لقاء الكنيستين واحترابنا المذهبي
﴿ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّـهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ ۗ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ﴾[سورة البقرة، الآية: 176]
أنزل الله تعالى الكتب، وبعث الرسالات السماوية، لهداية البشر إلى الحقّ، وجمعهم على الخير والصلاح. غير أنّ هناك مشكلة نابعة من طبيعة البشر، وهي الاختلاف في فهم الرسالات والكتب السماوية، وقد رافقت هذه المشكلة كلّ الأديان والرسالات، بل وكلّ المبادئ الوضعية أيضًا. ذلك أنّ الرسالة السماوية حينما تُوحى إلى النبي، فإنه يكون المكلّف بتفسير معاني رسالته، والتفاصيل المرتبطة بها، إلّا أنه حين يغيب النبي سرعان ما يدبّ الاختلاف إلى أتباعه، بشأن تفسير وفهم بعض جوانب الرسالة، كما يساهم اتساع رقعة الرسالة بشريًّا، والمغانم والإمكانات التي تتوفر عليها، نتيجة الانتصارات والإنجازات المتحققة، في تعقيد حالة الاختلاف بين أتباع النبي، الذين هم كسائر البشر عرضة للتنافس فيما بينهم، لذلك عرضت لكلّ الأديان ظاهرة التشعب إلى مذاهب ومدارس مختلفة داخل الدين الواحد.
ظاهرة تفرّع الأديان
يؤكّد القرآن الكريم على حقيقة الاختلاف الداخلي القائم بين أتباع الرسالات السماوية. قال تعالى: ﴿ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّـهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ ۗ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ﴾، مفردة الكتاب الواردة في الآية الكريمة، هل تشير إلى القرآن الكريم أم التوراة والإنجيل، سيّما وقد تناولت الآيات السابقة أهل الكتاب، أم أنّ المقصود بالكتاب هو جنس الكتاب السماوي، ولعلّه هو الأرجح. ووفقًا للآية الكريمة ﴿.. اللَّـهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ﴾ فالله سبحانه ينزل كتبه بالحق، غير أنّ منشأ الاختلاف فيها غالبًا ما يأتي من جانب أتباع الرسل، الذين تندلع بينهم الاختلافات في الفهم الديني، والأسوأ أنّ هذه الاختلافات غالبًا ما تتسم بالعمق وطول الأمد، وهذا ما تشير إليه الآية الكريمة ﴿.. وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ﴾، في إشارة إلى الصعوبة في تسوية الاختلافات الدينية؛ لما لها من ارتباط عميق بفكر الإنسان وروحه، وتشابك ذلك مع مصالحه الذاتية، ما يؤدي إلى إطالة أمد الاختلاف بين أتباع الديانات.
إنّ حالة الانقسام داخل الديانات والعقائد المختلفة تكاد تكون حالة عامة. ولعلّ هذا ما يفسّر انقسام اليهودية إلى عدة فرق، وكذلك الحال مع المسيحية والإسلام، كما لا تستثنى من ذلك الديانة البوذية القديمة، ولا الأديان حديثة النشأة كالديانة السيخية، التي نشأت في الهند في القرن الخامس عشر، على يد "ناناك" الذي استهدف إنشاء ديانة تكون وسطًا بين الهندوسية والإسلام، وبات يربو أتباعها اليوم على 13 مليون، غير أنّ هذه الديانة مع حداثتها، وقلّة أتباعها، لم تنجُ من الانقسام هي الأخرى، فقد تشعبت إلى خمس فرق. والحال نفسه ينطبق على المبادئ الوضعية من الماركسية والاشتراكية، التي أصبحت تنطوي على العديد من التوجّهات، فالشيوعية في الصين كانت تختلف عن نظيرتها في الاتحاد السوفييتي. وبذلك تُعَدّ ظاهرة اختلاف الأفهام والتفسيرات بين أتباع الديانات والمبادئ الوضعية ظاهرة عامة، قادت إلى تعدد المذاهب، ونشوء الفرق، وبروز المدارس.
