الاحتياط في الدين بين حقوق الله وحقوق الناس
ورد عن أمير المؤمنين علي انه قال لكميل بن زياد: «أخوك دينك، فاحتط لدينك بما شئت»[1] .
تنقسم الأحكام الدينية إلى قسمين، قسم مرتبط بحقوق الله سبحانه وتعالى، وقسم آخر مرتبط بحقوق الناس. وذلك ما يدعو الإنسان المسلم لأن يكون محتاطًا في الجانبين، فكما هو مطالب بالاحتياط في الأمور المتعلقة بالله تعالى، فهو مدعو أيضًا للاحتياط في الأمور المرتبطة بعباد الله.
والاحتياط لغة؛ من الحِيطة أو الحَيْطة، ومعناه الحفظ والتعهد والرعاية، فإذا كان المرء مهتمًّا بشيء، ويحرص عليه، فإنه سيكون مهتمًّا برعايته وحفظه وصيانته.
ولأنّ الإنسان المسلم يهتم بدينه ويحرص على الالتزام به، فإنه مطالب بأن يحتاط في أمور الدين، أي أن يصون أمور الدين ويحفظها، فلا يفرّط ولا يتساهل في الالتزام بالأحكام الدينية، فقد ورد عن أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب في وصية وجّهها لكميل بن زياد النخعي، أنه قال: "يا كميل، أخوك دينك فاحتط لدينك بما شئت"[2] .
إنّ من مصاديق حقوق الله الالتزام بأداء العبادات المشروعة، من الصلاة والصيام والحج، وأن يؤدي الواجبات الشرعية فيما بينه وبين الله، وأن يتجنب المحرمات التي حرمها عليه، فيؤدي فرائض الله، كما أراد الله، دون أيّ خلل فيها أو نقص يعتريها، سواء كان ذلك في وضوئه وغسله أو صلاته وصومه، وكذلك سائر الفرائض والواجبات.
الوسوسة والهوس في العبادات
ورغم أنّ الاحتياط في أداء العبادات أمر مطلوب، إلّا أنّ المبالغة فيه تعدّ مسألة منبوذة قد ترقى إلى مخالفة أوامر الله تعالى. ذلك أنه تعالى يريد أن يُعبد كما يريد هو ويأمر، لا كما يشتهي الإنسان، فقد يذهب بعض الناس في احتياطاتهم الدينية إلى حدّ الهوس والوسوسة، وذلك سلوك منهي عنه شرعًا. فقد ورد عن عبد الله بن سنان، وهو من أصحاب الإمام الصادق ، أنه قال، ذكرت لأبي عبد الله رجلًا مبتلى بالوضوء والصلاة، وقلت هو رجل عاقل، فقال الإمام الصادق : "وأيّ عقلٍ له وهو يطيع الشيطان"[3] ، وبذلك اعتبر الإمام الوسوسة في الوضوء والصلاة بمنزلة الطاعة للشيطان. وروي عنه أنه قال: "لا تعوّدوا الخبيث من أنفسكم بنقض الصلاة فتطمّعوه، فإنّ الشيطان خبيث يعتاد لما عوّد، فليمضِ أحدكم في الوهم، ولا يكثرنّ نقض الصلاة، فإنه إذا فعل ذلك مرات لم يعد إليه الشك، قال زرارة ثم قال: إنما يريد الخبيث أن يطاع، فإذا عصي لم يعد إلى أحدكم"[4] .
من هنا، ينبغي للمسلم ألّا ينقض صلاته بدواعي التوهم في سلامة تكبيرة الاحرام مثلًا، فليمضِ في صلاته دون الالتفات لتلك الوسوسة، حتى لا يعطي الشيطان فرصة التمكن منه. وفي القواعد الثابتة في الفقه: أنّ كثير الشك لا يعتني بشكّه. وبذلك يكون الاحتياط في المسائل العبادية أمرًا مطلوبًا وفق الحدود المعقولة، التي تفيد الاطمئنان بأداء الواجبات الشرعية تجاه الله دونما تقصير أو مبالغة.
