الأمة بين رهابين
ورد عن رسول الله أنه قال: "المسلمُ من سلِم المسلمون من لسانِه ويدِه"[1] .
وورد عن الإمام جعفر بن محمد الصادق أنه قال: "المسلم من سلم الناس من يده ولسانه، والمؤمن من ائتمنه الناس على أموالهم وأنفسهم"[2] .
يمثل الإسلام منظومة من القيم التي توجّه سلوك الإنسان وتعامله مع أبناء جنسه. فالإسلام ليس مجرّد عقيدة قلبية، ولا مجرّد حزمة من العبادات والطقوس الروحية، التي تربط الإنسان بربه، عبادة وخضوعًا، بل ينبغي أن تنعكس هذه العلاقة بالخالق على سلوك الإنسان مع العباد، وللإضاءة على هذا الأمر، يمكن التمعن في الحديث الوارد عن رسول الله الذي يعرّف المسلم الحقيقي، حيث يقول : "المسلمُ من سلِم المسلمون من لسانِه ويدِه"، إنّ المسلم الحقيقي هو الذي لا يصدر عنه العدوان والجور على حقوق الآخرين المعنوية أو المادية، فهو لا يلجأ إلى تجريح الناس والإساءة إليهم بلسانه، فضلًا عن أن ينال منهم بيده، فإن فعل ذلك، فهو ليس مسلمًا حقيقيًّا، وإن ادّعى الإسلام ومارس الطقوس الدينية.
حسن العلاقة مع الناس
إنّ حسن العلاقة أمر واجب على المسلم حيال جميع الناس، لا مع المسلمين وحدهم. فقد ورد عن الإمام جعفر بن محمد الصادق أنه قال: "المسلم من سلم الناس من يده ولسانه، والمؤمن من ائتمنه الناس على أموالهم وأنفسهم"، وثمة توضيح في هذا الصدد للشيخ محمد جواد مغنية حول حديث النبي واقتصاره على استخدام مفردة (المسلمون) لا عموم الناس في قوله : "المسلم من سلم المسلمون من يده ولسانه"، يقول مغنية: إنّ المقصد الأساس في قول النبي هم عموم الناس، وإنّما استخدم النبي مفردة المسلمين؛ لصدور الحديث ضمن بيئة إسلامية خالصة. ذلك أنّ العلاقة المسالمة مع الناس أمر واجب على المسلم أينما كان، وفي أيّ مجتمع عاش، فلا يعتدي على شيءٍ من حقوق الناس المادية والمعنوية تحت أيّ ظرف من الظروف .
وهناك آيات قرآنية عديدة شدّدت القول على حفظ حقوق الناس عمومًا، وتحريم الاعتداء عليهم مطلقًا. قال تعالى: ﴿وَلَا تَعْتَدُوا ۚ إِنَّ اللَّـهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾[سورة البقرة، الآية: 190]، والخطاب جاء ناهيًا عن الاعتداء على نحو الإطلاق، بصرف النظر عن من هم محلّ الاعتداء، مسلمين كانوا أم غير ذلك. وجاء في آية أخرى قوله تعالى: ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾، وهو يشمل عموم الناس وفي مطلق الأحوال، دونما فرق بين المسلمين وغيرهم. ويقول تعالى في آية أخرى: ﴿وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ﴾، وفي ذلك نهي صريح عن ظلم الناس عمومًا، لا خصوص المسلمين وحدهم. وبذلك يريد الإسلام من الإنسان المسلم أن يكون مسالمًا وإيجابيًّا في علاقته مع أبناء جنسه، سواءً كان ذلك في بيئة إسلامية أم غير إسلامية، حيث يتمثل جوهر الدين في حسن التعامل مع الناس، ويعدّ فاقدًا لجوهر الدين كلّ من لا يحسن المعاملة مع الناس، وإن قام بكلّ طقوس الدين.
عبادة الخالق والإحسان إلى الخلق
إنّ الغاية الأساس من إرسال الرسل ونزول الشرائع، ليس تنظيم علاقة الإنسان بالخالق وحسب، وإنما تنظيم العلاقة بين الإنسان وبني جنسه كذلك. قال تعالى: ﴿ لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾[سورة الحديد، الآية: 25]، أن يقوم الناس بإحقاق العدل فيما بينهم، باعتبار ذلك الهدف الأسمى للرسالات والكتب السماوية كافة، فلا يكون هناك أيّ ظلمٍ أو جور في علاقة الناس بعضهم بالبعض الآخر، فهذا هو جوهر الدين ومقصد الشرع، الذي لا يعوّضه أيّ التزام بمظاهر الإسلام. وبذلك ينبغي للإنسان المسلم في المقام الأول أن يكون ملتزمًا بحسن العلاقة مع الناس؛ لأنّ ذلك من صميم واجبه الديني، الذي ينيط به التزام السلم والعدل في علاقته مع أبناء جنسه.
