معالجة الأزمات واطفاء الحرائق
﴿وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّـهُ بَيْنَهُمَا ۗ إِنَّ اللَّـهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا﴾[سورة النساء، الآية: 35]
تأخذ النزاعات الاجتماعية غالبًا طابع التمدّد، وتهدّد بالإضرار بالدوائر الأبعد عن محيطها الخاصّ. لذلك يحثّ الإسلام على تحمّل أقصى درجات المسؤولية حيال مختلف النزاعات الفردية والمجتمعية، ويرفض رفضًا قاطعًا الوقوف موقف المتفرج منها، ومردّ ذلك إلى أنّ أيّ مشكلة أو نزاع يأخذ مكانه في المجتمع، فإنه لن يبقى محصورًا في دائرته الخاصة، وإنما ينعكس سلبًا على المجتمع برمّته، ويتمدّد ضرره إلى حدود أبعد مما يُتصور.
إنّ المجتمع الرشيد هو الذي يحاصر مشاكله فور اندلاعها، ويشرع في معالجتها. بخلاف ما إذا جرى السكوت عن المشاكل، التي قد تبدو صغيرة تافهة في بدايتها، إلّا أنّها سرعان ما تتضخم وتتوسّع، عندما لا تجد من يسعى في حلّها منذ البداية. شأن ذلك شأن الحرائق، التي متى ما اندلعت في مكان ما، فإنّ على الجميع المبادرة لإخمادها فورًا، تفاديًا لتمدّدها إلى الأماكن المجاورة، وإلّا فإنّ ثمن إهمالها سيكون باهظًا.
من هنا، لا بُدّ وأن تكون في كلّ مجتمع ما يمكن أن نسمّيها فرق إطفاء الحرائق الاجتماعية.
الإصلاح بين الزوجين
لقد تناول القرآن الكريم مسألة الخلاف بين الزوجين باعتباره نموذجًا مصغّرًا، ينبغي أنْ تظهر معه المسؤولية الاجتماعية، باتجاه وضع حدٍّ للخلاف بينهما. ذلك أنّ الشرع يوجب على المجتمع أن يلعب دورًا في معالجة الخلافات العائلية، قال تعالى: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّـهُ بَيْنَهُمَا ۗ إِنَّ اللَّـهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا﴾[سورة النساء، الآية: 35]، وقد ذهب جمع من العلماء إلى أنّ الآية الكريمة تأخذ طابع الوجوب، أي إنّها توجب على المجتمع التدخل لمعالجة الخلاف بين الزوجين، ورفض موقف عدم المبالاة منه، ومردّ ذلك إلى الآثار السلبية التي يمكن أن يتركها هذا الخلاف، فالزوجان عضوان في المجتمع، والخلاف بينهما ينعكس سلبًا على نفسيتيهما وسلوكهما وإنتاجهما، كما يمكن أن يؤثر على تنشئة الأبناء، إضافة إلى إمكانية امتداد الخلاف إلى أُسرتي الزوجين، ناهيك عمّا يمكن أن يتركه من أثر سلبي على الأمن الأخلاقي للمجتمع، نتيجة التفكك الأسري، وانعكاس ذلك على السلوك الأخلاقي العام للزوجين.
لذلك لا يقبل الشرع أن يبقى المجتمع ساكتًا عن المشاكل الزوجية متفرّجًا عليها. والسبيل إلى المعالجة هو ما تقترحه الآية الكريمة في قوله تعالى: ﴿فَابْعَثُوا حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّـهُ بَيْنَهُمَا﴾، وقد ذهب مفسّرون إلى القول إنّ الأمر ﴿فَابْعَثُوا﴾ منوط بالحاكم الشرعي، فيما ذهب مفسّرون آخرون إلى اعتبار ذلك واجبًا كفائيًا على الواعين من أبناء المجتمع، في حين قال آخرون بأنّ مسؤولية ذلك تقع على عائلتي الزوجين. وتشير الآية بوضوح إلى أنّ أمر تحقيق الإصلاح يبقى مرهونًا بتوفّر الإرادة لدى الأطراف المعنية، سواء كان المقصود في الآية الزوجان أم الحكمان.
إرادة المصالحة:
وعلى نطاق أوسع، يمكن القول إنّ استحكام حالة التعنّت، وغياب الإرادة في الإصلاح، عند أطراف الخلاف، هو ما جعل ساحتنا الإسلامية ساحة احتراب، ومسرحًا للمشاكل الاجتماعية والسياسية.
إنّ المجتمعات الحيّة التي تنعم بالاستقرار والسلم، لم يتأتَّ لها ذلك لولا إيمانهم بأهمية السلم الاجتماعي أولًا، واحتكامهم لسيادة القانون ثانيًا، إضافة لوجود مؤسسات معزّزة للسلم المجتمعي، وذلك بخلاف الحال في مجتمعاتنا الإسلامية، التي أصبحت ساحة احتراب واضطراب، فلا يكاد يوجد بلد إلّا ويرزح تحت وطأة مختلف المشاكل. مع انتماء هذه الأمة للقرآن الكريم الذي يحمّل المجتمع كلّه المسؤولية عن محاصرة المشاكل ومعالجتها.
إنّ محاصرة المشاكل ومعالجتها أمر مرهون بتوفّر إرادة الصلح والإصلاح، كما يقول تعالى: ﴿إِن يُرِيدَا إِصْلَاحًا﴾، غير أنّ افتقاد الرشد، وغياب الوعي، غالبًا ما يقود إلى المكابرة، وتعنّت مختلف الأطراف المتنازعة تجاه بعضها بعضًا، لتتلاشى عندها أيّ إرادة للإصلاح.
