استضعاف المرأة وانتهاك سلطتها المالية
﴿وَآَتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا﴾[سورة النساء، الآية: 4]
تمثّل سلطة الإنسان على أمواله وممتلكاته، أحد أهمّ تجلّيات الشعور بالذات وممارسة القدرة. ذلك لأنّ حبّ التملّك نزعة فطرية في نفس الإنسان، فإذا ما حاز على شيءٍ فإنّه يريد أن يشعر بالحرية التامة في التصرف فيه، ومن ثم يعتبر أيّ تعويق لهذه الحرية انتقاصًا لذاته، وانتهاكًا لحقّه. وتقوم كلّ الشرائع والأديان والنظم الاجتماعية على احترام سلطة الإنسان على ماله، يتصرف فيه كيف يشاء، وتجرّم التعدّي على أموال الغير، أو تعويقهم من التصرّف في أموالهم.
الناس مُسلّطون على أموالهم
إنّ هناك كثيرًا من النصوص الدينية التي تؤيّد المفهوم القاضي بحقّ الفرد حصرًا في التصرف بأمواله وممتلكاته. ومنها الحديث الوارد عن رسول الله أنه قال: "الناس مسلّطون على أموالهم"[1] ، ورغم أنّ هذا الحديث مرسل عند فقهاء الحديث من ناحية السند ، إلّا أنّه لقي قبولًا عند العلماء والفقهاء الذين عملوا به واستندوا إليه في مختلف أبواب الفقه، بل ارتقى إلى أن يكون قاعدة من القواعد الفقهية التي تتفرع عنها المسائل والأحكام.
وورد عنه أنه قال: "حرمَةُ مالِ المسلِمِ كَحُرْمَةِ دمِهِ" [2] ، وفي ذلك إشارة عميقة إلى قدسية الحقوق المالية الفردية، على نحو يساويها بحرمة الدماء، فكما أنّه لا يحقّ لأحدٍ التصرف بدماء الناس بأيّ صورة من الصور، فكذلك الحال مع أموالهم وممتلكاتهم.
وعنه : "لا يحلّ مال امرئ مسلم إلّا بطيب نفس منه"[3] .
وجاء عن الإمام جعفر الصادق أنّه قال: "إنّ لصاحب المال أن يعمل بماله ما شاء ما دام حيًّا، إن شاء وهبه، وإن شاء تصدّق به، وإن شاء تركه إلى أن يأتيه الموت"[4] ، ويؤكّد هذا النص سلطة الفرد وحقّه في التصرف بماله ما دام على قيد الحياة، حتى إذا ما توفي انتقل ذلك الحقّ إلى ورثته. وورد في رواية أخرى عنه أنه قال: "صاحب المال أحقّ بماله ما دام فيه شيء من الروح يضعه حيث شاء"[5] . وبذلك، تشكل سلطة الفرد على ماله وممتلكاته قاعدة عامة تجمع عليها الشرائع والأديان والقوانين.
وهنالك استثناءات يفقد فيها الفرد حقّ التصرف فيما يملك، لتنتقل معها صلاحية التصرف إلى غيره. كما لو كان المالك صغيرًا في السنّ، أو مجنونًا، أو غير راشد، فإنه يفقد بذلك حقّ التصرف في ماله، بل إنّ من الظلم إعطاء حقّ التصرف لمن كان هذا حاله؛ لأنّه سيبدّد أمواله هدرًا.
ويعالج المشرّعون هذه الحالات بتعيين الولاية على أمثال هؤلاء الأشخاص، ليكون للولي حقّ التصرف في المال، فيما يصبّ في مصلحة المولى عليه، فإذا كبر الصغير، أو شفي المجنون، أو صلح الفاقد للرشد، تنتقل له حينها صلاحية التصرف كاملة باعتباره صاحب المال الأصلي.
