دروس تربوية من العفو الإلهي
﴿إِنَّ اللَّـهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ ۚ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّـهِ فَقَدِ افْتَرَىٰ إِثْمًا عَظِيمًا﴾[سورة النساء، الآية: 48]
خلق الله تعالى البشر تفضّلًا منه، وأفاض عليهم نعمه وخيره، وأراد لهم أن يعيشوا في هذه الدنيا حياة طيبة سعيدة. غير أنّ المشيئة الإلهية أرادت أن تتحقق السعادة والصلاح في حياة البشر انطلاقًا منهم وباختيارهم، لا أن تكون مفروضة عليهم، ورغمًا عنهم، وبعبارة أدقّ؛ أن يحدّدوا مصيرهم مخيّرين لا مسيّرين. بخلاف سائر الكائنات الأخرى، التي جعلها سبحانه مسيرة في أسلوب حياتها. وقد أودع الله في الإنسان نزعات تغريه بالفساد والانحراف، كما منحه ملكات تدفعه نحو الخير والصلاح، وجعل حياته برمّتها ساحة امتحان دائم، قال تعالى: ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا﴾[سورة الإنسان، الآية:3]، وجاء في آية أخرى قوله تعالى: ﴿وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ﴾[سورة البلد، الآية: 10].
إنّ الله تعالى يريد للإنسان أن يسلك طريق الخير الصلاح، وأن يعيش حياة طيبة في هذه الدنيا، بوعيه واختياره، لا أن يكون مسيّرًا في هذا الاتجاه.
وجاءت الرسالات والشرائع السماوية لتبيّن للإنسان طريق الخير، وتشجعه على السير فيه. كما حرصت على تحذيره من العواقب الوخيمة المترتبة على انحرافه. وانتهجت الرسالات السماوية التعامل مع الإنسان طبقًا لطبيعته البشرية، ولم تتعاطَ معه كملك من الملائكة، وباعتباره بشرًا، فإنّ له أهواء وشهواتٍ ونوازع للانحراف والفساد، إلى جانب ما في أعماقه من بذور الخير والصلاح، التي ينبغي أن تستثار وتحفز وتستنهض، وتبعًا لذلك يمكن القول إنّ تعامل الرسالات السماوية مع الإنسان يُعدّ تعاملًا واقعيًّا، أبعد ما يكون عن المثالية المجردة.
ومردّ ذلك علمه سبحانه وتعالى، بضعف الإنسان، وإمكانية ميله في أحيان كثيرة نحو أهوائه وشهواته، فذلك غير منفك عن صميم طبيعته البشرية. من هنا يأتي السؤال عن طبيعة التعامل الإلهي مع الإنسان، إذا ما وقع في خطّ الانحراف والفساد وضعف أمام شهواته؟
أبواب النجاة مفتوحة
إنّ من عظيم رحمة الله، أن جعل تعامله سبحانه وتعالى مع عباده المخطئين أبعد ما يكون عن الثأر والانتقام، بل على نحو الاستنقاذ والإصلاح، واستعادة الإنسان إلى الطريق القويم، وإبعاده عن النتائج الوخيمة لأفعاله المنحرفة. لذلك فتح الله أمام الإنسان أبواب التوبة على مصراعيها، حتى آخر نفس من حياته. ورد عن النبي أنه قال: "إنّ الله عزّ وجلّ ليقبل توبة العبد ما لم يغرغر"[1] ، أي إنه تعالى يقبل التوبة عن العبد حتى اللحظات الأخيرة من حياته. قال تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ﴾[سورة الشورى، الآية: 25]، إنه يدعوهم بكلّ تحنّن ولطف إلى العودة إلى جادة الصواب، مهما بلغت ذنوبهم ومعاصيهم.
وإلى جانب فتح باب التوبة، جعل سبحانه وتعالى الأعمال الصالحة بابًا للمغفرة والتجاوز عن أخطاء العباد. فقد يوفّق الإنسان إلى التوبة تارة، وذلك أعظم أبواب المغفرة، وتارة تكون أعماله الصالحة طريقًا واسعًا نحو شموله بالمغفرة والتجاوز عن أخطائه، قال تعالى: ﴿إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ﴾[سورة هود، الآية: 114]، وفي حالة ثالثة، قد يحظى العبد بالشفاعة التي جعلها الله تعالى للأنبياء والأولياء والأئمة والشهداء والصالحين، فهؤلاء يشكلون بابًا من أبواب المغفرة، لما حباهم تعالى من حقّ الشفاعة في الناس، فيتجاوز سبحانه عن ذنوب العباد وأخطائهم كرامة لعباده الصالحين.