الاحتياط الأهمّ في حقوق الناس
ومع أهمية الاحتياط فيما يرتبط بعبادة الله، إلّا أنّ حقوق الناس أولى بالرعاية، وأكثر أهمية عند الله جلّ شأنه. وقد تواترت في هذا الشأن كثير من النصوص الدينية، التي تشير إلى أنّ الله تعالى سريع التجاوز عن الحقوق المرتبطة به سبحانه، فلو اعترى عبادات الإنسان بعض الخلل، فإنّ الله سبحانه قد يغفر له ذلك، إلّا أنّ حقوق الناس لها شأن آخر، فلا يمكن أن يغفر سبحانه وتعالى لمن يتجاوز على حقوق الآخرين، ما لم يغفر له أصحاب الحقّ أنفسهم. من هنا تغدو حقوق الناس أجدر بالاحتياط وأولى بالمراعاة، دون أن يعني ذلك التساهل في حقوق الله.
ولعلّ مما يؤسف عليه، الاهتمام بالاحتياط لدى بعض الأوساط الدينية حيال أمر العبادات، من قبيل التزام الدقة المتناهية في دخول أوقات الصلاة، أو الاحتياط المتشدّد في الإمساك عن الطعام مسبقًا في فجر رمضان، وكذلك الحال وقت الإفطار، فلا يتناول الطعام إلّا بعد غروب الشمس وزوال الحمرة المشرقية، لكنهم يتساهلون في احترام حقوق الناس.
الدماء خطّ أحمر
وهناك مظاهر عديدة لحقوق الناس التي هي الأولى بالمراعاة، والأشدّ حاجة لالتزام الاحتياط حيالها.
ويأتي في الطليعة من ذلك؛ الاحتياط في الدماء، فقد ورد عن رسول الله أنه قال: "لن يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دمًا حرامًا"[5] ، فقتل إنسان أمر عظيم عند الله تعالى، وسفك الدماء خط أحمر، لا يمكن أن يُتسامح فيها أبدًا. وجاء في حديث آخر عن النبي أنه قال: "أول ما يقضى بين الناس في القيامة الدماء"[6] ، وقال : "لا يحولنّ بين أحدكم وبين الجنة وهو ينظر إلى أبوابها ملء كفٍّ من دم أهراقه ظلمًا"[7] ، وجاء عنه أنه قال: "من شرك في دم حرام بشطر كلمة جاء يوم القيامة مكتوب بين عينيه آيس من رحمة الله"[8] ، فقد يأتي شطر الكلمة ذاك على شكل وشاية، أو تقرير كاذب، أو قول زور ضدّ إنسان دون وجه حقّ. وجاء في حديث عنه أنه قال: "لَزَوَالُ الدنيا أهونُ على اللهِ مِن قتلِ رجلٍ مسلمٍ"[9] .
من هنا، ورد القول في شأن القضاء والأحكام، أنّ الحدود تدرأ بالشبهات، وتلك قاعدة قضائية عند جميع المسلمين، بحيث لو وردت شبهة مهما كانت ضئيلة حول عدم استحقاق إقامة الحدّ على إنسان، فلا بُدّ وأن تدرأ هذه الشبهة إقامة الحدّ، فقد جاء عن رسول الله أنه قال: "ادْرَؤوا الحدودَ عن المسلمِينَ ما استطعتُم ، فإن كان له مَخرجٌ فخَلُّوا سبيلَه ، فإنَّ الإمامَ أن يُخطِئَ في العَفْوِ، خيرٌ من أن يُخطِئَ في العُقوبةِ"[10] ، وقد تقرّر في الفقه لزوم سقوط الحدّ بسقوط الإقرار بالذنب والتراجع عنه، فلو أن إنسانًا أقرّ على نفسه بفعل الزنى مثلًا، كان ذلك موجبًا لإقامة الحدّ عليه، إلّا أنّ إقامة الحدّ تبقى عرضة للسقوط متى ما تراجع عن إقراره ذاك، فالحدود المتعلقة بالتعدي على حقوق الله تسقط بالتراجع عن الإقرار بارتكابها. كلّ ذلك لبيان عظم حرمة الإنسان.
