الاقتصاد في العبادة
روي عن الإمام جعفر الصادق أنه قال: "اجتهدت في العبادة وأنا شابّ، فقال لي أبي: يا بني، دون ما أراك تصنع، فإنّ الله عزّ وجلّ إذا أحبّ عبدًا رضي عنه باليسير"[1] .
يمثل الدين منظومة من القيم والمفاهيم التي يؤمن بها الإنسان ويسيّر حياته على هديها. أما العبادات، من الصلاة والصوم والحج وغير ذلك، فهي جزء من الدين، شرعها الله لتذكير الإنسان بعبوديته للخالق، وتدريبه على الخضوع لأوامره. فالعبادات لا تلخّص الدين، ولا يتقوّم بها وحدها، فالصلاة مثلًا، وإن كانت عمود الدين كما في الحديث عن رسول الله أنه قال: "الصلاة عمود الدين"[2] ، لكن توفّر العمود فقط لا يمثل قيمة بحد ذاته، فأية قيمة تذكر لوجود عمود في الصحراء دونما بناء حوله أو خيمة فوقه؟ وكذلك الصلاة، التي ينبغي أن تكون أساسًا لبناء القيم، وتشكيل السلوك، واعتناق المفاهيم، ودون ذلك لا قيمة لها.
إنّ الدين منهج لحياة أفضل، قال تعالى: ﴿إِنَّ هَـٰذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾، ويقول تعالى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً﴾ [سورة النحل، الآية:97]، وقال سبحانه: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾ [سورة الحديد، الآية: 25]. وبذلك يغدو غرض الدين الأساس هو أن يهتدي الناس للتي أقوم، وأن يعيشوا الحياة الطيبة، في ظلّ إقامة العدل والقسط بين الناس.
للعبادات أهداف
وبالرغم من كون العبادات، فرائض ونوافل، تمثل جزءًا لا يتجزأ من الدين، إلّا أنّ هناك مشكلتين تعتري المجتمعات الدينية حيال أمر العبادات.
المشكلة الأولى: هي إغفال الهدف من العبادات، فهناك مجتمعات تمتثل للعبادة بصورة شكلية، إلّا أنّها تغفل عن الهدف من وراء تلك العبادة، ومن ذلك على سبيل المثال، ما جاء في القرآن الكريم من أمر الصلاة، حيث يقول تعالى: ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ﴾ [سورة العنكبوت، الآية: 45]، ذلك أنّ مقتضى إقامة الصلاة وفقًا للآية الكريمة، الانتهاء عن فعل الفحشاء والمنكر، لذلك لا يغدو للصلاة قيمة، متى ما التزم الإنسان بها، وأغفل الهدف الذي شرعت من أجله. من هنا تأتي إشارة الإمام الصادق إلى ضرورة انعكاس العبادة على سلوك الإنسان، فإن لم يتحقق ذلك، فلا قيمة لتلك العبادة، قال : "لا تغتروا بصلاتهم ولا بصيامهم، فإنّ الرجل ربما لهج بالصلاة والصوم، حتى لو تركه استوحش، ولكن اختبروهم عند صدق الحديث وأداء الأمانة"[3] ، النصوص الدينية تؤكّد أنّ للعبادات هدفًا ينبغي أن يتحقق من أدائها والالتزام بها، ودون ذلك لا قيمة لها.
إنّ من الملاحظ أنّ هناك وفرة في إقامة العبادات لدى المجتمعات الدينية، وسط غياب للأهداف المرجوة منها. ويتضح ذلك من خلال كثرة المساجد، وإقامة الصلوات، وأداء الصيام، والإقبال على الحج والزيارة، إلّا أنّه في مقابل ذلك، لا أثر واضحًا للأهداف المرجوة من تلك العبادات، مما يشير إلى وجود خلل متمثل في أنّ الوسيلة لا توصل إلى الهدف الذي شرّعت من أجله.
وقد نشر باحثون في جامعة جورج واشنطن مؤخّرًا بحثًا مهمًّا، شارك فيه أكاديميون مسلمون يعيشون في الولايات المتحدة، وقد درس هؤلاء الباحثون دساتير أكثر من 218 دولة من دول العالم، على ضوء أسس الحكم الرشيد، وإدارة الاقتصاد، وتعاملاتها مع مواطنيها، وقارنوا محصلة ذلك مع 112 مبدأً إسلاميًّا مستمدًا من الكتاب والسنة، في الاقتصاد والحياة العامة، وأبرزها العدالة وتوزيع الثروة، والحريات العامة، وكان الغرض من ذلك، معرفة أفضل الدول التزامًا بهذه المبادئ الإسلامية، فتوصل الباحثون إلى نتائج مذهلة، وأبرزها أنّ الدول الإسلامية لم تحتل المراتب الأولى في الالتزام بمبادئ القرآن الكريم، سيّما في مجالات العدالة والحريات وإقامة الحياة الطيبة، مع أنّها مبادئ مرتبطة بصميم العقيدة الإسلامية، في مقابل ذلك وجد هؤلاء الباحثون أنّ دولًا غير إسلامية، مثل إيرلندا والدنمارك ولوكسمبورغ، جاءت جميعها على رأس قائمة الدول الأكثر التزامًا بالمبادئ الإسلامية، في مجالات العدالة والحريات وإقامة الحياة الطيبة!.