أهليّة المرأة
وإذا كان هذا الأمر يبدو في غاية الوضوح حيال أمر الأولاد الذكور، فماذا عنه حيال الفتيات والنساء؟، فهل للبنت حقّ التصرف في مالها حينما تكبر وتصبح بالغة عاقلة راشدة؟ أم أنّ هناك ولاية مستمرّة عليها؟ هناك مجتمعات لا ترى للمرأة صلاحية التصرف في أموالها، وإنّما تكون محصورة في الرجل القائم على شؤونها، أبًا أو زوجًا، ومردّ ذلك إلى النظرة الدونية تجاه المرأة، غير أنّ الإسلام يرفض هذا التسلط جملة وتفصيلًا.
إنّ الشريعة الإسلامية تقرّر على نحو قاطع بأنّ للمرأة، كما الرجل تمامًا، أهليّة التملك وحقّ التصرف في أموالها وممتلكاتها. ذلك أنّ الحديث الشريف: "الناس مسلّطون على أموالهم"، يصدق على المرأة تمامًا، باعتبارها جزءًا من الناس، وكذلك الحال مع الحديث الآخر: "لا يحلّ مال أمرئ مسلم إلّا بطيب نفس منه". وبذلك تكون المرأة كالرجل، لها استقلاليتها التامة في قرارها المالي، ووضعها الاقتصادي، كما لها حقّ التملك عبر مختلف الوسائل المتاحة، ومتى تملكت أصبحت المتصرف الوحيد بمالها وأملاكها، ولا ولاية لأحدٍ عليها، فالأب ليس وليًّا على ابنته في تصرفاتها المالية إذا كانت بالغة عاقلة راشدة، كما لا يحقّ له التصرف بشيء من مال ابنته إلّا بإذنها وموافقتها، فإن أجازت لأبيها التصرف، وإلّا فلا يجوز له ذلك، فهو في هذا الأمر كالأجنبي.
والحال نفسه ينطبق على الزوج، فلا قيمومة للرجل على زوجته في الشأن المالي. فهي صاحبة الملك أنى حازت عليه، سواء من خلال الإرث، أو المهر المعطى لها، قال تعالى: ﴿وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً ۚ فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَّرِيئًا﴾، والصداق الوارد في الآية الكريمة جاء بمعنى المهر، فإن أعطي للمرأة ﴿نِحْلَةً﴾ بمعنى هبة وعطية، فقد أصبحت صاحبة الحقّ المطلق فيه، إذا أعطت هي حقّ التصرف بمهرها لأيّ أحدٍ فله ذلك، وإلّا فلا. وهذا ما ينطبق على سائر الممتلكات الواقعة تحت يد المرأة، من إرث أو هدية، أو تجارة، فهو ملكها وتحت تصرفها وحدها، ولا يصحّ للزوج أن يتصرف في شيء من أموال زوجته إلّا بإذنها ورضاها. هذا ما أجمع عليه الفقهاء في كلّ المذاهب الإسلامية.
حقّ العمل والكسب للمرأة
للمرأة حقّ العمل والكسب كما الرجل تمامًا. وإذا كان هناك من تفصيل في هذا الشأن فهو ذاك المتعلق بعمل المرأة المتزوجة، وما إذا كان ينبغي لها أخذ الإذن من زوجها؟ والجواب على ذلك، أنّها لا تحتاج إلى إذن زوجها للعمل والتكسب، متى كان عملها من داخل بيتها، كأن يكون عملها من بُعد باستخدام الحاسب الآلي، والاستفادة من شبكة الإنترنت، كما بات معروفًا في سوق العمل، أو من خلال الكتابة ومراسلة الصحف، أو خياطة الملابس، أو النسيج، أو أعمال التجميل والمكياج، فلا سبيل له عليها في جميع ذلك. ومردّ ذلك إلى أنّ للزوج على زوجته حقّين فقط، هما حقّ الاستمتاع وحقّ المساكنة، وما دام عملها لا يتعارض مع هذين الحقّين فلا حاجة لها لاستئذان زوجها في العمل.
