استلاب العقول بإسم الدين
﴿وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا ۖ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ﴾[سورة البقرة، الآية 148]
تمتلك المجتمعات الدينية رصيدًا كبيرًا من الوازع الديني، الذي يفترض أن يرفع مستوى الالتزام بالقيم والمبادئ فيها، ويجعلها أفضل مما سواها في انخفاض حالات المفاسد والجرائم والانحرافات. غير أنّ المجتمعات الدينية باعتبارها مجتمعات بشرية، ليست محصّنة عن المفاسد والمساوئ، ولعلّ أكبر خطر يمكن أن تتعرّض له هو خطر التحريف الديني، وقيام مراكز قوى تستفيد من التزييف والفهم السيئ للدين.
لقد تناولت آيات الذكر الحكيم مسألة انحراف المؤسّسات الدينية في المجتمعات السابقة، ليس من باب التنديد فقط، وإنّما للتحذير من الوقوع فيما وقعوا فيه، من الغفلة عن انحراف مؤسّساتهم الدينية، الأمر الذي قاد تلك المجتمعات للدّمار، فالقرآن الكريم يريد أن يُحذّر المسلمين ويحثّهم على اليقظة، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّـهِ﴾ [سورة التوبة، الآية:34]، وجاء في آية أخرى، قوله تعالى: ﴿وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ﴾ [سورة البقرة، الآية:213]، ويشير المفسّرون إلى أنّ مقصد الآية الكريمة هم العلماء الذين أوتوا الكتاب حصرًا، وهم الذين أحدثوا الفرقة والخلاف في مجتمعاتهم.
لذلك، يمكن القول إنّ المجتمعات الدينية الواعية هي التي تتمسّك بقيم الدين، أكثر من تمسّكها بالرموز والأشخاص. فالتمسّك بالدين لا يعني الخضوع للأشخاص والرموز وجعلها بمنزلة الدين؛ لأنّ الدين قيم ومبادئ، وليس للرموز والأشخاص قداسة إلّا بمقدار التزامها بتلك القيم وتقيّدها بتلك المبادئ، فمتى ما حدث تباين بين هذه الرموز وبين قيم الدين، فلا قداسة لها، وعلى المجتمع أن يرفضها، وإلّا فسيكون بمنزلة من يتّخذ إلهًا آخر، ويتعبّد بدين مختلف، من هنا جاء في الآية قوله تعالى: ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّـهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَـٰهًا وَاحِدًا ۖ لَّا إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ ۚ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾[سورة التوبة، الآية: 31].
إنّ التحريف الديني واتّباع رموزه هو أكبر خطر يمكن أن يواجه أيّ مجتمع. وأمّتنا الإسلامية كسائر الأمم ليست بمنأى عن هذا الخطر، فقد واجهت طوال تاريخها بروز من ينتسبون للدين والمنخرطين في المؤسّسة الدينية، لكنّهم ضالعون في التحريف الديني، كما في قوله تعالى: ﴿يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ﴾، وإذا كان هناك من بلاء خطير يواجه الأمّة اليوم، فهو ذلك المتمثّل في وجود جهات منتسبة إلى الدين، تستقطب أبناء الأمّة باسمه، وتزرع فيهم كلّ ما يخالف قيمه، وتدفعهم إلى تدمير مبادئه.
هذا الدّين الذي يدعو إلى العدل والإحسان، والتآلف والمحبة، جعلت منه هذه الفئات ساحة للعنف والإرهاب والاحتراب، إنّهم يتشبّثون بمظاهر التديّن، ويلتفون حول أسماء ورموز دينية، من قبيل "الدولة الإسلامية"، والخلافة الإسلامية، وشعارهم وعلمهم ترسم عليه الشهادتان، غير أنّهم تحت هذه الراية لا يرعوون عن انتهاك حرمة بيوت الله، وضرب شعائر الدين، من خلال ارتكاب التفجيرات الانتحارية، وقتل الأبرياء في المساجد، وآخرها ما جرى في الأسبوع الماضي من اعتداء على المصلين في مسجد الإمام الرضا في حيّ محاسن بالأحساء[1] ، ولولا العناية الإلهية، ووجود الحماية التي دفعت الأسوأ، لكانت الكارثة أعظم. فأيّ دينٍ هذا الذي يعتنقون؟ وكيف استلبت عقول هؤلاء ومسخت نفوسهم؟ وكيف لإنسان أن يرتكب هذه الفظائع باسم الدين؟
استلاب العقل
ومع التسليم بأنّ مواجهة الإرهاب والتطرف تحتاج إلى خطوات كثيرة، إلّا أنّنا نشير هنا إلى مسألة مهمّة، هي استلاب العقل باسم الدين. وهذه معضلة قد يبتلى بها أيّ متديّن، مع اختلاف درجة الابتلاء، إنّ ما نراه في هؤلاء الإرهابيين هو صورة مكبّرة لحالة استلاب العقول وتغييبها تمامًا باسم الدين، غير أنّ هذه الصورة يمكن أن تتجلّى بدرجة أو أخرى عند كثير من المتديّنين.