ويُبقي تعالى فرص النجاة متاحة أمام العباد إلى أبعد الحدود. فلو أنّ إنسانًا لم يتب إلى الله، ولم تكن عنده أعمال صالحة، ولم يكن مستحقًّا للشفاعة، فلا يعني ذلك نهاية المطاف، والأخذ به إلى جهنم، ذلك أنّ الله تعالى يمدّ طوق النجاة للعباد حتى وهم في تلك الحالة. وفي هذا الشأن تشير الآية الكريمة إلى أنّ كلّ الذنوب والأخطاء، تبقى ذنوبًا قابلة للمحو، ما بقي العبد تحت سقف الإيمان بالله والنأي عن الشرك به، قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّـهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ ۚ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّـهِ فَقَدِ افْتَرَىٰ إِثْمًا عَظِيمًا﴾.
إنّ الآية الكريمة فيها من الرجاء الكبير ما لا حدّ له، على نحو وصفها أمير المؤمنين بأنها أرجى آية في القرآن الكريم. فقد ورد عنه أنه قال: "ما في القرآن آية أرجى عندي من هذه الآية"[2] ، فالآية الكريمة تفتح باب الرجاء والأمل أمام الإنسان، حيث يقول تعالى: ﴿إِنَّ اللَّـهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ﴾، أي إنّه باستثناء الشرك بالله، فإنّ كلّ الذنوب يمكن أن يستوعبها العفو الإلهي. غير أنّ الآية الكريمة لم تُعْطِ وعدًا حتميًّا بغفران الذنوب على نحو مطلق، وإنّما حصرت العفو في قوله تعالى: ﴿وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ﴾. من هنا، ينبغي أن يتحلّى الإنسان باليقظة والانتباه، فلا يتوهم أنّ كلّ ذنب يقترفه سيكون محلّ عفو الله وغفرانه ما دام دون الشرك به تعالى، ويفهم الآية خطأ فتغريه بالمعصية. فقد لا تظللّ مشيئة الله بعض العباد عندما يبسطها ﴿لِمَن يَشَاءُ﴾ وفق تعبير الآية الكريمة. وورد عن الإمام الصادق أنه قال: "اُرْجُ الله رجاءً لا يجرئك على معصيته، وخف الله خوفًا لا يؤيسك من رحمته".[3]
لا يأس ولا استهانة
وتزخر الآية الكريمة بجملة من الدروس والأبعاد المهمة. ويأتي في طليعتها؛ إيلاء الأهمية القصوى للتوازن النفسي عند الإنسان حيال تعامله مع خالقه جلّ وعلا، فمن جهة ينبغي ألّا يصاب بالقنوط واليأس مهما بلغت ذنوبه وأخطاؤه؛ لأنّ اليأس منهيٌّ عنه بشدة، وذلك في قوله تعالى: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّـهِ ۚ إِنَّ اللَّـهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾[سورة الزمر، الآية: 53]، ومن جهة أخرى ينبغي ألّا يكون متهاونًا في المعصية. فالأمران في الإفراط والتفريط سيّان.
وروي أنه قيل للإمام الصادق : "قوم يعملون بالمعاصي ويقولون نرجو، فلا يزالون كذلك حتى يأتيهم الموت، فقال: هؤلاء قوم يترجحون في الأماني، كذبوا، ليسوا براجين، إنّ من رجا شيئًا طلبه ومن خاف من شيءٍ هرب منه[4] ".
ومما روي في سيرة الإمام زين العابدين ، أنّ الزهري الذي كان عاملًا عند بني أمية، عاقب رجلًا حتى مات جرّاء العقوبة، فخرج هائمًا على وجهه، لما تسبب من موت إنسان مسلم، وترك الناس ملتجأ إلى غار بأحد الجبال، فطال مقامه حتى بلغ تسع سنين، وفي إحدى السنوات كان الإمام زين العابدين في الحج، فأتاه الزهري، فقال له الإمام: "إني أخاف عليك من قنوطك ما لا أخاف عليك من ذنبك فابعث بدية مسلمة إلى أهله، واخرج إلى أهلك ومعالم دينك، قال: فقال: فرّجت عني يا سيّدي، والله عزّ وجلّ وتبارك وتعالى أعلم حيث يجعل رسالاته"[5] .
