الأغراض السياسية والتحريض الطائفي
عن أبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق أنه قال، قال رسول الله : "الخلق عيال الله فأحبّ الخلق إلى الله من نفع عيال الله"[1] .
وعنه أنه قال: سئل رسول الله : من أحبّ الناس إلى الله؟ قال: "أنفع الناس للناس"[2] .
ثمة تأكيد واضح في منظومة المفاهيم والقيم الإسلامية حيال اعتبار الإنسانية أسرة واحدة. وهو ما تشير إليه جملة من الآيات القرآنية والأحاديث الشريفة، ومنها؛ قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾[سورة النساء، الآية:1]، وجاء في آية أخرى قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾[سورة الأنعام، الآية: 98]، ومن ذلك، ما ورد عن أبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق أنه قال، قال رسول الله : "الخلق عيال الله فأحبّ الخلق إلى الله من نفع عيال الله". وعنه أنه قال، سئل رسول الله : من أحبّ الناس إلى الله قال: "أنفع الناس للناس"، وبذلك تؤكّد هذه النصوص وغيرها بوضوح أنّ البشر جميعًا يعودون إلى نفس واحدة، فهم بمنزلة أفراد الأسرة الواحدة، التي ينبغي أن يسود بين أعضائها التعايش والتعاون والتراحم.
إنّ من المعلوم أنّ هناك تمايزات داخل الأسرة البشرية، دينية وعرقية وقبلية، لكن هذه التمايزات لا ينبغي أن تؤثر على حالة الانتماء الإنساني الواحد، وما تستلزمه من تعايش وتعاون وتراحم.
وكلّ الأديان الإلهية تؤكّد على مفهوم الأسرة البشرية الواحدة. حيث لا توجد شرعة سماوية فيها ما يؤلّب الناس بعضهم على بعض، أو يبعد الناس عن بعضهم بعضًا، وإنّما العكس هو الصحيح، حيث دأبت الشرائع السماوية على دفع الناس نحو الاقتراب من بعضهم بعضًا، تحت ظلّ المفهوم المتجسّد في اعتبار الخلق عيال الله.
أرأيت كيف يحبّ الإنسان عياله، ويرى نفسه معنيًّا بسلامتهم ومعيشتهم، ويحبّ من يكرمهم ويخدمهم؟ كذلك أنّ الله سبحانه وتعالى يحبّ أبناء البشر، وهو المعني برعايتهم وسلامتهم، ويثيب من يعمل لصالحهم.
إنّ مفهوم الأسرة البشرية الواحدة يبقى ثابتًا في ظلّ التعددية الدينية والطائفية بين البشر، وقد كشف الإمام عليّ عن هذا المفهوم في أجلى صوره، وذلك في عهده إلى واليه على مصر مالك الأشتر، بقوله: "فإنّهم ـ أي الناس ـ صنفان: إمّا أخٌ لك في الدين أو نظيرٌ لك في الخلق"، ومضمون قوله أنّ الناس إمّا لهم حقّ الإسلام، أو حقّ الإنسانية باعتبارهم أعضاء في الأسرة البشرية الواحدة.
واقع المسلمين ومفاهيم الدين
غير أنّ هناك مفارقة كبيرة يكشف عنها واقع المسلمين المناقض لمفهوم الأسرة البشرية الواحدة، الذي عبّر عنه الإسلام. حيث تعجّ الأوساط الدينية بحالات النزاع والخلاف والتشنج، مع أنّهم ينتمون إلى دينٍ تشدّد مفاهيمه وقيمه على التعايش والانسجام مع الآخرين. وإلّا ما الدافع وراء الحروب الدينية؟ وما السرّ خلف الصراعات المذهبية التي تطحن هذه المجتمعات؟ وأين هذا الواقع المتشظّي في أوساط المتدينين من قيم الدين ومفاهيمه؟
ولعلّ أكثر ما يلفت النظر في هذا السياق أن تجد واقع الناس غير المتدينين أقرب إلى التعايش والانسجام من المتدينين. حيث ترى هناك من لا ينتمون للحالة الدينية بتاتًا، وهم ينعمون بالوئام والانسجام مع غيرهم، حتى إذا انتموا إلى الحالة الدينية، وأظهروا الالتزام الديني، أصبحوا في وضع مناقض تمامًا للحالة الأولى، وسرعان ما تجدهم ينتقلون إلى مربّع العداوة والنزاع.