أما إذا كان عمل الزوجة يستلزم خروجها من البيت، فعندها ينبغي ألّا يتعارض مع حقّ المساكنة، وذلك بناءً على الرأي الفقهي القائل بعدم صحة خروج المرأة من بيت زوجها إلّا بإذنه، على اختلاف تفصيلي بين الفقهاء، حول ما إذا كان وجوب الاستئذان بالخروج على نحو الإطلاق، أم أنّ الوجوب لا يقع إلّا في حال زاحم خروجها حقّه في الاستمتاع، حيث يرى بعض الفقهاء بأنّ استئذان المرأة في الخروج من المنزل ليس واجبًا على نحو الإطلاق، ما دام لا يتعارض مع حقّ الاستمتاع، في حين يرى فقهاء آخرون عدم جواز خروج المرأة من البيت مطلقًا إلّا بإذن زوجها. وبناءً على الرأي الأخير، إذا أجاز لزوجته الخروج للعمل، أو كان ذلك مشروطًا في عقد الزواج، فإنّ الأجر الذي تحصل عليه لقاء عملها يكون حقّها وملكاً لها وحدها، ولا يصح للزوج أن يتصرف في شيءٍ منه إلّا بإذنها ورضاها.
النفقة حقّ ثابت للمرأة
إنّ حقّ النفقة ثابت للمرأة على الزوج في كلّ الأحوال، حتى لو كانت غنية غير محتاجة، وذلك بخلاف نفقة الرجل على والديه، التي لا تكون واجبة عليه إلّا إذا كان الوالدان محتاجين، وليست واجبة في حال كان الوالدان مقتدرين ماليًّا، وكذلك الحال بالنسبة لنفقة الأب على الأولاد، فهي غير واجبة إذا ما كان الأولاد مقتدرين ماليًّا. لكنه لا يسقط حقّ المرأة في النفقة أبدًا، فهو حقّ ثابت للمرأة في كلّ الأحوال، سواء كانت محتاجة لتلك النفقة، أم كانت ثرية غير محتاجة.
ابتزاز المرأة ماليًّا
المرأة هي صاحبة الحقّ والمتصرف الوحيد في أموالها وأملاكها. وليس من حقّ أحدٍ، لا أبًا ولا أخًا ولا زوجًا، التصرف في شيءٍ من أموال المرأة إلّا بإذنها ورضاها، وقد استخدم القرآن الكريم تعبيرًا دقيقًا في هذا الصدّد، قال تعالى: ﴿فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَّرِيئًا﴾، ويعني ذلك، أنّ الاستثناء الوحيد لأخذ شيءٍ من أموال المرأة، إذا كان ذلك عن طيب نفس منها، لا أن يجري الاستحواذ على مالها بالابتزاز، وممارسة الضغوط عليها، كما بات يجري في كثير من القضايا والحالات.
والاستحواذ على هذا النحو على مال المرأة، زوجة أو بنتًا أو أختًا، أمر غير جائز شرعًا، ومن ذلك ما يفعله بعض الآباء الذين يحرمون بناتهم العاملات من الزواج طمعًا في دخلهنّ، وقد نشرت إحدى الصحف السعودية قبل فترة عن امرأة لم يتسنَّ لها الزواج إلّا بعد وفاة أبيها، وقد بلغت الأربعين من العمر، وذلك لأنّ أباها درج على الاستحواذ على أجرها الشهري ولا يريد أن يخسر ذلك. ولطالما تحجج بعض الآباء في رفضهم لطالبي الزواج من بناتهم، بأنّ الخاطب إنّما يطلب يد ابنته طمعًا في مالها، والصحيح أنّ هذا الأب هو الطامع في أموال ابنته لا ذاك الخاطب، ويُعدّ تصرّف الأب هذا شكلًا من أشكال الجور المحرم شرعًا.
