تنمية الدخل وترشيد الإنفاق
﴿لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ ۖ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّـهُ ۚ لَا يُكَلِّفُ اللَّـهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا ۚ سَيَجْعَلُ اللَّـهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا﴾[سورة الطلاق، الآية: 7]
يترك الوضع الاقتصادي الشخصي تأثيره الكبير على حياة الإنسان. ذلك أنّه متى توفّرت للمرء القدرة المالية، فإنّ حياته ستكون أفضل، من حيث تلبية احتياجاته، والتمكّن من الترفيه عن نفسه وعن عائلته، إلى جانب تعزيز وضعه الاجتماعي. وعلى النقيض من ذلك، إذا انخفضت القدرة المالية عند الفرد، وأصبح يعيش ضغطًا اقتصاديًّا، فإنّ ذلك ينعكس سلبيًّا على وضعه النفسي، وحياته العائلية، ومكانته الاجتماعية، وهذا من الوضوح بحيث لا يحتاج إلى أمثلة وشواهد.
ويعتمد تحسّن الوضع الاقتصادي للفرد على أمرين؛ توفير الدخل الكافي، والتدبير المناسب في المعيشة، حيث يمثل توفّر المال ركنًا مهمًّا، فيما يمثل حسن الإدارة للمعيشة الركن الآخر. فلا ملازمة بين توفير الدخل المالي الجيّد، وبين تحقيق الحياة الطيبة، بقدر ما أنّ ذلك مشروط بحسن الإدارة للدخل المالي.
زيادة الدخل
ينبغي التأكيد على أهمية أن يرفع الفرد من دخله المالي ما استطاع إلى ذلك سبيلًا. فلا ينبغي أن يكتفي بدخل محدود، بل عليه أن يجتهد ويسعى لتوفير القدر الأكبر من الدخل، فذلك ما يشجّع عليه الإسلام، فقد ورد في الحديث عن رسول الله أنّه قال: "إنّ الله تعالى يحب أن يرى عبده تعبًا في طلب الحلال"[1] ، قد يكون مفهومًا أن يصطدم المرء بانعدام فرص العمل أو محدوديتها، لكن ما هو غير مفهوم، أن تأتي محدودية الدخل نتيجة الكسل والميل للدعة والراحة، في ظلّ وجود فرص قائمة، وهذا خطأ كبير، ذلك أنّ الراحة الحقيقية لا تتأتّى إلّا من خلال الكدح والحركة الدؤوبة، بينما السكون وقلة الحركة سبب رئيس للأمراض الجسمية، وعامل أساس للمشاكل النفسية.
من هنا ينبغي للإنسان أن يواصل الكدح والعمل دون أن يقيد نفسه بعمر معيّن، وبصرف النظر عن النظم المستحدثة من قبيل نظام التقاعد عن العمل، التي جاءت ضمن سياق العمل الوظيفي، والتطورات التي فرضتها النظم الاقتصادية، فلا ينبغي أن يبقى بلا عمل يشغل وقته، ويزيد من نشاطه وحركته.
مجالات العمل المختلفة
على الإنسان أن ينخرط ضمن مجالات العمل المختلفة، في سبيل تحسين وضعه الاقتصادي، ومضاعفة دخله المالي. وهذا ما يجعلنا نشيد ببعض الشباب، الذين لم تمنعهم الوظيفة الحكومية ذات الدخل المحدود، من البحث عن فرص عمل إضافية، والانخراط في أعمال أخرى، على النقيض من البعض الآخر، الذين لا يبخلون في سرد الأعذار تبريرًا لتقاعسهم، وكأنّهم ينتظرون أن تذلّل جميع العقبات أمامهم، وأن يكون الطريق مفروشًا أمامهم بالورود.
لقد سطّر أئمة أهل البيت أمثلة حيّة للكدّ والسعي في سبيل الرزق الحلال. فقد ورد عن محمد بن علي بن الحسين أنّه قال: "كان أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب "يخرج في الهاجرة، في الحاجة قد كُفيها، يريد أن يراه الله يتعب نفسه في طلب الحلال"[2] ، أي إنّه كان يخرج للعمل وقت الظهيرة والشمس الحارقة، ولم يكن مضطرًا إلى ذلك.
وليس صحيحًا الاعتقاد الشّائع عند بعض الميسورين من الناس، من أن توفّرهم على المال الكافي يعفيهم عن المزيد من العمل، ويوفّر عليهم عناء مضاعفة الدخل، بل ينبغي لهؤلاء ألّا يستنكفوا عن زيادة الخير الذي بحوزتهم. وقد روي عن الإمام الصادق أنه رأى أحد أصحابه جالسًا عنده في المجلس، فسأله عن سبب عدم نزوله إلى السوق واشتغاله بالتجارة كما هو معروف عنه؟ فأجاب الرجل قائلًا: "... عندي مال كثير. وهو في يدي، وليس لأحدٍ عليَّ شيء، ولا أراني آكله حتى أموت، فقال : لا تتركها فإنّ تركها مذهبة للعقل"[3] . وجاء في رواية أخرى أنّ الإمام قال له: "اُغدُ إلى عزّك"[4] . حيث إنّ الخمول والإحجام عن العمل والحركة مدعاة لضياع الخبرة، ولا يعوّض عنه مواظبة الرجل على حضور مجلس الإمام.