واحتلت المراتب الأولى الـ 21 دول غير إسلامية، وجاءت ماليزيا في المرتبة 22 كأول دولة إسلامية في القائمة!، في حين احتلت اسرائيل المرتبة 27 متقدمة على جميع الدول الإسلامية الأخرى، وجاءت الكويت في المرتبة 50، وتونس في المرتبة 72، والسعودية في المرتبة 91، فيما جاءت مصر في المرتبة 128، والمغرب 130[4] . وهذا ما ينبغي أن يدعونا لإجراء مراجعة جدّية حول تطبيقات المبادئ الإسلامية في مجتمعاتنا، ومدى تحقق أهدافها وانعكاسها على أنماط وسبل حياتنا. إنّ هدف العبادات تركيز القيم، ولا ينبغي للمتديّنين أن يكتفوا بالعبادات ويغفلوا عن القيم والأهداف التي شرّعت من أجلها.
تضخّم العبادات
أما المشكلة الثانية: فهي تضخّم العبادات، على حساب المهام والوظائف الأخرى. لدرجة يكاد يكون فيها الإنسان، وفق ذهنية بعض الأوساط الدينية، مخلوقًا للصلاة والصيام، بمعزل عن أيّ عمل آخر، بل ويذهبون بعيدًا في المنافحة عن هذه النظرة، بالاستشهاد بالآية الكريمة في قوله تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾، وليتهم علموا أن العبادة الواردة في الآية الكريمة، جاءت في عموم الطاعة لأوامر الله تعالى في مختلف مجالات الحياة، لا في خصوص أداء الفرائض والنوافل وحسب، تلك الطاعة التي ينبغي أن تشكل منظومة حياة كاملة.
وقد تأتي حالة التضخم في العبادات على المستوى الفردي، وأحيانًا تصبح ظاهرة اجتماعية، فقد يندفع الشاب دينيًّا فيقبل على العبادات والشعائر الدينية بحماس شديد، في حين قد تمرّ بالمجتمعات حالات من الحماس الديني، وخاصة حين تعيش تلك المجتمعات صراعًا على الهوية الدينية، ما ينتج عنه حالة من الاندفاع والإقبال الشديد، إلى حدّ التضخم في إظهار الجوانب العبادية والشعائرية، على حساب المهام الأخرى، وهذا ما قد يؤدي إلى مفعول سلبي نتيجة الإفراط، جريًا على المثل القائل: "كلّ شيء زاد عن حدّه، انقلب إلى ضدّه".
وفي هذا السياق، ينبغي الإشارة إلى باب في مصادر الحديث المعتمدة عند المسلمين، ككتاب "الكافي" و "بحار الأنوار" عند الشيعة وكتاب "رياض الصالحين" عند السنة، وعنوان هذا الباب؛ الاقتصاد في العبادة، ولكن قلّما سلّطت عليه الأضواء، وفحواه الحثّ على النأي عن الزيادة في العبادة وترك المبالغة فيها. والمشكلة أنّ مجرّد الحديث عن هذا الموضوع، أي الاقتصاد في العبادة، بات سببًا للاتّهام من قبل المزايدين في الدين، بزعمهم أنّ المتحدث في هذا الشأن يناكف الدين، ويقف بالضدّ من الشعائر، ويضرب العقيدة، ويحارب المذهب، في إغفال تامّ إلى أنّ النبي وأئمة أهل البيت هم أول من حثّ على الاقتصاد في العبادة، استنادًا إلى دعوة الدين إلى التوازن، وجعل الأمور العبادية في مقاديرها الطبيعية، وليس على حساب باقي المهام.
وقد ورد في شأن الاقتصاد في العبادة عدد من النصوص الدينية. ومن ذلك ما ورد أنّ عابدًا كان على عهد رسول الله ، دائم الاشتغال بالعبادة من الصلاة والصوم وقراءة القرآن في ليله ونهاره، فسأل رسول الله عمّن ينفق على هذا العابد، قالوا يا رسول الله ينفق عليه أخوه، فقال : "أخوه خير منه"[5] ، ومعنى ذلك أنه يرى أنّ الرجل العامل السّاعي في سبيل الرزق، هو خير وأفضل من ذلك المتفرغ للعبادة فيما ينفق عليه غيره. وجاء عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب في وصية لنجله الحسن أنه قال: "واقتصد يا بني في معيشتك، واقتصد في عبادتك"[6] ، في دعوة صريحة منه إلى أن تكون العبادة متوازنة. وفي رواية عن الإمام الباقر أنه قال: "قال رسول الله : إنّ هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق، ولا تكرهوا عبادة الله إلى عباد الله، فتكونوا كالراكب المنبت الذي لا سفرًا قطع ولا ظهرًا أبقى"[7] .