الصفح عن الخطأ
أمّا الدرس الثاني الذي يُستلهم من الآية الكريمة فهو أن ننتهج نهجًا تربويًّا مع من يخطئون علينا. وذلك ما ينبغي أن يتجسّد في تعاملنا مع مرتكبي الأخطاء ضمن محيطنا البشري، فقد يصدر الخطأ من أيّ فردٍ من أفراد العائلة تجاه الآخر، زوجًا أم زوجة أو ابنًا، وقد يصدر الخطأ من الأصدقاء والمعارف، والحال نفسه مع العمال والخدم، هنا ينبغي أن يتخلق المرء بأخلاق الله سبحانه، فلا يكون قاسيًا، ولا يوصد الأبواب أمام المخطئ، في إمكانية تصحيح نهجه، والتعديل من مسيره؛ لأنّ مآل ذلك سيكون دفعًا له إلى مربع اليأس والقنوط، وسيكون مشجّعًا له على الاستمرار في خطأه والإصرار على انحرافه. ولعلّ فيما ينشر من قضايا العمالة المنزلية خير مثال، فإذا ما أخطأ العامل أو العاملة، وتمّ استيعاب الخطأ، ومنحه فرصة أخرى للرجوع والتصحيح من مسلكه، فستمضي الأمور على نحو طبيعي هادئ، وعلى النقيض من ذلك فيما لو جرى التعامل معه على نحو قاسٍ غليظ، فلربما دفعه ذلك إلى ارتكاب جرائم داخل المنزل. وكذلك الحال في التعامل مع أخطاء الأصدقاء، فإنمّا هم بشر خطاؤون، أرأيت كيف يتعامل الله تعالى مع أخطائك تجاهه؟ كذلك ينبغي أن تتعامل مع الآخرين، ذلك أنّ من كان يعفو عن الناس كان إلى عفو الله أقرب.
ينبغي للمؤمن الواعي أن ينأى عن العقلية التعصبية الميالة إلى نفض اليد من الأقربين والأبعدين عند أول اصطدام بهم أو خلاف معهم، فذلك لا ينمّ عن وعي ولا حكمة، بقدر ما ينم عن عصبية وانغلاق. ولطالما قرأنا في سير أئمة أهل البيت وتعاملهم مع مناوئيهم والقساة من أعدائهم، إذ لم يكونوا يتعاملون معهم بروح انتقامية، بقدر ما كانوا يفسحون أمامهم مجال العودة، وكم من عدوٍّ تحول إلى موالٍ وصديق، كما في قوله تعالى: ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾[سورة فصلت، الآية: 34].
إنّ المنهج الإلهيّ في استيعاب المخطئين والتجاوز عن المسيئين، ينبغي أن يكون نهجًا معتمّدًا على كلّ المستويات، بما يشمل ذلك الحكومات. فقد يخطئ مواطن، ويتجاوز النظام، ويخالف قانون البلد، ومع التسليم بضرورة وجود الروادع ووضع العقوبات في سبيل حفظ النظام، إلّا أنّ تطبيق القانون يمكن أن يأتي على نحو انتقامي محض، أو على نحو إصلاحي، يكون الهدف منه استعادة المواطن المخطئ إلى دائرة الخير والصلاح، من خلال فتح المجال أمامه حتى يعود إلى دائرة الهدى. إنّ هذا النهج الاستيعابي مع المخطئين، هو ما ينبغي أن يجري حتى مع السجناء المجرمين، فهذه الفئة من الناس لا ينبغي للمجتمع أن يتعامل معها بقسوة بالغة، على نحوٍ لا يدع أمام الفرد منها خيارًا آخر سوى الاستمرار في خطّ الجريمة.
قد يصبح العاصي تقيًّا
أما الدرس الثالث الذي نستلهمه من الآية الكريمة فهو أن نلتزم الإيجابية في النظرة إلى الآخرين. فقد ينظر بعض الناس إلى بعضهم الآخر باعتبارهم مخطئين، وأهل ضلال وانحراف، غير أنّ السؤال المطروح هنا؛ وما يدريك عن المصير الأخير لهذا الإنسان المخطئ، سيّما وأنّ الله تعالى يقول: ﴿وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ﴾، فلعلّ التوبة تدرك هذا الإنسان عاجلًا أم آجلًا، فيصبح صالحًا في مستقبل الأيام، ولربما استوعبه عفو الله سبحانه وتعالى وأدركته المغفرة.
من هنا ينبغي ألّا ينظر المرء للآخرين من حوله على نحو سلبي، كمنحرفين وفاسدين وحسب، إنّ هذا الإنسان الذي يمكن أن نراه اليوم قطعة من السوء، وبؤرة للخطيئة، وكتلة من الفساد، ربما أخذ منحى آخر في مقبل الأيام. من هنا تنبع أهمية التحلّي بالإيجابية في النظر إلى الآخرين، بأن يتوقع لهم الهدى، ويتمنّى لهم السير في طريق الصلاح. على النقيض مما يفعل البعض، الذي لا يكاد يرى إنسانًا قد وقع في خطأ حتى يذهب بعيدًا في النظر إليه نظرة حالكة السواد، وتبقى هذه النظرة راسخة عنده حتى مع مرور السنين وتقادم الأيام، وهذا نمط من السلوك المتحجّر في الحكم على الآخرين، ينبغي ألّا يقع الإنسان المؤمن في براثنه.