ولعلّ أوضح مثال على هذا التلازم بين التديّن المتشدّد وبين التنازع مع الآخرين، هو واقع ما عُرف بالصحوة الإسلامية، وما صاحبها من نزاعات حادة عوضًا عن أن يحدث العكس. حيث كانت مجتمعاتنا قبل الصحوة تعيش أوضاعًا عادية على صعيد العلاقات الاجتماعية والدينية، وعندما سادت أجواء الصحوة أوساط المسلمين سنة وشيعة، وتزايد اهتمام كلّ مجموعة بأحكام دينهم ومذهبهم، رأينا تزايدًا مضطردًا في حالات التنافر والعداء، وتوسّعًا في أجواء الصدام والاختلاف. فلماذا يحصل ذلك، سيّما مع وضوح المفهوم الديني حيال وجوب التعايش والانسجام مع الآخرين على أسس دينية؟
فتّش عن السياسة
للإجابة عن هذه التساؤلات نقول: فتّش عن السياسة. إذ إنّ المصالح السياسية تقف خلف غالب النزاعات، وإن تسربلت بشعارات دينية، ومردّ ذلك إلى التأثير الكبير للدين على نفوس الناس، بما يجعل كلّ طرف يلجأ لاستخدامه طمعًا في تحقيق أغراض سياسية وحشد للأتباع، وليس هناك أفضل من إثارة العواطف الدينية باعتبارها الطريق الأقصر لبلوغ المآرب السياسية.
وهذا ما يفسّر استخدام الأطراف المختلفة الدين في التعبئة ضد بعضهم بعضًا، في سبيل تحشيد أكبر عدد من الأتباع، وتحقيق أكبر قدر من المكاسب.
وقد درجت الأطراف المهيمنة في كلّ منطقة من المناطق على إثارة القلق في نفوس المحيطين، وتعبئتهم وتخويفهم من أتباع الدين أو المذهب أو الخطّ السياسي المنافس، كلّ ذلك في سبيل خلق حالة الاصطفاف من حولهم، والمحافظة على مساحة الهيمنة المتاحة وإبعاد المزاحمين عنها.
كما قد يلجأ لهذه الحيلة أيضًا طرف يشتكي التهميش، وسلب ما يعتبرها حقوقًا مشروعةً، ثم لا يجد من سبيل لحشد المحيطين به إلّا من خلال إثارة المظلومية الدينية، والتخويف من مؤامرات مزعومة تستهدف الدين، وإلغاء المذهب، وإطباق الحصار عليه. من هنا نجد أنّ النزعات والمصالح السياسية تقف خلف توظيف الدين توظيفًا سلبيًا في مختلف المجتمعات.
انبعاث الطائفية في الهند
وقد برز في الهند مؤخّرًا أحد الأمثلة للعبث السياسي، واستخدام الدين في تحقيق المكاسب. فهذه البلاد التي طالما ضرب بها المثل في التنوع والتعددية الدينية، والتعايش القومي والعرقي بين أتباع الديانات المختلفة، بدأ هذا البلد يشهد في السنوات الأخيرة تشنّجًا بين المسلمين والهندوس، ومردّ ذلك إلى بروز حزب سياسي هندوسي يطمع في الوصول إلى الحكم، ويدعى حزب (جاناتيا بهاراتيا)، ولم يجد هذا الحزب بعد أن فقد أغلب مقاعده في البرلمان، إلّا الاعتماد على إثارة العواطف الهندوسية عند الناخبين، ودعوتهم للحفاظ على هندوسيتهم، مقابل الهيمنة الإسلامية المزعومة، إضافة إلى تخويف الجمهور من انتشار الإرهاب الإسلامي هناك، وقد آتت هذه الحملات أكلها، وحصد الحزب أغلب مقاعد البرلمان، وحكم الهند في مايو 2014م.