يُفترض في الإنسان المتديّن أن يعرف أنّ الدين مبادئ وقيم، ولا يصحّ له أن يتنازل عن شيء من تلك القيم والمبادئ؛ لأنّ فلانًا أمره، أو أفتى له، فهذا عين العبادة لهذا الشخص أو ذاك، وهو مصداق قوله تعالى: ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّـهِ﴾، ذلك أنّ طاعة أيّ أحدٍ فيما هو خارج عن قيم الدين ومبادئه، هو عبادة له. ومما روي في هذا الشأن، بعد نزول الآية الكريمة، أنّ عديَّ بن حاتم قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وفي عنقي صليب من ذهب، فقال لي: يا عديّ، اطرح هذا الوثن من عنقك! قال: فطرحته، ثم انتهيت إليه وهو يقرأ من سورة البراءة هذه الآية ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا﴾ حتى فرغ منها، قلت له: إنّا لسنا نعبدهم! فقال: أليس يُحرِّمون ما أحلّ الله فتحرّمونه، ويُحلّون ما حرّم الله فتستحلّونه، أجاب: بلى، فقال : فتلك عبادتهم[2] .
إنّ على الإنسان المتديّن أن يكون يقظًا، وأن تكون القيم الأساسية واضحة في ذهنه، حتى لا يستلب عقله على نحو أو آخر. يقول فولتير في هذا الشأن: "لا يعلم قسّيسونا شيئًا، سوى أنّنا سريعو التصديق لما يقولون"، وهذا أجلى معاني اتّخاذهم أربابًا من دون الله.
استحضار العقل
إنّ هناك نصوصًا دينية كثيرة تُشدّد على ألّا يغفل الإنسان المتديّن عن عقله وفطرته. وقد أوردت مصادر الحديث، عن وابطة بن معبد أنّ النبي قال له: "جئت تسألني عن البرّ والإثم؟ قال: نعم، فجمع أنامله فجعل ينكت بهنّ في صدري، ويقول: يا وابطة، استفتِ قلبك، واستفتِ نفسك، ثلاث مرّات، البرّ ما اطمأنّت إليه النفس، والإثم ما حاك في النفس وتردّد في الصدر، وإن أفتاك الناس وأفتوك"[3] .
نحن نؤمن بأنّ الحسن والقبح أمران عقليّان، وأنّ ما يحكم به العقل السّوي يحكم به الشرع، وينبغي أن نعرض ما يقوله لنا هذا أو ذاك على العقل السّوي والفطرة السليمة، لا على العواطف والأهواء. من هنا ورد التأكيد على مرجعية العقل، حتى لا يقع المسلم في فخ الاستلاب العقلي من قبل أيّ جهةٍ من الجهات، جاء عن رسول الله أنه قال: "دين المرء عقله، ومن لا عقل له لا دين له"[4] ، وفي حديث آخر عنه أنه قال: "إنّما يدرك الخير كلّه بالعقل ولا دين لمن لا عقل له"[5] ، وجاء عن أنس بن مالك، قال أثنى قوم على رجل عند رسول الله فقال: كيف عقله؟ قالوا: يا رسول الله، نخبرك عن اجتهاده في العبادة وأصناف الخير وتسألنا عن عقله؟ فقال : إنّ الأحمق يصيب بحمقه أعظم من فجور الفاجر، وإنّما يرتفع العُبّاد غدًا بالدرجات وينالون الزلفى من ربهم على قدر عقولهم"[6] ، وورد عنه : "إذا بلغكم عن رجل حسن حال فانظروا في حسن عقله، فإنّما يجازى بعقله"[7] ، ومضمون هذه النصوص ألّا معوّل على العبادة والتنسّك في ظلّ الحماقة وغياب العقل، وانعدام فهم القيم الدينية فهمًا صحيحًا، وإدراك الواقع إدراكًا دقيقًا.
وفي قصة لافتة وردت في نهج البلاغة، أنّ الحارث بن حوط جاء أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب قائلًا: "يا أمير المؤمنين، أتراني أظنّ أنّ أصحاب الجمل كانوا على ضلالة؟ فقال الإمام : "يَا حَارِثُ، إِنَّكَ نَظَرْتَ تَحْتَكَ وَلَمْ تَنْظُرْ فَوْقَكَ فَحِرْتَ، إِنَّكَ لَمْ تَعْرِفِ الْحَقَّ فَتَعْرِفَ مَنْ أَتَاهُ، وَلَمْ تَعْرِفِ الْبَاطِلَ فَتَعْرِفَ مَنْ أَتَاهُ"[8] . لقد استعظم الرجل أن يكون أصحاب الجمل على ضلال وفيهم شخصيّات كبيرة!!.