وقد تتشعب الجماعة إلى اتجاهات مختلفة مع رحيل رمزها الأول، تمامًا كما يجري على أتباع المرجعيات الدينية مثلًا، التي يتوزع أتباعها إلى أكثر من اتجاه فور رحيل رمزها الأول.
ضمن هذا السياق يمكن فهم الحديث المروي عن النبي أنه قال: "تفرَّقَتِ اليهودُ على إحدى وسبعينَ فِرْقَةً، أوِ اثنتينِ وسبعينَ فِرْقَةً والنصارى مثلَ ذلِكَ، وتفْتَرِقُ أمتي على ثلاثٍ وسبعينَ فِرْقَةً"[1] ، مع الالتفات إلى أنّ هناك نقاشًا مفصّلًا حول هذا الحديث، الذي نقلته مصادر السنة والشيعة، لجهة المتن والسند، فضلًا عن صحة التطبيقات الخارجية له، كعدّ فرق اليهودية والمسيحية والإسلامية. إنّ من الوارد أن يكون رقم عدد الفرق إشارة إلى الكثرة، كما هو شائع عند العرب، وقصارى القول: إنّ حالة الانقسام داخل الديانات المختلفة هي أمر واقع لا مناص منه، ولا يمكن تجاوزه، شئنا أم أبينا.
التعددية وتنظيم العلاقات
هنا يأتي السؤال عن كيفية التعامل مع حالة الانقسام وتنوّع المذاهب والاتجاهات داخل الدين الواحد. إنّ ما يجري أحيانًا، هو بروز فئة متحجرة تصرّ على رفض الاعتراف بحالة التعدّد والتنوّع، وتُجهد نفسها في قسر الناس على مذهبها وطريقتها، وهذا سلوك أبعد ما يكون عن الواقعية والعقلانية. فإذا كان تعدد المذاهب والمدارس أمرًا واقعًا في حياة البشر، فإنّ المسار العقلاني والمنطقي هو التعايش، وقبول التعددية كظاهرة قائمة، كما يجري التعايش مع مختلف الظواهر الأخرى. وذلك يعني أن تظهر الأطراف المختلفة الاحترام المتبادل لبعضها بعضًا، والالتفاف حول المصالح المشتركة، فهذا ما يقضي به العقل والمنطق. غير أنّ المؤسف أنّ هناك من لا يهتدي لهذا الطريق، أو لا يريد السير فيه.
بين الكاثوليك والأورثوذكس
وقد شهد العالم مؤخّرًا حدثًا هامًّا على صعيد العلاقات الدينية المذهبية، تجسّد في لقاء رأسي الكنيستين الكاثوليكية الرومانية الغربية، والأورثوذكسية الشرقية، بعد خلاف مرير دام أكثر من ألف سنة، فقد شكّل الانقسام بين الكنيسيتين أكبر انشقاق شهدته المسيحية عبر تاريخها، الذي حدث سنة 1054 ميلادية، ومنذ ذلك الحين انقسمت المسيحية إلى الكنيسة الكاثوليكية الغربية التي يتبعها غالبية المسيحيين في العالم، بتعداد يفوق المليار ومائتي مليون من الأتباع، في مقابل الكنيسة الشرقية الأرثوذكسية وتعداد أتباعها يربو على 250 مليون، ولهذه الكنيسة بدورها عدة كنائس، أبرزها تلك الموجودة في العاصمة الروسية موسكو ويتبعها نحو 165 مليون شخص.
ويعود سبب الانقسام بين الكاثوليكية والأرثوذكسية إلى أسباب عقدية، إلى جانب التنافس على الزعامة بين الكنيستين، حيث ترفض الكنيسة الشرقية الخضوع للكنيسة الغربية، وتعتبر نفسها الممثل الحقيقي للكنيسة، بالنظر إلى انبثاق المسيحية في الشرق، أضف إلى ذلك من أسباب الخلاف، الاتّهامات المتبادلة بالتبشير لمذهب كلّ كنيسة في وسط أتباع الكنيسة الأخرى، الذي تشتكي منه الكنيسة الشرقية بقوة، حيث اشتدّت هذه الاتّهامات بعد سقوط الاتحاد السوفييتي. واللافت في الأمر أنّ ذات الأسباب الباعثة على التوتر بين الكنستين الكاثوليكية والأرثوذكسية، تكاد تتطابق مع أسباب التوتر بين المسلمين الشيعة والسنة، من حيث الخلاف العقدي، والتنافس على النفوذ، إلى جانب الشكوى من التبشير المذهبي المتبادل.