إنّ مما يؤسف عليه في بلاد المسلمين، أنّ من يحتاطون بشدة في إقامة الصلاة في وقتها، وأداء الصوم بضوابطه، ويرهقون أنفسهم في إثبات ظهور الهلال تبعًا لأصحّ الأقوال عندهم، ليس عند هؤلاء أنفسهم ما يوازي ذلك حيال رعاية دماء الناس والاحتياط فيها. فقد باتت تسفك دماء الناس لأتفه الأسباب، فأين غاب الاحتياط في هذا المجال.
الاحتياط في أموال الناس
أما المظهر الثاني فهو التصرف في أموال الناس. حيث يتفق أحيانًا أن تجد بعض المتشددين في أمر العبادات، لا يعيرون اهتمامًا لأموال الناس، فلا يتردد أحدهم في أخذ الرشا، ولا يتورّع عن أكل أموال الناس بالباطل، من مسروق ومغصوب، ولا يرعوي عن التصرف في ممتلكات الآخرين، ولا يأبه بردّ الديون لأصحابها، فأين غاب الاحتياط عن كلّ ذلك. لقد ورد عن رسول الله أنه قال: "لا يَحِلُّ مالُ امرِئٍ مسلِمٍ إلا بطيبِ نفسٍ منهُ"[11] ، وورد عن بعض أهل العلم في هذا الصدد، أنّ من أخجل أحدًا لأجل قبض مال منه، فأعطاه عن غير طيب منه، فلا يكون ذلك المال المقبوض حلالًا، وكما قيل: "المأخوذ حياءً كالمأخوذ غصبًا"، قاعدة شرعية مستفادة من الأحاديث الواردة عن النبي وعن أهل البيت : "لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس"، و﴿ لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ﴾، يعني لا يجوز أن تأكل مال أحد إلا إذا كان راضياً، هذا الذي يعطيك عن حياة فهو ليس راضياً، والذي يعطيك عن خوف فهو ليس راضياً.
وقد صرّح الشّافعيّة والحنابلة أنّه: إذا أخذ مال غيره بالحياء كأن يسأل غيره مالاً في ملأ فدفعه إليه بباعث الحياء فقط، أو أهدي إليه حياءً هديّةً يعلم المهدى له: أنّ المهدي أهدى إليه حياءً لم يملكه، ولا يحلّ له التّصرّف فيه، وإن لم يحصل طلب من الآخذ، فالمدار مجرّد العلم بأنّ صاحب المال دفعه إليه حياءً، ولا مروءةً، ولا لرغبة في خير، ومن هذا: لو جلس عند قوم يأكلون طعاماً، وسألوه أن يأكل معهم، وعلم أنّ ذلك لمجرّد حيائهم، لا يجوز له أكله من طعامهم، كما يحرم على الضّيف أن يقيم في بيت مضيفه مدّةً تزيد على مدّة الضّيافة الشّرعيّة وهي ثلاثة أيّام فيطعمه حياءً.
فللمأخوذ بالحياء حكم المغصوب، وعلى الآخذ ردّه، أو التّعويض عنه، ويجب أن يكون التّعويض بقيمة ما أخذ أو أكل من زادهم، وقال ابن الجوزيّ: هذا كلام حسن لأنّ المقاصد في العقود معتبرة[12] .
وقال السيد فضل الله: "وفي المسألة خلاف ونقاش بين الفقهاء".
وقد بلغ الأمر ببعض الناس أنّهم لا يراقبون الله في أموال اليتامى، مع أنّ الله تعالى يقول: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَىٰ ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا ۖ وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا﴾[سورة النساء، الآية: 10].
إنّ الاحتياط في أموال الناس أمر في غاية الأهمية، فلا يصحّ لمتديّن أن يتساهل في الديون والحقوق التي في ذمّته، كما هو حاصل في أموال الإرث وحقوق الورثة. فقد يُتوفى إنسان ويترك خلفه عيالًا وتركة معتبرة، يفترض أن يقوم عليها وصي يرعاها، من ابن كبير أو أخ، يكون وليًّا على الأبناء القاصرين، فيتساهل في أداء حقوق الورثة، ويستأثر لنفسه بأكثر مما يستحق، فيذهب حقّ الورثة هدرًا، سيما إذا كان الورثة نساءً أو قصّرًا، وليت هؤلاء يعلمون أنهم في يوم القيامة سيدفعون ثمنًا باهظًا لكلّ مثقال أكلوه من أموال الآخرين. وينسحب ذلك أيضًا على حقوق العمال، إذ إنّ للعامل أجره المستحق، قلّ أو كثر، فأيّما اعتداء على شيءٍ من حقّ العمّال، فذلك اعتداء سافر على أموال وحقوق الآخرين.