إنّ حسن التعامل مع الناس كافة، عنوان أساس لتقديم الإسلام أمام البشر. ذلك أنّ الناس يرون الإسلام من خلال أتباعه والمنتمين إليه، فمتى ما كان المسلم حسنًا في علاقته مع الآخرين، فإنّ انطباعهم عن الدين سيكون حسنًا بطبيعة الحال. ومتى ما كان المتديّن مسيئًا لخلق الله، فإنّ نظرتهم إلى الدين ستكون سيئة؛ لأنّ من يمارس الإساءة للناس لا يسيء لنفسه وحسب، وإنما يسيء إلى الدين برمته بالنظر إلى مقدار التشويه الذي سيطال الإسلام نتيجة ممارساته المسيئة للآخرين.
الكارثة الأخطر على الإسلام
من هنا، يمكن اعتبار بروز الجماعات الإرهابية الموغلة في العنف والعدوان باسم الدين، أكبر كارثة حلّت بالإسلام في هذا العصر، ولا أدلّ على ذلك من أنّ إقامة الحكم الإسلامي، باتت تمثل اليوم فكرة مخيفة في أوساط الأجيال الجديدة من المسلمين أنفسهم، لفرط ما يرون بأمّ أعينهم من المجازر الوحشية التي يرتكبها تنظيم داعش وأضرابه، على نحوٍ جعل من الدين عامل خوف ورهاب بين المسلمين، فضلًا عن الأضرار الخطيرة التي حلّت بالأمة على يد الجماعات الإرهابية من نزاعات ودمار وسفك للدماء، وانتهاك للحرمات. وكذلك الحال مع التداعيات الكارثية التي تركتها الجماعات الإرهابية على الشعوب والأمم الأخرى.
لقد تسببت الجماعات المتطرفة بظهور ما بات يعرف بالإسلام فوبيا، أي الخوف من الإسلام، وقد برزت هذه الظاهرة ضمن تجليات وتعابير مختلفة، منها:
أولًا: النظرة السيئة للإسلام، واعتباره مصدرًا للعنف والإرهاب، وقد أخذت هذه النظرة طريقها ضمن الأفلام والرسومات والكتابات المسيئة للنبي والقرآن الكريم.
ثانيًا: شيوع الصورة السلبية النمطية عن المسلمين، فبالرغم من أنّ المتورطين في الإرهاب هم عدد ضئيل جدًّا، قياسًا على مليار ونصف مليار مسلم في العالم، إلّا أنّ ذلك لم يمنع من أن تنطبع في الأذهان، صورة نمطية، توحي وكأن كلّ المسلمين إرهابيون، ونتيجة لذلك بتنا نقرأ عن مسافرين غربيين يرفضون الجلوس بجانب ركاب مسلمين على متن الطائرات، وسكان يخشون مجاورة المسلمين.
ثالثًا: حصول إساءات وإجراءات تمييزية جماعية تطال المسلمين، حيث باتت جاليات إسلامية كبيرة في أوروبا وأمريكا تعيش أجواءً من القلق نتيجة الرهاب من الإسلام في تلك البلاد، سيّما في ظلّ استغلال هذه الحالة من قوى معادية للإسلام، ومنها اللوبيات الصهيونية، واليمين المسيحي المتطرف، والقوى المناوئة للمهاجرين، الذين استغلّوا هذه الأجواء للإمعان في تشويه الإسلام والمسلمين، مما جرّ إلى حوادث عنصرية كثيرة، جرى خلالها الاعتداء على مراكز ومساجد إسلامية، والتعرّض للمسلمات المحجبات.
إيجابيات في المجتمعات الغربية
ولا بُدّ أن نعترف هنا بأنّ المجتمعات الغربية لها إيجابيات كبيرة لا تنكر، وعلى رأسها تمتعهم بقوانين تحترم حقوق الإنسان، وتعلي من قيمة المواطنة، وترحب باللاجئين. لذلك فالحوادث العنصرية التي تأخذ مكانها بين حين وآخر، يمكن اعتبارها في حكم الاستثناء، وغالبًا ما تأتي ضمن سياق ردود الفعل الآنية. كما تتحلى معظم النخب السياسية في تلك البلاد بروح المسؤولية العالية، لذلك نجدها تصرح باستمرار أنّها ليست بوارد محاربة الإسلام والمسلمين.
ورغم اعتقادنا بوقوع قدرٍ من المسؤولية على كاهل الحكومات الغربية في ظهور الجماعات الإرهابية في أوطاننا، وأنّ بعضها مدعوم على نحوٍ مباشر من تلك الحكومات، إلّا أنّه وعلى نحوٍ عام بقيت التصريحات الرسمية لكبار المسؤولين في تلك الدول إيجابية تجاه المسلمين. كما لا يمكن تجاهل الدفاع العادل عن المسلمين الذي اضطلعت به منظمات المجتمع المدني، وقطاع واسع من الرأي العام الغربي، المشبع بالتوجّهات الإنسانية والحقوقية، وقد تجلّى ذلك في العديد من الحوادث، ومنها مثلًا تلك التي تعرّضت خلالها امرأة مسلمة في مدينة ليون الفرنسية إلى الإساءة من قبل متطرف غربي في مكان عام، لينبري عندها غربيون آخرون للدفاع عن المرأة المسلمة والوقوف بوجه الشخص المسيء لها. وفي الوقت الذي ندين فيه بشدة تعرّض الجاليات الإسلامية في الغرب للمضايقة، إلّا أنّنا ندرك في الوقت نفسه مسؤولية التيارات العنفية في بلادنا عن وقوع هذه الأفعال والمضايقات.