ورغم الصراع الطويل بين أتباع الكنيستين، إلّا أنّهم نأوا بأنفسهم عن حالة الاحتراب العنيف، وأقصى ما يمكن أن يقال على هذا الصعيد أنّ هناك "حربًا باردة" بين الطرفين. وقد كانت هناك مساعٍ جدّية نحو ترتيب لقاء مباشر بين رأسي الكنيستين، باءت جميعها بالفشل، إلى أن نجحت الجهود مؤخّرًا في ترتيب اللقاء الأول بينهما في العاصمة الكوبية هافانا، وذلك بعد نحو ألف سنة من الانفصال، وقد قضى زعيما الكنيستين لقاءً دام نحو الساعتين، ثم خرجا ببيان مشترك، يبشّران فيه بعلاقة جديدة أقرب للتعاون بينهما، وقد علّق رأس الكنيسة الكاثوليكية البابا فرانسيس قائلًا: "لقد التقينا أخيرًا، نحن إخوة، واضح أنّها إرادة الله"، فيما علّق رأس الكنيسة الشرقية البطريرك كيريل على اللقاء قائلًا: "الأمور أوضح الآن".
وما يلفت النظر أنّ أحد الطرفين يمثل الأكثرية المسيحية الغربية بتعداد يربو على المليار و200 مليون، فيما يمثل الآخر الأقلية بنحو 250 مليون من المسيحيين الشرقيين، إلّا أنّهما في نهاية المطاف التقيا واتفقا على عدد من الأمور، ومن أبرزها بحسب وكالة الأنباء الكاثوليكية، أمران:
الأول: الوقوف ضدّ الاضطهاد الذي يتعرّض له المسيحيون وخاصة في الشرق الأوسط، لجهة خطر الإبادة والتهجير، نتيجة الإرهاب والتطرف الذي أخذ عنوان الإسلام، ليطوي الطرفان صفحة الخلافات ويتفقا على توحيد الجهود في هذا الملف. الأمر الثاني، أن تتعاون الكنيستان المؤمنتان بالأخلاق التقليدية على ترسيخ هذه الأخلاق، في مقابل سيطرة الأخلاق الليبرالية التي تسود العالم.
درس بليغ
إنّ من الضروري أن يستلهم المسلمون الدروس من هذا التطور اللافت، في أعلى هرم المسيحية في العالم. ولعلّ أول هذه الدروس، أن نعلم أنّ هذا اللقاء الذي جمع رأسي الكنيستين، لم يكن ليأخذ مكانه لولا وجود عوامل خلقت حقائق جديدة على الأرض، فجاء اللقاء تتويجًا لهذا الواقع الجديد.
وكان من أبرز العوامل المساعدة تحييد السياسة عن الجانب المذهبي في تلك الدول، حيث أصبح التعامل بين الناس قائمًا على أساس المواطنة بالدرجة الأساس، بصرف النظر عن مذاهبهم، وقد ساهم هذا التحييد بدور كبير في تهيئة النفوس والعقول لعقد هذا التلاقي. وعلى النقيض من ذلك، ستكون إمكانية اللقاء صعبة، فيما لو كان الخلاف المذهبي مستحكمًا، يأخذ مفاعيله على الأرض من خلال التمييز بين أتباع المذاهب، مع انحياز هذه الدولة لأتباع هذا المذهب، وانحياز الأخرى لمذهب آخر، لتقوم كلّ دولة باستثمار المذهبية سياسيًّا في صراعها مع الأخرى. لقد تخلصت الشعوب الغربية من أعباء المذهبية، حين أصبح العامل السياسي محايدًا إلى حدٍّ كبير.