وعلى هذا النحو مضى في تحشيد الجمهور مع كلّ حملة انتخابية، مما قاد إلى حوادث مأساوية، ومن شواهدها ما حدث مؤخّراً من هجوم بعض أهالي قرية (بيسارا) ذات الغالبية الهندوسية، التي تبعد نحو 40 كيلومترًا عن نيودلهي، على منزل مواطن مسلم، يدعى (أخلاق أحمد) وقتله وسحله في الشوارع، استجابة لنداء عبر مكبرات الصوت، صادر عن معبد القرية، على خلفية ما ثبت لاحقًا أنّها إشاعة مكذوبة، حول ذبحه بقرة، وأكله لحمها بمناسبة عيد الأضحى، وذلك ما اعتبر إهانة للهندوس الذين يقدّسون البقر، في حادثة هي الأولى التي تشهدها القرية منذ أكثر من 70 سنة. وقد ثبت لاحقًا أنّ من يقف خلف الحادثة هم من أتباع الحزب الهندوسي المتشدّد (بهاراتيا جاناتا) نفسه، وغرضهم كسب التعاطف وخلق اصطفاف سياسي خلف الحزب بغرض الفوز في الانتخابات[3] .
التفسير الطائفي
إنّ توظيف الدين من أجل حشد الجمهور، وتعبئته لأغراض سياسية، تُعدّ حالةً سائدةً في الكثير من المناطق، وينبغي للناس أن تأخذ العبرة حيال هذا الأمر. ولعلّ المطلوب إزاء هذه الحالة أمران:
أوّلهما: أن يجري تعزيز الوعي الأهلي؛ حتى لا ينخدع الناس بالتعبئة التي تتظاهر بالدفاع عن الدين، والمنافحة عن العقيدة. إنّ من المشكلات المستفحلة في منطقتنا العربية والإسلامية سيادة التفسير العقدي للصراعات القائمة، وخاصة في هذا المقطع الزمني الراهن، على نحو يندفع فيه كلّ طرف إلى تفسير صراع الطرف الآخر معه، لاعتبارات الخلل الديني، والضلال المذهبي، والتآمر التاريخي، كما تفعل بعض القنوات الطائفية السنية، التي تجهد في إقناع جمهورها بأنّ الحوادث الراهنة نتاج للمعتقد الشيعي وليست وليدة اليوم، وإنّما امتداد لتاريخ طويل من الصراع العقدي ضدّ أهل السنة، مستحضرين في هذا السبيل رموز النزاعات السابقة من ابن سبأ حتى ابن العلقمي على ما يزعمون.
والحال نفسه مع الفضائيات الطائفية الشيعية، التي تتكئ على حجج دينية وتاريخية مشابهة. وبذلك يجري إرجاع المشكلة إلى التضاد العقدي بين الأطراف المتنازعة، وهذا تفسير خطأ جملة وتفصيلًا، وينطوي على تضليل متعمّد للناس، غرضه تأجيج الصراع. بينما يشير واقع الحال إلى أمر مختلف تمامًا، حيث تعايش الناس مع اختلافاتهم المذهبية على مدى قرون طويلة، حتى برزت الأغراض المصلحية والدوافع السياسية خلف الصراعات الراهنة.
إنّ التحليل المذهبي للصراعات الراهنة تحليل غير صحيح، وأبعد ما يكون عن الدقة. ولا أدلّ على ذلك من انتشار النزاعات السياسية والاحتراب داخل أتباع المذهب الواحد، وإلّا فبماذا نفسّر اندلاع حالات الاحتراب بين أبناء السنة أنفسهم، وأبناء الشيعة أنفسهم؟ من هنا، ينبغي ألّا تنطلي علينا التحليلات الساذجة المغرضة للنزاعات الراهنة.