المبالغة وردّات الفعل
إنّ المبالغة في العبادة ربما قادت إلى ردود فعل معاكسة. ومما وورد في هذا الشأن عن الإمام الصادق أنه قال مخاطبًا تلميذه: ".. سأضرب لك مثلًا إنّ رجلًا كان له جار وكان نصرانيًّا فدعاه إلى الاسلام وزيّنه له فأجابه فأتاه سحيرًا فقرع عليه الباب فقال له: من هذا؟ قال: أنا فلان قال: وما حاجتك؟ فقال: توضأ والبس ثوبيك ومر بنا إلى الصلاة قال: فتوضأ ولبس ثوبيه وخرج معه، قال: فصلّيا ما شاء الله ثم صلّيا الفجر ثم مكثا حتى أصبحا، فقام الذي كان نصرانيًّا يريد منزله، فقال له الرجل: أين تذهب؟ النهار قصير والذي بينك وبين الظهر قليل؟ قال: فجلس معه إلى أن صلّى الظهر، ثم قال: وما بين الظهر والعصر قليل فاحتبسه حتى صلّى العصر، قال. ثم قام وأراد أن ينصرف إلى منزله فقال له: إن هذا آخر النهار وأقل من أوله فاحتبسه حتى صلّى المغرب ثم أراد أن ينصرف إلى منزله فقال له: إنّما بقيت صلاة واحدة قال: فمكث حتى صلّى العشاء الآخرة ثم تفرّقا فلما كان سحيرًا غدًا عليه فضرب عليه الباب فقال: من هذا؟ قال: أنا فلان، قال: وما حاجتك؟
قال: توضأ والبس ثوبيك واخرج بنا فصلّ، قال: اطلب لهذا الدين من هو أفرغ مني وأنا إنسان مسكين وعليَّ عيال، فقال أبو عبد الله (عليه السلام): أدخله في شيءٍ أخرجه منه"[8] .
وعلى هذا النحو ورد عدد من النصوص الحاثة على الاقتصاد في العبادة، والتحذير من المبالغة فيها. وذلك ما يدعو إلى التزام أقصى درجات التوازن في حثّ الأبناء على الدين، فلا نحمّلهم فوق طاقتهم، ولا نضخم في أعينهم القضايا العبادية والشعائرية، فقد يتقبّل الشابّ ذلك في ذروة حماسه واندفاعه الديني، لكن ربما انقلب ذلك إلى ردّ فعل سلبي مع تلاشي ذلك الحماس.
فقد ورد عن أم المؤمنين عائشة أنها قالت: إنّ النبي دخل عليها وعندها امرأة، فقال من هذه، قالت هذه فلانة، تكثر من صلاتها..، فقال فيما يشبه الزجر: "مَه عليْكم بما تطيقونَ فواللَّهِ لاَ يملُّ اللَّهُ عزَّ وجلَّ حتَّى تملُّوا، ولَكنَّ أحبَّ الدِّينِ إليْهِ ما داومَ عليْهِ صاحبُهُ"[9] . وروي أنه "جاء ثلاثُ رهطٍ إلى بُيوتِ أزواجِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، يَسأَلونَ عن عبادةِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فلما أُخبِروا كأنهم تَقالُّوها، فقالوا: أين نحن منَ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؟ قد غفَر اللهُ له ما تقدَّم من ذَنْبِه وما تأخَّر، قال أحدُهم: أما أنا فإني أُصلِّي الليلَ أبدًا، وقال آخَرُ: أنا أصومُ الدهرَ ولا أُفطِرُ، وقال آخَرُ: أنا أعتزِلُ النساءَ فلا أتزوَّجُ أبدًا، فجاء رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقال: (أنتمُ الذين قلتُم كذا وكذا؟ أما واللهِ إني لأخشاكم للهِ وأتقاكم له، لكني أصومُ وأُفطِرُ، وأُصلِّي وأرقُدُ، وأتزوَّجُ النساءَ، فمَن رغِب عن سُنَّتي فليس مني)[10] .
إنّ جميع ما سبق لا يعني التقليل من شأن العبادة أو الالتزام بالشعائر الدينية. وإنّما المقصود منه لفت النظر إلى أنّ للعبادات أهدافًا في الحياة، ينبغي ألّا نغفل عنها، وأن يكون هناك توازن في التوجه نحو هذه العبادات والشعائر، حتى لا تكون على حساب المهام الأخرى، من العمل وطلب الرزق، وخدمة الناس، والبحث العلمي، وإعمار الأرض، فهذه كلّها مصادر للأجر والثواب الإلهي، تضاهي الثواب المتأتي من سائر العبادات. فلا بدّ أن تتحلى المجتمعات بالتوازن في الفهم الديني من جهة، والسلوك العملي من جهة أخرى، فقد جاء عن أبي عبد الله جعفر الصادق أنه قال: "اجتهدت في العبادة وأنا شابّ، فقال لي أبي: يا بني دون ما أراك تصنع، فإنّ الله عزّ وجلّ إذا أحبّ عبدًا رضي عنه باليسير".