتجاوزه، وتبعًا لذلك لا ينبغي أن يرفع المجتمع سقف التوقعات عاليًا. حيث تقتصر صلاحيات أعضاء المجلس البلدي، ضمن أطُرِ التخطيط والرقابة وتقديم المشاريع، مع افتقادهم لأيّ سلطة تنفيذية، فإذا ما برز منهم التقصير ضمن الصلاحيات الممنوحة لهم، فإنّ من واجب المجتمع أن ينقدهم نقدًا بناءً، وأن يدعمهم ويساعدهم في مهمتهم.
وينسحب هذا الأمر أيضًا على العاملين في الشأن السّياسي المحلي، من جماعات سياسية، أو وجهاء وشخصيات اجتماعية، الذين يُواجهون اجتماعيًّا بشيءٍ من السلبية في أحايين كثيرة، إلى الحدّ الذي قد يجعلهم ينأون بأنفسهم عن التصدّي لقضايا الشأن العام، إذ إنّهم في الوقت الذي يبذلون فيه التضحيات والجهود الكبيرة، فهم يقابلون من جهة أخرى بما يشبه الجحود والتنكر لجهودهم.
إنّ من المهم جدًّا أن تسود المجتمع أجواء إيجابية حيال العاملين في الشأن العام، أفرادًا وجماعات. ومع أنّ غرض العاملين الأساس من انخراطهم في الشأن العام، هو السعي نحو تحصيل الثواب من الله تعالى، وشعارهم الآية الكريمة ﴿لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا﴾، لكن ينبغي أن نضع بالاعتبار أنهم بشر، يدفعهم التشجيع من جهة، كما يتأثرون بعوامل التثبيط من جهة أخرى. لذلك ينبغي أن يتحلى المجتمع بالإيجابية تجاه من يتصدى للشأن العام. وعلى أيّ شخصٍ يجد في نفسه الكفاءة والقدرة على الانخراط في الشأن العام، ألّا يتردّد في الإقدام، سواء على مستوى الجمعية الخيرية، أم النادي، أم المجلس البلدي، أو أيّ مجال آخر؛ لأنّ العمل في الشأن العام، يعود على الإنسان بالنفع في الدنيا والآخرة.
وينبغي أن نأخذ بنظر الاعتبار، أنّ الانتخابات البلدية تمثل تجربة رائدة في بناء الوعي السياسي في المجتمعات. ويعود ذلك إلى جملة أسباب، من أهمهما أنّها تربي الناس على ثقافة الانتخاب، إذ لم تصل المجتمعات الديمقراطية إلى ما هي عليه اليوم بين عشية وضحاها، وإنما استغرق ذلك منها زمنًا طويلًا حتى بلغت درجة النضج. ومجتمعاتنا لا تزال ناشئة على هذا الصّعيد، وهذا ما يتطلب السعي نحو تكريس الممارسة الانتخابية لدى المجتمع، فعن هذا الطريق يتسنّى استيعاب العملية الانتخابية بمختلف مراحلها، بدءًا من الترشح للانتخابات، والعمل على كسب الأصوات، ومن ثم الاحتكام إلى صناديق الاقتراع، فهذه بأجمعها تمثل ثقافة سياسية، ينبغي أن تنمو وتتسع في نطاق المجتمع.
ينبغي أن تستفيد مجتمعاتنا من الفرص التي تساهم في تحسين أوضاعها، حتى وإن كانت درجة التحسن المتوقعة متواضعة، فليس ذلك مبررًا لأنْ نزهد فيها. حيث إنّ هناك فوائد بدرجة أو أخرى ضمن أيّ عملية انتخابية. إذ إنّ وجود مجلس يشرف ويراقب ويحاسب ضمن أيّ مؤسسة من المؤسسات، أفضل بكثير من عدم وجوده، ومن واجبنا أن نستفيد من هذا المجلس إلى أقصى حدٍّ ممكن.
من هنا ندعو أبناء مجتمعنا إلى أن يكونوا إيجابيين تجاه العاملين في الشأن العام، وألّا يرفعوا سقف توقّعاتهم بما يتجاوز الإمكانات والصلاحيات المتاحة لهؤلاء العاملين، وأن يحرصوا على اختيار المرشحين الجيّدين، الذين يمثلون نواة لقيادات يعول عليها المجتمع، كما لا يفوتنا في هذا السياق أن نتقدم بجزيل الشكر لكل الذين بذلوا طاقاتهم لخدمة مجتمعهم، من أعضاء المجالس البلدية السابقة واللاحقة، سواء نجحوا أم لم ينجحوا في تحقيق أهدافهم، فالمهم أنهم بذلوا ما في وسعهم لخدمة مجتمعهم.