وورد عن المسيح عيسى بن مريم أنه قال: "خذوا الحقّ من أهل الباطل، ولا تأخذوا الباطل من أهل الحقّ، كونوا نقّاد الكلام، فكم من ضلالة زخرفت بآية من كتاب الله"[9] ، يجب أن يكون الإنسان واعيًا لا يقبل كلّ ما يعرض عليه، وإلّا وقع في فخ استلاب عقله، كما هو حال الفئات الإرهابية في صورة مكبّرة، بحيث يندفع الواحد منهم لقتل الأبرياء باسم الدّين، لكنّها الحالة ّذاتها يمكن أن تصيب أيّ متديّن بصيغ وأشكال مختلفة، على نحو تدفع البعض لانتهاك حرمات الناس باسم الدين، باغتياب هذا، وتسقيط ذاك، والنيل من آخر، فإنْ كان قتل الأبرياء جريمة كبيرة، فإنّ غيبة الناس وانتهاك حرماتهم وتسقيطهم هو الآخر جريمة أيضًا، ولا يفرق بينها سوى حجم الجريمة، فقد ورد عن رسول الله أنه قال: "كلّ المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه"[10] ، وبذلك ينبغي أن يجري رفض من يدعو باسم الدين للنيل من الآخرين، وانتهاك حرماتهم وأعراضهم، والإساءة لرموزهم، تمامًا كما يجري رفض من يدعو للاعتداء على أرواح الناس، فكلاهما ظلم وحرام.
خطر الحماس والاندفاع دون تعقّل
إنّ مما يؤسف عليه، غياب القيم الدينية، واحتجاب العقل، حينما تسود حالات الحماس والاندفاع، فيصبح الناس أتباعًا لهذا أو ذاك دون وعي منهم ولا إدراك. فقد نشأ هؤلاء الإرهابيون ضمن مجتمعاتنا المحافظة المتديّنة، كانوا يرتادون المساجد، وبعضهم يرتاد حلقات تحفيظ القرآن، فكيف يخرج من بينهم من يفجر بيوت الله، ويقتل المصلين الأبرياء في وسط المساجد ودور العبادة؟ ما الذي أصاب عقله؟ وما الذي مسخ نفسه؟ على نحو دفع أحد هؤلاء الإرهابيين في تنظيم "داعش" إلى قتل والدته أمام جمع من الناس في مدينة الرقة بشمال سوريا، لمجرّد أنّها نصحته بترك التنظيم، وأوردت وسائل الإعلام، أنّ الابن وشى بوالدته عند قيادات التنظيم فاعتبروها مرتدّة وحكم عليها بالقتل، وقام ولدها نفسه بإطلاق النار عليها أمام الناس[11] ، فأيّ دينٍ هذا؟، أوليس الدين يقول: ﴿وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَىٰ أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا ۖ وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا﴾، فالله سبحانه يدعو إلى مصاحبة الأبوين بالمعروف حتى لو دعياه إلى ترك الدين، والشرك بالله، وضغطوا عليه في هذا الاتّجاه، فيما يستجيب هذا الأخرق إلى أمر التنظيم بأن يقتل أمّه بنفسه.
وعلى غرار ذلك، ما حصل في المملكة، من إقدام بعض أفراد هذه الفئة على قتل آبائهم وأرحامهم، وكلّنا يتذكّر المقولة المؤلمة: "تكفى يا سعد" التي ناشد بها أحد الأبرياء ابن عمّه الداعشي ألّا يطلق النار عليه، وقد كان رفيق طفولته وزوج أخته، لكنه لم يرعوِ بل قتله بدم بارد، في منطقة نائية، تحت مزاعم ارتداده عن الدين، لمجرّد عمله ضمن القوات المسلّحة السعودية[12] ، وهذا غاية الاستلاب للعقول ومسخ النفوس.
إنّ مجتمعاتنا أحوج ما تكون للثقافة الواعية، التي تثير لدى الناس دفائن العقول، وتؤكّد محورية العقل والضمير في حياة الإنسان. أمّا إذا تركنا الحبل على الغارب لحالات الحماس والانفعال الديني، تحت شعارات الدين والتمسّك بالشعائر الدينية، فحينئذٍ سنكون في وادٍ آخر غير الوادي الذي أراده الدّين لنا، إنّنا ندعو إلى الاهتمام باستحضار العقل ضمن توجيهاتنا الدينية وحديثنا عن الدين، وأن نعرض كلّ ما بين أيدينا من الدعوات والآراء على القيم والمبادئ الدينية، مما يستطيع الإنسان إدراكه بفطرته النقية وعقله السوي، من حسن العدل وقبح الظلم، وقيمة الإحسان وقبح العدوان، فجميع هذه القيم ينبغي أن يستحضرها الإنسان المؤمن في حياته وسلوكه.
وننتهز الفرصة في هذا المقام لإدانة الاعتداء الإجرامي الذي جرى مؤخرًا وراح ضحيته اثنان من أفراد الشرطة كانا يقومان بواجبهما في حماية ممتلكات الناس في مدينة سيهات[13] ، فهذا عدوان وإجرام لا يمكن أن يقبل به إنسان، داعين الجهات الأمنية إلى بذل المزيد من الجهود في حماية الوطن، وحفظ أرواح المواطنين وممتلكاتهم وأماكن عبادتهم، وهي مهمّة صعبة في هذه الظروف الخطيرة التي يمرّ به الوطن، إلّا أنّ مجتمعنا ووطننا سيتغلّب عليها إن شاء الله، بالتكاتف والتآزر والوعي، والنفوس الواثقة المطمئنة.