النيل من سمعة الناس وأعراضهم
ويتمثل المظهر الثالث، في حرمة أعراض الناس. فلكلّ إنسان حرمته وسمعته الشخصية، ومن الجرم العظيم التعريض بسمعة الآخرين، والإساءة لشخصياتهم. ومن دواعي الأسف أنّ بعض المتدينين الذين يظهرون حرصًا شديدًا في المسائل الشرعية، من حلال وحرام، لا تجد عندهم ذات القدر من الحرص عندما يتناولون الآخرين بألسنتهم، ولا يبالون في إلقاء القول على عواهنه في أعراض الناس، فما قيمة العبادات إذًا؟
إنّ ثمة نصوصًا كثيرةً تشدّد التأكيد على أنّ سائر العبادات من صلاة وصوم وغير ذلك، لا قيمة لها، وليست بوارد القبول عند الله سبحانه، إذا كان صاحبها متورّطًا في انتهاك أعراض الآخرين، متجاوزًا على حرماتهم، مسيئًا إلى سمعتهم. فقد جاء عن رسول الله أنه قال في خطبة الوداع: "أيّها الناس، إنّ دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا، إنّ الله حرّم الغيبة كما حرم المال والدم"[13] ، فالرسول يساوي حرمة الدماء والأموال بحرمة الأعراض. وورد عنه أنه قال: "من اغتاب مسلمًا أو مسلمة، لم يقبل الله صلاته ولا صيامه أربعين يومًا وليلة، إلّا أن يغفر له صاحبه"[14] ، ولنا أن نتخيل كيف للمرء أن يتعب نفسه في الصلاة والصوم فلا يقبل منه ذلك، ليس مرة ولا يومًا أو أسبوعًا، وإنما على مدى أربعين يومًا، لا لشيءٍ إلّا لأنه انتهك عرض إنسان آخر. وجاء عنه أنه قال: "من اغتاب مسلمًا في شهر رمضان لم يؤجر على صيامه"[15] .
الحذر والاحتياط الحقيقي
إنّ على الإنسان أن يكون شديد الحذر والاحتياط حيال حقوق الناس؛ دمائهم وأموالهم وأعراضهم. فهذا هو الاحتياط الحقيقي، وهنا يكمن الامتحان الفعلي للإنسان، فما قيمة الحج الذي يريد أن يؤدّيه المرء على أكمل وجه، وهو يزاحم الناس في الطواف على نحو فجّ، فيدفع هذا، ويضرب ذاك، أوَليست هذه الممارسات خلاف الاحتياط المدعى؟ إنّ استدراك الخلل في الطواف مثلاً أمر متيسر، بأن يتراجع بضع خطوات ثم يستأنف الطواف، أو أن يعيد الطواف فيما لو اضطر إلى ذلك، ولكن ما الذي يجبر كسر إنسان طاله الأذى وإيذاء الإنسان حرام؟
وكذا الحال مع الموظف المسؤول عن خدمة الناس في الدوائر العامة، حيث يترك عمله بحجة أداء الصلاة، و يستغرق وقتًا طويلًا خارج عمله، فإذا ما عاتبه المراجعون لطول انتظارهم، لم يتردّد في إسكاتهم بحجة انشغاله في الصلاة، وليته علم أنّ صلاته تلك إذا ما زاحمت مصالح المراجعين فإنّ فيها تضييعًا لحقوق الناس، سيما إذا كان هناك متسع من الوقت لأداء الصلاة فيما بعد، وحتى في حال الوقت المخصص لأداء الصلاة، لا ينبغي للمرء أن يسترسل في أداء النوافل والمستحبات، فيما الناس واقفون بانتظاره، وإنما يقتصر في ذلك على الواجب من الصلاة وحسب. إنّ الاهتمام بحقوق الناس أمر مطلوب في المقام الأول، والاحتياط الأهمّ يتمثل في مراعاة حقوق الناس.