بل إنّ الإمام الصادق يقدّم نفسه أنموذجًا على هذا الصّعيد، حيث ورد عنه أنه قال: "إنّي لأعمل في بعض ضياعي حتى أعرق وإنّ لي من يكفيني، ليعلم الله عزّ وجلّ أنّي أطلب الرزق الحلال"[5] ، وبذلك تكون الاستطاعة مدار الاستمرار في العمل وطلب الرزق، لا مجرّد الاستجابة لعنصر الحاجة، فمتى ما توفّرت الاستطاعة فإنّ على المرء البحث عن العمل الذي يتناسب وقدراته، سيّما وقد ساهم التطور التكنلوجي في توفير أعمال يمكن تأديتها عن بعد ومن خلال الإنترنت، التي أثرى من خلالها كثيرون.
حسن الإدارة والتدبير
إنّ هناك صنفًا من الناس بعيدون عن التفكير في الموازنة بين دخلهم المالي ومستوى الإنفاق، إنّ أكثر العائلات لا تضع ميزانية تراعي التوازن بين الدخل والصرف، ويجري من خلالها تحديد مقدار الصرف على كلّ بندٍ من بنود المعيشة، من المأكل والمشرب، والملابس والمواصلات والترفيه، حيث تجتاح مجتمعاتنا نزعة استهلاكية شرهة، هي المسؤولة عن سوء الأوضاع الاقتصادية لدى كثير من العائلات، فبعض الناس يذهب إلى السوق دونما هدف محدّد، على أمل أن يرى شيئًا يشتريه!، هكذا تحوّل التسوق إلى هواية ومتعة!.
إنّنا مدعوون إلى إعادة النظر في كثير من عادات الاستهلاك في مجتمعاتنا. خاصة وأنّ بلادنا مقبلة على ظروف اقتصادية صعبة، دفعت حكومات المنطقة إلى إعادة النظر في ميزانياتها وترتيب أولوياتها، نتيجة انهيار أسعار النفط، المورد الاقتصادي الأساس، إلى جانب اشتعال المنطقة بالحروب المدمّرة، التي استنزفت ثروات الشعوب، لصالح صفقات السلاح، والإنفاق السّخي لاستقطاب الحلفاء، ناهيك عن التضخّم الاقتصادي القائم.
إنّ هذه العوامل بأجمعها تفرض على كلّ مواطن أن يعيد النظر في نفقاته المالية، فليس صحيحًا أن يبقى مستوى إنفاق الأسرة اليوم، على ذات القدر الذي كان عليه في الماضي، حين كان الوضع الاقتصادي مختلفًا، فقد تضاعفت الرسوم الحكومية، وزادت أسعار السلع والخدمات، من ماء وكهرباء ووقود، وهذا ما يستوجب ترشيد الإنفاق تبعًا للظروف القائمة، وليس من المعيب أن تجري العائلات إعادة النظر في مستوى الإنفاق، وإنّما الخطأ هو إغفال هذا الأمر. وينبغي أن يجتمع كلّ ربّ أسرة مع أفراد عائلته، ويطلعهم على المستجدات الاقتصادية، التي تستوجب الترشيد، والحدّ من الإنفاق.
وهناك منهج قرآني واضح لإدارة الإنفاق وتدبير المعيشة. حيث يقول تعالى: ﴿لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ ۖ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّـهُ ۚ لَا يُكَلِّفُ اللَّـهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا ۚ سَيَجْعَلُ اللَّـهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا﴾، إنّ مدار الإنفاق يقوم على مدى توفّر القدرة المالية، فمتى ما توفّر المال فلينفق المرء بالحسنى، أمّا إذا ضعفت القدرة المالية، فينبغي أن يأخذ ذلك بعين الاعتبار، حتى إذا تحسّنت الظروف، وعبرت المنطقة الأزمة الاقتصادية، فلكلّ حادث حديث. وقد ورد عن أمير المؤمنين أنّه قال: "صلاح العيش التدبير"[6] ، وجاء عنه أنّه قال: "القليل مع التدبير أبقى مع الكثير مع التبذير"[7] .
عادات اجتماعية ضاغطة
وتشكل العادات الاجتماعية عاملًا ضاغطًا حيال مسائل الإنفاق، إلّا أنّ ذلك لا يُشكّل مبررًا كافيًا للانسياق أو التأثر بالعادات والأعراف السائدة، إذا كانت زائدة عن الحدّ المعقول.
