قوامة الرجل والحرية الفكرية للمرأة
﴿الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّـهُ بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ﴾[سورة النساء، الآية: 34]
هناك قيم أساس أرادها الله سبحانه وتعالى أن تحكم مسار العلاقات بين أبناء البشر، في مختلف الدوائر. ولعلّ من أبرز تلك القيم: قيمة العدل، فهي قيمة بالغة الأهمية، وقيمة احترام انسانية الإنسان وحفظ كرامته.
إنّ هناك دوائر مختلفة للعلاقات الإنسانية، تبدأ بالعائلة ثم المجتمع، ثم الوطن، ثم الأمة، وأخيرًا الدائرة الإنسانية.
ومن غير الخافي أنّ الدائرة الأكثر التصاقًا بالإنسان هي دائرة العائلة. فهي الدائرة الأولى التي يرى الفرد الضوء فيها، وينشأ في كنفها، ويتأثّر بها، وضمن هذه الدائرة يبدأ في تلمّس القيم العامة، وتعلّم الالتزام بها، فمتى ما نشأ في عائلة تحترم قيم العدالة والحرية والكرامة، وسائر حقوق الإنسان، فإنّه سيتربى على هذه القيم، وسيزعجه مخالفتها ضمن أيّ دائرة أخرى، وسيكون له موقف حاسم في حال مواجهته لأيِّ اعتداء على هذه القيم ضمن محيطه الاجتماعي. وعلى النقيض من ذلك إذا ما عاش الفرد أجواء القمع وانتهاك حقوقه الإنسانية ضمن محيطه العائلي، فإنّه سيتقبّل ذات الانتهاكات إذا مورست بحقّه ضمن محيطه الاجتماعي الأوسع، ولن يجد أدنى غرابة في خضوعه للقمع في المدرسة أو الشارع أو مكان العمل.
فالعائلة هي الدائرة الأساس التي ينبغي أن تتكرّس فيها القيم، وتتعزّز من خلالها سلوكيات الالتزام بها. ويمكن ملاحظة التزام المجتمعات المتحضّرة بتعزيز هذه القيم، ضمن المحيط العائلي، في المقام الأول؛ لإدراكها التامّ بأنّ انتهاك هذه القيم ضمن دائرة العائلة، سيجعلها منتهكة ومهدورة في باقي الدوائر والسّاحات.
التزام القيم في المحيط العائلي:
وهذا ما يمكن تلمّسه ضمن التعاليم الدينية، فالدين حينما يأمر بالعدل، فإنّه لا يأمر بذلك على مستوى الحالة السياسية أو الاجتماعية وحسب، وإنّما ضمن المحيط العائلي بالدرجة الأولى، وحينما يقرّر احترام كرامة الإنسان، فهو يقرّرها بدءًا من العائلة، ونجد أبرز تجلّيات ذلك في تكرار التأكيد على رعاية حدود الله لستّ مرات في آيتين قرآنيتين من سورة البقرة، تتناولان الشأن العائلي، قال تعالى: ﴿الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَن يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّـهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّـهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّـهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّـهِ فَأُولَـٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴿٢٢٩﴾ فَإِن طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىٰ تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِن طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يَتَرَاجَعَا إِن ظَنَّا أَن يُقِيمَا حُدُودَ اللَّـهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّـهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾، وقد جاء التأكيد على ﴿حُدُودُ اللَّـهِ﴾ لستّ مرات، بغرض التدليل على ضرورة أن تكون العائلة منطلقًا لرعاية الحدود، واحترام القيم، سواء في دائرة المجتمع، أم الوطن، أم الأمة، وصولًا إلى دائرة الأسرة الإنسانية.
ولو أخذنا مسألة إلقاء التحية باعتبارها مثلًا لتوضيح هذه الفكرة، من حيث تشجيع الدين على إفشاء تحية السلام، التي تتضمّن إعلان السلام والاطمئنان بين الناس، فسنجد أنّ هذه التحية التي يشجع الإسلام على إشاعتها كممارسة وخلق عام في المجتمع، يضع نقطة البداية لها في المنزل، قال تعالى: ﴿فَإِذَا دَخَلْتُم بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ اللَّـهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً﴾، وجاء في تفسير الآية عن النبي أنّه قال: "إذا دخل أحدكم بيته فليسلّم، فإنّه ينزله البركة وتؤنسه الملائكة"[1] ، أي أن يلتزم ربّ الأسرة وأفراد العائلة بإلقاء تحية الإسلام على بعضهم بعضًا عند دخول المنزل، حتى يتربّى الجميع على هذا الخلق.
وورد عن الإمام الباقر في تفسير الآية أنه قال: "هو تسليم الرجل على أهل البيت حين يدخل، ثم يردّون عليه، فهو سلامكم على أنفسكم"[2] .