والعامل الثاني، هو اقتناع الشعوب الغربية بثقافة التعايش والتسامح وحقوق الإنسان، من خلال ترويج هذه الثقافة عبر التعليم، ووسائل الإعلام، والقوانين الناظمة، ما ساعد إلى حدٍّ كبير في تهيئة الأجواء لتجاوز الخلاف بين أتباع الكنائس المسيحية.
أما العامل الثالث فهو واقعية الاهتمام بالمصالح الحاضرة، فقد باتت تلك الشعوب تفكر في واقعها ومصالحها الراهنة بالدرجة الأولى، ولم تعد تقبل العيش في أجواء الاحترابات التأريخية، حيث بلغ الناس درجة من الوعي على نحو لم يعودوا يعبؤون بالخلافات المذهبية التاريخية، ويرفضون الانجرار لها، حتى لو جاء من يريد النبش فيها، وهذا تطور في غاية الأهمية.
إنّ مشكلتنا في الشرق، أنّ الناس لا يزالون يطربون للحالة المذهبية، ويتفاعلون معها. فمتى جاء أحد ونبش الخلافات التاريخية والعقدية بين أتباع هذا المذهب وذاك، فسيجد الأرضية جاهزة ومهيأة. وهذا أمر ملحوظ، فإذا كان هناك خطابان أحدهما يحدث الناس عن واقعهم ومصالحهم، ويحثهم على التنمية والتعاون والتعايش والتعليم والبناء، فيما يغرقهم الخطاب الآخر في التأجيج العقدي، المؤكد على الأحقية المذهبية، مقابل الآخر؛ المذهب الباطل، ناهيك عن كيل الاتّهامات للطرف الآخر، وتحميله المسؤولية عن مصائب العالم، فإنّ معظم الناس في مجتمعاتنا ستنساق خلف الخطاب الأخير، ومردّ ذلك إلى أنّ الأرضية جاهزة والنفوس مهيأة، على خلاف الجمهور في الدول الغربية الذي بات أبعد ما يكون عن هذه الحالة.
هل تلتقي مرجعيات المذاهب الإسلامية؟
انطلاقًا من هذا التطور الكبير في عالم المسيحية، هل لنا أن نطمح، أن تلتقي مرجعيّاتنا الإسلامية الكبرى من الشيعة والسنة؟، هل لنا أن نحلم بلقاءٍ تاريخي يجمع الزعماء الدينيين لمذاهبنا الإسلامية؟.
لقد مرّت أكثر من ألف سنة من الخلاف المرير بين السنة والشيعة، و قال كلّ طرف كلمته، وأفرغ ما في جعبته، فلم يستطع السنة تغيير الشيعة، ولا استطاع الشيعة تغير السنة، وليس بمقدور أيّ طرف ابادة الطرف الآخر، فإلى متى يستمر الصراع يا ترى؟.
لقد ضاعت مصالحنا، وحلّ الخراب بأوطاننا نتيجة هذا الخلاف المدمر، وصار الأعداء يشمتون بنا، فإلى متى نبقى غارقين في هذا الخلاف والاحتراب؟. إنّ مما لا شك فيه أنّ الأغلبية من المسلمين يتمنون في أنفسهم تجاوز حالة الاحتراب المذهبي، وبلوغ الوحدة الإسلامية، غير أنّ المشكلة أنهم يحصرون ذلك ضمن مربع التمنيات النفسية أو اللفظية في أحسن الأحوال، في حين لو فتش أيّ منهم في ممارساته وتصرفاته، لوجدها على النقيض تمامًا من تلك الأمنيات، الأمر الذي يشير إلى أنّ مسألة الوحدة والتعايش لم ترقَ بعد إلى مستوى القناعة الداخلية في النفوس، وإلى أن يتحقق ذلك، ستبقى أوطاننا وأمتنا تنزف دمًا ومعاناة وألمًا.
إنّ المطلوب من الجميع أن يفتشوا في ذواتهم، ويفحصوا مشاعرهم وسلوكهم، للنظر فيما إذا كانوا يطمحون بالفعل لتجاوز الحالة المتردية في الأمة أم لا، فإن كانوا يريدون ذلك، فليبدأوا بذواتهم أولًّا، وليهيئوا أنفسهم لتقبل حال جديد.