في دراسة نشرتها صحيفة "الاقتصادية"[8] ، ذكرت أنّ 64 بالمئة من الشباب السعوديين يعزفون عن الزواج بسبب التكاليف الباهظة، بينما يشتكي المجتمع من تزايد حالات العنوسة، وتأخّر سنّ الزواج، أولسنا نحن الذين زدنا مسألة الزواج تعقيدًا، وجعلنا منه عملية مرهقة؟ وأضافت الدراسة أنّ 37 بالمئة من تكاليف الزواج تذهب لتغطية استئجار القاعة التي يقام فيها العرس، ناهيك عن العادات والأعراف المستجدة التي تتزايد بين حين وآخر، فلم يعد يُكتفى باحتفال واحد يقام ليلة العرس، بل صار لعقد القرآن احتفاله الخاصّ أيضًا، ولم يَبْقَ إلّا أن يقيم البعض احتفالاً خاصًا ساعة يفكّر بالزواج!، ليدعو الناس لحضور حفلة اتّخاذه قرار الزواج!
إنّ العادات المكلفة ماليًّا ربما لا تشكل عائقًا أمام المقتدرين، إلّا أنّها تمثل ورطة وعبئًا يُرهق غير المقتدرين. فقد يقول المقتدرون إنّ عندهم خيرًا ويرغبون في عقد أكثر من احتفال بمناسبة زواج ابنهم أو ابنتهم، ولهم أن يفعلوا ذلك إذا توقف الأمر عندهم، غير أنّ ما يجري هو انتشار هذه العادات في المجتمع، وشيئًا فشيئًا تصبح تقليدًا وعرفًا اجتماعيًّا سائدًا، فيتورّط بها أغلب الناس، فإنْ جاروا الأغنياء في عاداتهم أُرهقوا، وإنْ نأوا بأنفسهم عن ذلك وقعوا في حرج اجتماعي. وأتذكّر في هذا الشأن أنّ أحد الأشخاص من ذوي الدخل المحدود كان يطلب قرضًا ماليًّا قدره 60 ألف ريال، ولما استفسرت عن مبرّر الاقتراض؟ أجاب: بأنّه يريد تغطية تكاليف زواج ابنته، متعلّلًا بضرورة الاستجابة للأعراف السّائدة في مسألة الزواج، واللّافت أنه لم يكن يملك ما يُسدّد به هذا القرض فيما بعد!.
إنّ الميسورين ماليًّا يتحمّلون جانبًا من المسؤولية في سنّ بعض العادات المرهقة. وهذا الأمر منبوذ شرعًا، متى كانت له انعكاسات سلبية على الآخرين، وقد ورد في هذا الشأن عن الحسين بن أبي العلا قال: "خرجنا إلى مكة نيفًا وعشرين رجلًا، فكنت أذبح لهم في كلّ منزل شاة، فلما أردت أن أدخل على أبي عبد الله (عليه السلام) قال: يا حسين، وتذلّ المؤمنين؟ قلت: أعوذ بالله من ذلك، فقال: بلغني أنّك كنت تذبح لهم في كلّ منزل شاة، فقلت: ما أردت إلّا الله، قال: أما علمت أنّ منهم من يحبّ أن يفعل مثل فعالك فلا يبلغ مقدرته فتقاصر إليه نفسه، قلت: أستغفر الله، ولا أعود"[9] .
وفي ذلك رسالة بالغة، مفادها أن لو كان الإنسان مقتدرًا على الإنفاق الباذخ في المناسبات الاجتماعية الخاصة، فإنّ عليه أن يفكّر أكثر من مرة في إمكانية أن يرسي بفعله ذاك عرفًا وتقليدًا اجتماعيًّا يتسبب في إحراج الآخرين، الذين سرعان ما سيجدون أنفسهم معنيين بفعل الشيء نفسه، دون مقدرة منهم، إلّا استجابة للضغط الاجتماعي.
نحن مطالبون بإعادة النظر في بعض عاداتنا المكلّفة، والإحجام عن الانسياق خلف السّائد منها، فليس صحيحًا أن يستدين المرء رغبة في إرضاء الناس، ودرء انتقادهم له، فليتكلّم الناس ما شاؤوا، سيّما وقد جرّت بعض العادات الاجتماعية مشاكل عائلية كبيرة، وكثيرًا ما بلغتنا مشاكل عائلية نتيجة عجز الزوج عن تلبية رغبة زوجته في شراء هدية باهظة الثمن، لتقدّمها إلى قريبتها أو صديقتها في مناسبة أو أخرى، وبذلك تتسبّب بعض هذه الأعراف بأضرار فادحة تصيب شبكة العلاقات والحياة العامة.