هناك شروط ينبغي التوفر عليها في سبيل تحقيق إرادة الإصلاح، ومعالجة المشكلات الاجتماعية. ويأتي في الطليعة منها: الرجوع إلى العقل، وحساب الخسارة والربح في كلّ خطوة، فأيّما عاقلٍ أعمل عقله، فسيجد أنّ النزاع والشقاق لن يعود بالخير على أيّ طرف. إنّ أحد عوامل تسعير النزاعات، هو نزوع بعض الأطراف إلى التفكير غير العقلاني، ورهان كلّ طرف على حسم النزاع لمصلحته، على حساب منافسيه وخصومه، إنّ الساحة العالمية تشهد تداخلاً كبيرًا على صعيد إدارة الصراعات، فلم تعد الصراعات المحلية في أيّ مكان معزولة عن الخارج، وإنّما بات الصراع في أيّ منطقة عرضة لتدخل إرادات أخرى تساهم في تسعيره وتعميقه والاستثمار فيه، قال تعالى: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ﴾، ومن هؤلاء الشياطين؛ تجّار الحروب، ومصنّعو الأسلحة الفتاكة، الذين حققوا أرباحًا خيالية نتيجة الصراعات المستعرة في منطقتنا خلال هذه السنوات.
إنّ ما يعرف بكارتل صناعة السلاح، أسعد ما يكونون في حالات اندلاع الحروب والنزاعات، ولا يمكن أن يسمحوا لأحدٍ بالعمل على الحدّ من تجارتهم الفتاكة. ولعلّ أبرز مثال على ذلك النزاع بين الإدارة الأمريكية وكارتل صناعة السلاح في الولايات المتحدة، الذي له نفوذ قويّ في الكونغرس، فالرئيس يحمل شعار الحدّ من اقتناء الأسلحة الفردية داخل أمريكا؛ نظرًا لتفاقم حالات سوء استخدام السلاح هناك، غير أنّ ذلك يصطدم بصخرة الكونغرس الخاضع لكارتل صناعة السلاح.
إنّ أيّ تفكير عقلاني سيقود بطبيعة الحال إلى الاستنتاج بأنّ المستفيد الأول من تفاقم الخلافات في الساحة الإسلامية هم أعداء الأمة.
أما الشرط الثاني فهو التوازن النفسي عند الأطراف المتنازعة. حيث يفقد المتنازعون غالبًا توازنهم النفسي، لتفسح المجال لسيطرة العقد النفسية، وحالات حبّ الانتقام، والرغبة في أخذ الثأر من الطرف المقابل، فلا يعود حينها التفكير عقلانيًّا، إنّما يصبح المتنازعون تحت سيطرة العواطف والانفعالات، لتغيب عندها أيّ إرادة للإصلاح.
ويتمثل الشرط الأخير في توفر البيئة المشجّعة على الصلح وإقامة السلم. إنّ هناك في الأمم الواعية بيئة مجتمعية، وأرضية ثقافية، تدفع باتجاه المصالحة وتحقيق السلم، والرغبة في الاستقرار، وعلى النقيض من ذلك في مجتمعاتنا الإسلامية. لدينا بيئة حاضنة للاحتراب، تدفع باتجاه النزاع، تارة تحت عناوين دينية، وأخرى بصفتها امتدادًا لصراعات التاريخ.
الخروج من مأزق الاحتراب
إنّ ديننا الإسلامي يوجب أن نكون جميعًا دعاة أمن وسلم واستقرار. وهذا لن يتأتى ما لم تكن الأطراف المختلفة مستعدة لتقديم التنازلات المتبادلة، فإذا ما توفر هذا الاستعداد، ومن ثم التوجّه نحو معالجة الجذور الباعثة على اندلاع المشاكل، فإنّ من الممكن تحقيق حالة الصلح والاستقرار في مجتمعاتنا. بخلاف ما إذا أصرَّ كلّ طرف على اخضاع الطرف الآخر، فذلك ما يجعل من مهمّة تحقيق الاستقرار مهمة عسيرة.
لقد تسببت حالات الاحتراب القائمة في مجتمعاتنا في تداعيات مؤلمة كبيرة. فقد تعطّلت التنمية، واستهلكت الثروات، وعبئت النفوس على بعضها بعضًا، وخُلقت الاصطفافات وحالات التخندق تحت مختلف العناوين، وفقدت الأوطان الإسلامية أمنها واستقرارها، وباتت تُسفك الدماء في شوارعها على مدار الساعة، فإلى متى تستمر هذه الحالة المدمرة؟ وأين ذهب عقلاء الأمة؟ ولمَ غابت المؤسسات التي يفترض بها تقديم مبادرات الصلح والسلام، أوليس هذا الجهد التصالحي منوط بمبادرات من منظمة التعاون الإسلامي، التي تبدو الأمة اليوم أحوج ما تكون لدورها ومبادراتها؟
إنّ على منظمة التعاون الإسلامي أن تتحرك من أجل إطفاء الحرائق بين الدول الإسلامية، وبين الشعوب والحكومات، وبين الطوائف وأتباع المذاهب. وعلى هذا النحو ينبغي أن يتحرّك علماء الدين والمفكرون والواعون. ولا شك أنّ المهمة ستكون شاقة نتيجة وقوع المصلحين دائمًا بين المطرقة والسندان، فكلّ طرف يضغط عليهم بوسائله الخاصة، حتى يصطفوا معه ويكونوا إلى جانبه، لكن هذه المشقة والصعوبة لا تسقط الواجب عن عاتق الواعين الغيارى على مصالح الأمة ومستقبل شعوبها.