العدل في العلاقات الأسرية:
وكذلك الحال مع قيمة العدالة، فحين يشدّد الدين على تحقيق العدالة على كلّ الصُّعد الاجتماعية والسياسية وفي العلاقات الدولية، فإنّ نقطة الانطلاق لتحقيقها يبدأ من العائلة أيضًا، قال تعالى: ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً﴾، فيما يرتبط بتعدّد الزوجات. كما ينسحب ذلك على التزام العدالة بين الأولاد والمساواة بينهم في المعاملة، فقد ورد عن أمير المؤمنين أنّه قال: "أظفر رسول الله رجلاً له ولدان فقبل أحدهما وترك الآخر، فقال له: فهلّا واسيت بينهما"[3] ، وجاء في حديث آخر عن رسول الله أنّه قال: "اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم"[4] ، إنّ معاناة الأبناء من التمييز داخل الأسرة، سيجعلهم يتقبّلون التمييز على الصّعيد الاجتماعي والسّياسي.
واستطرادًا ينبغي الوقوف عند الفهم الملتبّس لمسألة قوامة الرجل على الزوجة في المجتمعات المسلمة، انطلاقًا من الآية الكريمة ﴿الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ﴾. فهل تعني القوامة الإلغاء التامّ لشخصية المرأة كما قد يفهم البعض؟ وهل معنى ذلك أنْ تتنازل المرأة عن شخصيّتها وكيانها لصالح الرجل، على نحوٍ تكون فيه خاضعة للسلطة المطلقة للزوج في كلّ المجالات؟.
ينبغي أن نقول بوضوح، إنّ القوامة التي تفهم على هذا النحو لا يقرّها الدين، ولا يقيم لها الفقه الإسلامي وزنًا، لكنّ مجتمعاتنا كانت وما تزال ترزح تحت هيمنة الأعراف والتقاليد الذكورية التي لا يمتّ بعضها للدين بصلة، وما هو إلّا التكلف في تطويع النصوص الدينية بغرض إسباغ الشرعية على تلك الأعراف والتقاليد.
هل للرجل سلطة على زوجته؟
فهل للرجل أدنى سيطرة على معتقدات وأفكار زوجته؟ كلّا. حيث إنّ العلاقة بين الزوجين على الصّعيد الفكري كالعلاقة بين أيّ اثنين من الناس، فقد تختلف الزوجة مع زوجها عقديًّا أو فكريًّا، ولا سبيل له عليها إلّا محاولة اقناعها برأيه، أو الاقتناع برأيها، من خلال النقاش وتبادل الآراء، فإنْ لم تقتنع الزوجة بوجهة نظر زوجها، فلا يحقّ له إجبارها على النزول عند رأيه. وعلى غرار ذلك إذا كانت الزوجة كتابية مثلًا، بناءً على جواز زواج المسلم من الكتابية، لقوله تعالى: ﴿وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ ۖ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ﴾، فلا يحقّ للزوج أن يجبر زوجته الكتابية على اعتناق الإسلام، قال تعالى: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾، إنّنا بإزاء تشريع صارم يحمي حرية الإنسان الدينية والعقدية، فكون الرجل زوجًا وقوّامًا عليها، لا يعني تعطيل تلك القيمة الأساس؛ قيمة الحرية الدينية والفكرية، وتبعًا لذلك لا يجوز للزوج إجبار زوجته على اعتناق الإسلام، تمامًا كما لا يحقّ له إجبار أيّ أحدٍ آخر.
وينسحب ذلك أيضًا على الأزواج المختلفين مذهبيًّا، بناء على جواز الزواج بين المسلمين على اختلاف مذاهبهم. ولو كان أحد الزوجين من أتباع مذهب معيّن، والآخر من أتباع مذهبٍ آخر، فلا يجوز للزوج أن يجبر زوجته على ترك مذهبها واعتناق مذهبه، إنّ زواج الرجل من امرأة مختلفة عنه مذهبيًّا لا يعطيه الحقّ في تغيير مذهبها، أو فرض رأيه العقدي عليها، وكذلك الأمر حيال مختلف التوجّهات الفكرية والميول الدينية التي لا يجوز للزوج أن يفرضها على زوجته، أو يكرهها على اعتناقها بأيِّ حالٍ من الأحوال، وقد شهدنا في وقتٍ من الأوقات محاولات إجبار بعض الأزواج زوجاتهم على تقليد مرجع ديني دون غيره، الأمر الذي قاد بعضهم إلى الانفصال، نتيجة هذا الجهل المركّب بالدين.
ومما يذكر في هذا الشأن أنّ الإمامين زين العابدين والباقر كانت لهما زوجتان خارجيتان، وما طلّقاهما إلّا لإظهارهما التنقّص من عليّ وسبّه، وجاء في رواية عن الإمام الباقر قوله : "وقد أدرت الليل معها حتى أقنعها"، وعدا عن ذلك لم يكن ليأبه الإمام بأنْ يكون لامرأته رأي مختلف، فقد كانت جعدة بنت الأشعث زوجة للإمام الحسن ، وكان لها انتماء سياسي وعقدي مغاير للإمام ، ولم يكن الإمام ليقسرها على النزول عند رأيه.