ترشيد الحالة الدينية
أما الأمر الثاني فهو أن يتحمل الواعون مسؤوليتهم في سبيل ترشيد حالة الانتماء الديني، وتوظيفه في الاتجاه الإيجابي، نحو التعايش والمحبّة والتنمية وتقدّم الأوطان، والنأي عن إثارة مشاعر الناس، وتأليب بعضهم على بعض. إنّ من المؤسف ما يحدث ضمن هذا الصراع، من الجور على المفاهيم الدينية، ومن ذلك الترويج إلى معنى اعتباطي لمفهوم الأخوة الإسلامية الوارد في الآية الكريمة: ﴿إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾.
وبعيدًا عن الدخول في إشكالية الفرق بين المؤمن والمسلم في القرآن الكريم، لا ينبغي أن يغيب عن الأذهان ما ورد في أحاديث ومرويات أهل البيت حول اعتبار المسلم أخو المسلم مطلقًا. فقد ورد في الكافي عن أبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق أنه قال: "حقّ المسلم على أخيه المسلم أن لا يشبع ويجوع أخوه، ولا يروى ويعطش أخوه، ولا يكتسي ويعرى أخوه، فما أعظم حق المسلم على أخيه المسلم"[4] . وجاء في رواية أخرى في الكافي أيضًا عن الإمام الصادق أنه قال: "للمسلم على أخيه المسلم من الحقّ أن يسلم عليه إذا لقيه، ويعوده إذا مرض، وينصح له إذا غاب، ويسمته إذا عطس، ... ويجيبه إذا دعاه، ويتبعه إذا مات"[5] . كما ورد في البحار عن أمير المؤمنين أنه قال: "للمسلم على أخيه ثلاثون حقًّا.."[6] . لذلك ينبغي ألّا ينساق المؤمنون الواعون خلف أجواء التعبئة الطائفية، وإثارة العواطف، ودغدغة المشاعر.
من هنا، يمكن القول إنّ التديّن الحقيقي يتجسّد في تنمية المشاعر الإنسانية تجاه جميع الناس. دون اعتبار للاختلاف الديني والمذهبي أو العرقي، فالناس جميعًا أعضاء في الأسرة الإنسانية الواحدة، وهم عيال الله بحسب تعبير المرويات الدينية، فإنْ كان الإنسان يطمح إلى رضا الخالق عزّ وجلّ فليحسن إلى عياله، لا أن يعتدي عليهم. ويستثنى من ذلك ما يندرج تحت ردّ العدوان، كما في قوله تعالى: ﴿فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ﴾، وقوله تعالى: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّـهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا ۚ إِنَّ اللَّـهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾[سورة البقرة، الآية: 190].
وبخلاف ذلك، ينبغي ألّا يكون الانتماء الديني سببًا للعداوة بين الإنسان وأخيه الإنسان. ولا مبرر مطلقًا للانجراف خلف موجات التأليب لمجرّد انجراف الآخرين نحوها، كما يحاجج البعض، مرددين بأن أولئك بدأوا، وهم الذين فعلوا، وما إلى ذلك من تبريرات جوفاء، متناسين المبدأ والقيمة الإنسانية التي يجسّدها قول الشاعر: "وكلّ إناء بالذي فيه ينضح"، فالأولى أن يتمسّك الإنسان بالقيم الأخلاقية الواردة في منظومته الدينية وإن تجاوزها الآخرون. ومع إدراكنا لصعوبة الوقوف بوجه حالة الاصطفاف والتأليب المذهبي، ومقاومة الانجراف خلفها، وأنّ تلك باتت مهمة عسيرة، إلّا أنّ ثبات الواعين المصلحين على المبدأ، طلبًا لرضا الله، يُعَدُّ أكثر أهمية من أيِّ شيء آخر.