وتعجّ الصحافة المحلية بالتقارير والتحقيقات التي تتناول هذا النوع من القضايا، فما يزال هنالك أخوة يمنعون أخواتهم من استلام نصيبهنّ من إرث أبيهم استضعافًا لهنّ، ومما يفاقم ذلك انتشار ثقافة العيب حيال رفع القضايا أمام المحاكم، ومطالبة النساء بحقوقهنّ من إخوانهنّ، على اعتبار أنّ الدخول في مشاكل قضائية مع الأخوة لقاء حفنة من المال هو أمر معيب!، إضافة إلى الأعراف والتقاليد المحلية، حيث تبدو إجراءات التقاضي أمام المحاكم غير مشجّعة للمرأة في كثير من الأحيان، ما يؤدّي إلى ضياع وخسارة الحقوق.
وفي هذا الصدّد نشرت صحيفة المدينة في عددها ليوم 6 فبراير 2016 تحقيقًا لافتًا بعنوان: "جاهلية القرن الحادي والعشرين.. وأد ميراث النساء"، وتناولت الصحيفة عددًا من الدراسات الجامعية حول الموضوع، ومن ذلك ما أشارت له دراسة مصرية تقول إنّ 95 بالمئة من نساء الصعيد محرومات من الميراث، ولنا أن نتخيّل هذه النسبة الهائلة في مجتمع مسلم يعيش في هذا القرن، كما أثبتت الدراسة أنّ 38 بالمئة من النساء لا يطالبن بحقهنّ في الميراث، لمعرفتهنّ باستحالة حصولهن على هذا الحقّ!، في حين اعتبر 29 بالمئة من العينة الخاصة بالدراسة أنّ تقاليد وعادات العائلة تمنعهنّ من المطالبة بالميراث.
ويجدر الإشارة هنا إلى أنّ بعض الأزواج يستندون إلى بعض المرويات في تخويل أنفسهم حقّ التصرف بأموال زوجاتهم. ومن ذلك ما ورد: "أنْ ليس للمرأة أن تتصرف في مالها حتى في أمور البر إلّا بإذن زوجها"، إلّا أنّ هذه الرواية وأمثالها تتصادم وآيات قرآنية واضحة، كما تصادم نصوصًا قطعية من السنة النبوية، ناهيك عن مصادمتها لقواعد أساسية في الفقه، لذلك لا يمكن القبول بها. وقد حمل بعض الفقهاء الرواية على الاستحباب، بحيث يستحب للمرأة، وفق هذا الرأي، ألّا تنفق من أموالها في مختلف أوجه البر إلّا بإذن زوجها.
مساعدة الزوج
وحين ينصّ الحكم الشرعي على حقّ المرأة وحدها في التصرف بأموالها، فإنّ ذلك لا يعني نأيها عن دعم أسرتها. وخاصة إذا كان الزوج من محدودي الدخل، وذلك على قاعدة العشرة الحسنة والحياة المشتركة بينهما، وما عسى أن تفعل المرأة بالمال إذا لم تخدم به أسرتها، سيّما وأنّ بعض النساء يمارسن خطأً حقهنّ في التصرف بأموالهنّ، بتبديدها على التبضع وملاحقة صرعات الموضة واقتناء الكماليات، في الوقت الذي يعوز منزل أسرتها أشياء أساسية! وفي حين يمكن القول إنّه لا يجب على المرأة من الناحية الشرعية أن تنفق على أسرتها، ولكن ماذا عن الناحية الأخلاقية، وتأثير ذلك على حياة الأسرة؟ وفق هذه الاعتبارات ينبغي للمرأة صاحبة الدخل المالي أن تعين زوجها، وترفّه عن أسرتها؛ لأنّ قيمة المال تكمن في توفيره الراحة للإنسان ولمن حوله، وهذا الخطاب يعني المرأة المقتدرة كما يعني الرجل المقتدر، حيث ينبغي للمرأة أن تشارك مجتمعها وتساعد أسرتها، شريطة أن يكون جميع ذلك عن طيب نفس منها، وليس فرضًا عليها ولا ابتزازًا لها.
إنّ الوسط النسائي بحاجة إلى ثقافة واعية تدفع المرأة إلى وضع الأولويات حيال مسألة الإنفاق، على نحو تأخذ بعين الاعتبار الوضع العائلي وحاجة الأرحام ومساعدة المجتمع.