الإسلام فوبيا والشيعة فوبيا
وهنا ينبغي الإشارة إلى مفارقة لافتة، فبعض المسلمين الذين يدينون ظاهرة التخويف من الإسلام "إسلام فوبيا"، هم أنفسهم يمارسون ما يمكن أن نسميها ظاهرة "الشيعة فوبيا". من خلال تخويف مكونات المجتمعات العربية والإسلامية من بعضها بعضًا، كالتخويف من المواطنين الشيعة وتخوينهم والإساءة إليهم، وهم جزء لا يتجزأ من نسيج الأمة، ومواطنون أصلاء في الكثير من البلدان الإسلامية.
واللافت أنّ تجلّيات ظاهرة "الشيعة فوبيا" تكاد تتطابق مع ظاهرة "الإسلام فوبيا" في الغرب، فإن كان بعض الغربيين يتهمون الإسلام بأنه دين إرهاب وعنف، فإنّ هناك في الداخل الإسلامي من يسعى لاتّهام عقائد الشيعة وتاريخهم ووصمهم بمختلف التّهم. ويفتعلون لهم صورة نمطية سيئة، وهنا ينبغي القول إنّ الشيعة كغيرهم من المجتمعات ليسوا مجتمعًا ملائكيًّا، وقد يصدر من بعضهم ما هو غير مقبول، تمامًا كما تصدر ذات الأفعال من غيرهم، لذا لا ينبغي أن يجري تكوين صورة نمطية عن جميع الشيعة وشيطنتهم.
واستطرادًا، لنا أن نسأل عن مبرر فرض العقوبات الجماعية على مجتمعات بأكملها انتقامًا من مواقف وأخطاء أفراد منهم؟ سيّما وقد بلغ مستوى الحملات الإعلامية والدينية حدًّا يهدّد المجتمع الشيعي بالخطر، وقد بات الأبرياء الشيعة في بلاد كثيرة، يدفعون ثمن هذا التشويه الإعلامي والديني من دمائهم وأرواحهم، من خلال استهدافهم في المساجد والحسينيات والأسواق وحافلات الركاب. نتيجة الحملات الجائرة التي استولت على المنابر الدينية والإعلامية فيما نطلق عليه "الشيعة فوبيا".
صراعات لا علاقة لها بالمذاهب
إنّ المنطقة العربية تعجُّ بصراعات سياسية محتدمة، لا شأن لها بالمعتقدات الدينية من قريب أو بعيد. فهناك صراعات سياسية قد تكون أطرافها شيعية وسنية، كما في العراق وسوريا ولبنان، فيما قد تكون أطراف الصراع سنية سنية في ساحات أخرى، كما في الصومال وليبيا والسودان، وبذلك لا شأن للمعتقدات الدينية في هذه الصراعات، إنّما مردّها إلى حالة التحول التي تمرّ بها المنطقة برمّتها، والتي يسعى خلالها كلّ مكوّن لضمان حصته ودوره السياسي في مستقبل المنطقة. لذلك لا نجد مبررًا لإعطاء الصراعات التي يشكل الشيعة طرفًا فيها صبغة مذهبية، وأغراضًا طائفية، ومن المثير ما صدر أخيرًا من الحكم بالسجن لسنتين والضرب 200 جلدة على شخص بتهمة مجالسة الشيعة، إنّ هذه الممارسات تؤلّب مكوّنات المجتمع بعضها على البعض الآخر، وتهدّد بتفجير النسيج الاجتماعي.
من هنا، لا بُدّ أن تتدخل الحكومات في كبح جماح حملات التخويف والتشويه التي تستهدف مكونات اجتماعية أصيلة. وذلك من خلال إقامة العدل والمساواة، وتحقيق مفهوم المواطنة، وقطع الطريق على مثل هذه الممارسات. وعلى رأس الإجراءات المطلوبة يأتي سنّ قانون تجريم العنصرية والطائفية. كما أنّ على الواعين من الكتّاب والخطباء والمثقفين، من مختلف التوجّهات، أن يرفعوا الصوت عاليًا ضدّ الممارسات التي تهدّد وحدة أوطاننا. وهنا لا يفوتنا أن نتوجّه بالتقدير لبعض الأقلام التي لعبت دورًا إيجابيًا على هذا الصّعيد، داعين إلى أن تكون هذه هي الحالة العامة وسط جميع الكتّاب والمثقفين.